الجزء الأول ( السماوات و الأرض )
العلم الظاهر و العلم الباطن
العلم الظاهري ( الشهادة ) و العلم الباطني ( الغيب )
هذه مقدمة من أجل الدخول في تدبر ما ورد عن السماوات و الأرض في كتاب الله جل وعلا .
العلم هو ما يعلمه الإنسان و يتوصل إليه من علوم ,
الإنسان بشكل عام يعلم و يبحث و يكتشف بناءاً على الملموس و الظاهر , و يستنتج هذا العلم من خلال التجربة العملية الفعلية , و يبقى هذا العلم مرتبطا و موثقا من خلال المادة التي بين يديه , و لا يستطيع الجزم بما بطن من علوم , أي أن هذا الإنسان يتحتم عليه من إخضاع علمه للتجربة العملية من اجل إثبات هذا العلم ,
فكل غيب غير ملموس و غير ظاهر للإنسان يعتبر مجهولا لا يؤخذ به و لا يعتمد عليه و لا يعتبر علميا حتى يخضع للتجربة الفعلية العملية ليصبح ملموسا و ظاهرا له , و لهذا جميع العلوم النظرية تبقى غيبيه لا يعتمد عليها لحين تطبيقها عمليا , أي أن كل العلوم النظرية هي فلسفات علمية تبحث في أصل هذا العلم و أصل تلك المادة دون إثبات عملي تجريبي لأن تلك الأصول مجهولة و غيبية و غير ملموسة , بمعنى آخر يعتمد الإنسان على ما يشاهده و يلمسه عمليا و لا يستطيع الإحاطة بالغيب ,
و كل إنسان يختص في مجال علمٍ معين ليصبح عالماً إن أثبت صحة ما توصل إلية من خلال التجربة العملية , و يقتصر علم هذا العالم في مجال اختصاصه فقط .
أما الخالق جل و علا فهو العليم , أي أن علمه جل وعلا يحيط بكل شيء و بكل العلوم و كل المجالات , ليس هذا فحسب بل إن علمه سبحانه و تعالى يحيط بالعلم الملموس الظاهري , كما يحيط بالعلم المجهول الباطني , فهو سبحانه العليم و هو الظاهر و هو الباطن , و هو سبحانه أيضا عالم الغيب و الشهادة أي أن علمه محيط بما هو ملموس و ما هو غيب بالنسبة للبشر , لأنه لا وجود للغيب عند الله جل وعلا .
العلماء البشر و العلوم البشرية بشكل عام تبحث في ظواهر الأشياء لا في ماهيتها , لأن تلك الماهية مجهولة و غيبية , فيبحثون في تلك المادة و خصائصها من أجل الوصول لكيفية الاستفادة منها و في كيفية إخضاعها , أما أصل تلك المادة و أصل تلك العلوم فلا يوجد من إجابات شافية أو قاطعة , و تلك الإجابات لا أحد يعلمها إلا الله جل و علا , لأنه هو خالقها و يعلم مستقرها و مستودعها , فهل أخبرنا العليم الحكيم عن هذا العلم الباطني في كتابه المبين ؟
نعم بدون شك و بكل تأكيد ,
بل أن الغيب و هذا العلم الباطني و المجهول الذي لم نشاهده بعيننا و لم نلمسه بأيدينا هو إحدى ركائز الإيمان ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) 3 البقرة ,
و الأمور الغيبية كثيرة جدا , و لكن وجب علينا الإيمان بها , فالله جل وعلا غيب ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) 12 الملك , و الجنة غيب ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ) 61 مريم و النار غيب , و اليوم الآخر غيب و الملائكة غيب و قصص الأنبياء غيب ( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) 49 هود , و الكثير من الأمور الأخرى .
و في المقابل هناك غيب يستأثر به الله جل وعلا لذاته ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) 26 الجن , لا يعلمه إلا هو سبحانه و تعالى و نضرب مثلاً على هذا ( قيام الساعة ) و موعدها , فهذا العلم مقتصر على الله جل و علا , لا يعلمه إلا هو , فلا الإنس و لا الجن و لا الملائكة تعلمه ,
و هناك غيب لا يعلمه البشر و لكنه ليس غيبا على الملائكة , و نضرب مثلا على هذا ( الموت ) , فالإنسان لا يعلم ميعاد موته , و لكن ملائكة الموت تعلمه ,
فكل العلوم الغيبية متفاوتة , فبعضها لا يعلمها إلا الله جل و علا و لا أحد سواه , و بعض العلم يعلمه الملائكة و لا يعلمه البشر و لا الجان , و بعضه يعلمه البشر و لا تعلمه الملائكة و لا الجان , و بعضه يعلمها الجان و لا يعلمه البشر , فلا مخلوق يستطيع أن يحيط بكل تلك العلوم الغيبية , و يبقى الله جل وعلا وحده علّام الغيوب ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) 48 سبأ .
