عوائق تحرير العقل المسلم

مولود مدي في الخميس ١١ - مايو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الأحادية .. رفض الأخر و اقصائه .. التكفير .. تقديس الأئمة و اجتهادات البشر .. الرضى بعقلية الأبائية  و التسليم دون نقاش .. الخلط بين الخلاف و العداء .. أصبحت هذه الأفكار جزءا لا يتجزأ من فكر العقل المسلم ..  كل هذه الأفكار هي نتاج فكر عصور الاضطراب و الانحطاط لأن في ذلك التاريخ تغلّبت العصبية و القبلية و التشدد الديني على صوت العقل و العلم .. و التاريخ الإسلامي باعتباره أحد تشكيلات العقل العربي المسلم، استطاع زرع عدة مفاهيم وسلوك وأخلاق تخالف العقلانية في التفكير وطرق البحث العلمي , في ذلك العصر ظهر الكهنوت الديني الاسلامي الذي زعم أنه لا يحق للعامة أن يخوضوا في مسائل الدين دون اذن الفقهاء, وعزز هذا الزعم أدلة حديثية مبتدعة مخالفة لتعاليم القرآن التي تقول أن لا كهنوت في الاسلام و التي تأمر الناس أجمعين دون تمييز بالتدبر في أحكام القرآن, فحدث تقديس الرجال والأخبار والأشياء ، وحدث حينما غاب العلم و ساد في الوسط الجهل والتخلف ، أي إن التقديس في أصله بضاعة أنتجها الجهل وعدم العلم, فتم تسفيه العقل و تحوّل الى وسيلة تؤدي الى ضلال صاحبه عوض أن يكون العقل سبيلا لمعرفة الحقيقة, وتم تكفير كل من يعمل عقله في مسائل الدين, وحرّمت كل العلوم العقلية مثل الفلسفة وشاعت بين المسلمين ثقافة " من تمنطق تزندق ", وبعد تكفير العقل و الرأي  والجام الناس عن البحث في أمور الفقه, جاء الدور على الأئمة المجتهدين و أصحاب " فقه المصالح ", فأغلق الاجتهاد بحجة اكتمال الشريعة و أن الشريعة كاملة و الاجتهاد يعني انتقاص من قيمة الشريعة و هذا كفر فأُطيح بالكثير من المفكرين وأصحاب الرأي ، وعُلق الكثير منهم على أعواد المشانق وصلبوا وما محنة الحلاج و ابي حنيفة وغيرهم ببعيدة ..

المشكلة الأولى التي تواجه عملية تحرير العقل المسلم هي فهم الدين.. بعد وفاة النبي لم يكن هناك اجبار أحد أن يفهم الدين بفهم شخص معين دون النبي أما تعدد فهم المسلمين للدين فقد ظهر في فترة تشكل المذاهب الاسلامية, أي حوالي في 70 هجري وظهر اختلاف في مفهوم السنّة النبوية, وقد يقول القارئ أن الفقه الاسلامي لم يقتصر فقط على الأئمة الأربعة بل وٌجِد الكثير من الفقهاء قبلهم, أنا أقول أن الفقه الاسلامي تعرّض لعملية " للانتقاء التاريخي " أي هناك ظروف ادت الى تغييب مذاهب و أراء فقهية بالكامل لأنها كانت تعارض مصالح السلطان و الفقهاء المقلّدون, لقد حدث الانحدار عندما توافقت السلطات الدينية والدنيوية على احتكار فهم نصوص الدين وتكفير وتبديع ومطاردة وتصفية أي فهم مختلف معارض, وتم قصر فهم كلام الله على فرقة وحيدة هي حليفة الحاكم ، ومن ثم أصبح الفهم ليس شأنا إنسانيا متفاوتا بين الأفراد حسب ثقافاتهم ، وإنما أصبح شأن السلطة والحكومة,  لذلك تم التنكيل عبر التاريخ بكافة الفرق التي حاولت إنتاج فهمها الخاص لدينها , لذا برز " ابن الشهاب الزهري " الفقيه السنّي وهو من الرواة والمدونين الأوائل للأحاديث أحد كهنة وشيوخ السلطان الأموي، وكان مرافقاً للسفّاح الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 هـ) , و كثرت فيه المطاعن وفي أمانته وانحيازه السياسي للسلطة الأموية، لكن له منزلة عجيبة عند علماء الحديث, لدرجة انهم كانوا يتطرفون في مدحه وتقديسه حتى اعتبروه في منزلة الصحابة لا يجوز التشكيك فيه أو في أمانته, وطال التغييب كل من سوّلت له نفسه معارضة السلطة و مخالفة الآراء الفقهية كـ'' واصل بن عطاء " الذي عارض " الحسن البصري " و شككوا حتى في من هم في المذهب السنّي فاتهم الحنابلة " أبو حنيفة النعمان " بالكفر وقالوا بأنه أستتيب بعد كفره, لذا فهم المسلم الحالي للإسلام هو فهم متأثر بالبيئة السياسية التي ظهرت فيها المذاهب الاسلامية, وبالتالي فهم المسلم للفقه لا يختلف عن فهم الذين عاشوا في القرن الأول و الثاني هجري, فخلط المسلم بين الدين و الفكر الديني .. فالدين هو ما جاء به النبي من قرأن و أفعال و أقوال كما أن القرآن ليس عبارة عن رأي شخصي للرسول أو فكره .. أما الفكر الديني فيتمثل في اجتهادات البشر من تفاسير للنصوص الدينية و طريقة فهمهم للشريعة و بالتالي الدين الاسلامي ليس عبارة عن " صحيح البخاري " أو رأي الأئمة الأربعة و ما شابه ذلك وهذا الفكر مرتبط بالزمان و المكان و قابل للأخذ و الرد و لا قداسة فيه مهما كان صاحب هذا الفكر.. لكن المسلم ذهب لتقدير الدين على حسب رأي الفقهاء فعوض أن يعرف الاسلام بالقرآن ذهب ليعرف الاسلام بالفقهاء, وجعل آرائهم بديلة للدين و الشريعة برفعها الى مستوى الدين و جعل كل من يخالف الأئمة الأربعة كمن يخالف الله.

 المشكلة الثانية التي تعيقٌ تحرير العقل المسلم, هي التقليد.. تغوٌّل التقليد في الفقه و شيوع تقليد السلف في كل شيء, فالفقه الاسلامي شهِد فترة قصيرة جدًا في مجال الاجتهاد, وما ان تكاثرت مصنَّفات الأحاديث النبوية و اختراع فريةَ الحديث هو المصدر الثاني للتشريع حتى حدث تدهور في الفقه الاسلامي و حكمه التقليد والإتباع وأفل فيها الاجتهاد والإبداع, فكانت ثمرة هذا التقليد تكاثر الحدود الشرعية بحيث كانت الحدود الشرعية الاسلامية في القرأن لا تزيد عن عدد أصابع اليد الواحد, أصبحت لا تعد ولا تحصى و الأدهى من ذلك تحوّل بعض الصراعات السياسية للصحابة في عصر الخلافة الراشدة الى حكم شرعي, فحروب أبي بكر ضد القبائل الممتنعة لدفع الزكاة لعدم اعترافها بالخليفة لأنها لم تحضرْ اجتماع السقيفة حكم عليها بالردة و اهدار دمِّها, فاخترع أهل التقليد حد الردة الذي يكون بالقتل قياسا على ما فعله أبو بكر و لا نزال ندفع ثمرة هذا التقليد الى الأن .. فأصبح الفقه الاسلامي عند أهل التقليد لا يعبر عن مصالح المسلم و انما يعبّر عم مصالح الصحابة الغابرين .. وكما قلنا أن شيوع تقليد السلف أثّر على العقل المسلم, فهذا التقليد هو احدى نتائج تقديس السلف و تحويل أفعالهم سواء السيئة مهما كثرت و الحسنة الى دين و شريعة  مما جعل انتقاد السلف يخرج صاحبه من دائرة الاسلام و يتم اتهامه بالقدح في الاسلام فمن يجرؤ على انتقاد " معاوية بن أبي سفيان " أو " خالد بن الوليد " " أو " البخاري " علنا ؟, وعندما توارث المسلمون هذا التقديس أصبحوا يتمنون العودة الى زمن السلف فيقلّدونهم في كل صغيرة و كبيرة متناسين أن الله خلق الناس مختلفين في أفهامهم و ألوانهم و لسانهم, و الانسان ليس حيوانا لا عقل له ولا منطق ليتبّع الأخر بحسناته و سيئاته اتباعا حرفيا فتحول الدين من رسالة عالمية موجّهة لجميع البشر الى وسيلة للقتل و القمع وتم أختزاله في الفتاوي و أقوال السلف , لذا السلفيون زعموا أن العودة الى أقوال و أفعال السلف كفيل بصنع المجتمع الأخلاقي متناسين أن المجتمع الأخلاقي لا يأتي الا بترسيخ التديّن العقلاني و ليس التدين التاريخي المبني على أفعال البشر الغابرين فالإنسان هو كائن ناقص غير منزه عن الخطأ لذا ما قاله أو فعله لا يصلح دائما لكل زمان أو مكان, لقد تناسى السلفيون أن الادعاء أن بتقليد السلف سنعود الى عصر المدينة الاسلامية الفاضلة – التي لم تتحقق أبدا – يعني تسليما ضمنيا بأن الاسلام هو دين جامد لا يتطور مرتبط فقط بمؤسسيه و بالبيئة التي ظهر فيها و هذا لا يعزز الا حجة اللاديني الذي يقول أن الدين هو منتج بشري و أن لكل دين علة و بهذه الفرضية يستنتج أن الدين ينقرض فور انقضاء العلة وبالتالي  لا مبرر لوجود الأديان, فتصبح تصرفات السلفيين ضارة بالإسلام أكثر من نافعة ففي كل مرة تصبح أفعالهم سببا في تدمير أنفسهم و في تشويه صورة الاسلام.

ثم أن أحادية الفقه الاسلامي وعدم اعترافه بالرأي الأخر أثرت في العقل المسلم بحيث أصبح المسلم لا يفرّق بين الخلاف و العداء, فيكون كل مخالف في الفكر و العقيدة بمثابة عدو و شرير يجب استئصاله, وهذا العامل الخطير هو ما ألغى الحوار و المناقشة بين أتباع مختلف المذاهب الاسلامية المنغلقين على أنفسهم فأثمر تشدد الأراء الفقهية التي قدّست الرجعية و أنتجت العصبيات الدينية و التخلف و في الأخير كان هذا العامل للأسف سببا في الاقتتال الفظيع بين السنّة و الشيعة و انتشار الفتن المذهبية فكان المسلمين معادين لأنفسهم أكثر من معاداتهم لغيرهم , وبسبب هذا الخلط اصبحت الأحاديث النبوية الموضوعة التي تنصر أتباع كل مذهب مبررا لعسكرة الدين و الفتك بالمخالف و توارث المسلمون هذه الأحاديث الملفقة عن طريق شيوخهم الذين يرددونها بحماقة في كل مرة .. ان خلط المسلم بين الخلاف و العداء أنتج مجتمعا مسلما منغلقا متشبّعا بالاعتقاد الذي يقول أن الأخر يسعى لتدميره في أي لحظة وهذا ما ضيّع على المسلم فرصة الانفتاح على الأخر و معرفة أفكاره و الاستفادة من تجاربه الناجحة , ان هذا الانغلاق ضيّع على المجتمع المسلم فرصة التنوع الفكري لأن اغلبية المسلمين لا يرضون بالاختلاف وهذا ليس خطأهم بل خطأ التربية الدينية التي كفّرت الاختلاف و المولعة بتصنيف الناس الى أبيض و أسود و كأنه لا مجال للنسبية في الفكر, فاذا انتقدت فكرة الخلافة الاسلامية سيتم اتهامك بأنك شيعي وان انتقدت السلفية التي تجسّم الذات الالهية لتم اتهامك بالجهمية و ان رفضت مبدأ تقديم النقل على العقل في تأويل النصوص القرأنية سيقولون أنه أنك من المعتزلة .. ففي الأخير نزعة التصنيف ألغت كل فرصة تبادل فكري بين المسلمين و غير المسلمين, ولولا هذا الانغلاق لمّا ظهرت الفتن المذهبية بين المسلمين ولم يكن لفقهاء الفتنة الذين يحرّضون على معاداة المخالف في الدين أن يكون لهم صوتا مسموعا ولم يكن للمقارنات على شاكلة " الاسلام و الاشتراكية " أو " الاسلام و العلمانية " أن تكون لها قيمة عند المسلم, وما كان للأزهر أن يصدر الفتاوي التي تحرّم شرب " البيبسي " عندما دخل لأول مرة مصر!, وفي رأيي الشخصي أنه لولا هذا الانغلاق لما حدثت صدمة الحداثة عند المسلمين و ذهولهم من مستوى الحضارة عند الغرب .. و طبقا لقاعدة نيوتن التي تقول أن لكل فعل رد فعل حصلت مقاومة عنيفة للذين دعوا الى الأخذ من الغرب في كيفية بناء حضارته وتم اطلاق مصطلحات " التغريب .. المد الغربي .. موجة الالحاد '' على أفكار الكتّاب العرب التنويرية أمثال " طه حسين " و الشيخ " على عبد الرازق " .. وبالتالي أصبحت الدعوة الى التقدم و الحضارة هي مؤامرة و الحاد .. فالتاريخ علّمنا أن التهديد الخارجي وخصوصاً عندما يكتسي شكل التحدي للذات المغلوبة  لمقومات وجودها وشخصيتها يجعل هذه الأخيرة تحتمي بالماضي تنتكص الى الوراء وتتثبت في مواقع خلفية للدفاع عن نفسها.

تحرير العقل من قيوده مرحلة متطورة من المسيرة لم تصلها أي أمة من الأمم إلا بشكل فردي كما هو الحال في الغرب اليوم أما في مجتمعاتنا في ذلك أمر ممنوع ويعتبر خطر كبير على فئات كثيرة سوف يضر ذلك بمصالحها وفي المقدمة رجال الدين الذين ترتبط قداستهم وامتيازاتهم ومكانتهم ببقاء غياب العقل, فاتهموا كل مصلح و مفكّر بفرية البعد عن تعاليم الله و سنّة رسوله, تحرير العقل مهمة جد شاقة في عالمنا الاسلامي, فالمسلم يضع ديانته معيارا للحكم على الأشياء, ورضي بتسليم عقله للأخر الذي يفكّر عوضا عنه, كما زاد الموروث الديني المشكلة تعقيدا من معضلة الأحاديث و الجدال حول مصدر التشريع في الاسلام و خلط المسلم السياسي بالعقائدي, فضلا عن اعتباره حرية الرأي و العقيدة و نسبية الحقيقة أمورا دخيلة على الاسلام لأنه لا يؤمن بالتواصل الحضاري بين المجتمعات متناسيا أن العلماء المسلمين الذين يفخر بهم هم امتداد للحضارات اليونانية و الفارسية " الكافرة ", اضافة الى أن المذاهب الاسلامية لا تزال تعيش في عصر الصراعات المذهبية و لا تزال تكفّر بعضها البعض لأبسط الخلافات في الفكر عوضا عن البحث في نقاط الالتقاء بينها لجمع شتات المسلمين لأن صراعات هذه المذاهب " لأتفه الأسباب " هي سبب فرقة المسلمين بالادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة.

اجمالي القراءات 9237