السؤال المطروح هو كيف لنا نحن من معرفة بعض الغيب الباطني فيما يخصنا كبشر مستفيدين من تلك العلوم ؟
فكما قلنا بأن كل النظريات العلمية التي تفسر ماهية الأشياء تبقى فلسفية , و تبقى مجرد كلام في فلسفة هذا العلم ما لم يثبت عمليا من خلال التجربة و البرهان ,
و لكن بالنسبة لكلام الله جل وعلا عن تلك العلوم الواردة لنا في كتابه الكريم فهي قطعية لا شك فيها بالنسبة لنا نحن , أي بالنسبة لمن آمن بما ورد للناس في هذا الكتاب ( القرآن ) , أما بالنسبة لغيرنا يبقى الوضع على حاله , و يبقى هذا القول من الفلسفيات لديه إلى أن يثبت لديه الأمر واقعا ملموسا و محسوسا لديه .
كل هذا القول بيّنه لنا العليم الحكيم في سورة الروم , و تحدث لنا عنه و أشار إليه من خلال تلك السورة , و لنتدبر هذا الجانب الوارد لنا في تلك السورة :
يقول جل وعلا فيها ( وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ) 6-8 الروم ,
الناس تعني كل الناس , فهم لا يعلمون إلا الظاهر لهم من علوم الدنيا , أي ما شاهدوه و لمسوه من خلال التجربة العملية , و يدعوهم الله جل وعلا للتفكر في أنفسهم أي في أصلهم و في طبيعة خلق الله جل وعلا للسماوات و الأرض و ما بينهما , فلم يفعلوا هذا و تجاهلوا تلك الأصول فانحازوا لظاهر الأشياء لا إلى ماهيتها , و النتيجة بأن كان أكثر الناس لا يعلمون .
ثم يخبرنا الله جل وعلا عن العلم الباطني الغير ظاهر للناس فقال ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ) 54 58 الروم ,
هنا يضرب الله لنا مثالاً على حقيقة و غيب مفهوم الموت , و ماذا يحدث للإنسان بعد موته , و هذا العلم الغيبي الباطني لم يعد غيبا بالنسبة لنا نحن بالذات , فقد علمنا و أيقنا من كلام الله جل وعلا و علمه الموجه لنا بأن الموت هو كالنوم تماما , لا يشعر الميت بشيء و لا يشعر بالوقت أو الزمن , و نفينا جملةً و تفصيلاً كل الإدعاءات و كل الخرافات التي تتحدث عن حياة القبر و عذابه و ثعابينه المرعبة , و بأن كل هذا هو مجرد إفك اخترعه البشر لأنهم مجرمون ,
فالمجرم هو من أجرم في حق نفسه أولا , و أجرم في حق غيره , هؤلاء المجرمون المؤتفِكون المنتظِرون حياة القبر بجحيمه أو بنعيمه , سيتفاجئون يوم البعث بأنهم لم يجدوا هذا الأمر ,
و يتساءلون مستغربين الأمر بأنهم لم يمكثوا في الموت غير ساعة , فيجيبهم الذين ( أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ) و المقصود من الذين أوتوا العلم و الإيمان هم من توصلوا لهذا العلم من خلال الإيمان لا من خلال التجربة و البرهان , فهذا العلم الباطني الغيبي قد توصلوا له من خلال كلام الله جل وعلا في كتابه الكريم و آمنوا و صدقوا به دون تجربة عملية أو فعلية تثبته ,
ثم يخبرنا جل وعلا بأن هذا المثل هو أحد الأمثال التي تتحدث عن تلك العلوم الغيبية و إمكانية التوصل لها من خلال كلام الله جل وعلا في كتابه الكريم , ثم يأتي التأكيد بأنه جل وعلا قد ضرب لنا في هذا القرآن من كل مثل , و يخبرنا سبحانه و تعالى بأن ما نتوصل إليه من علمٍ من خلال آياته سيرفضها هؤلاء المجرمون مدعين بأننا مبطلون للعلم الذي بين أيديهم , فأي علم نتوصل له من خلال آيات الله جل وعلا و كلامه سيتهموننا بأننا نخالف به العلم البشري ,
فأي حقٍ أحق أن يتبع ؟
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين