بين التشريع والقصص : بعض القصص يؤخذ من التشريع وليس العكس

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٧ - أبريل - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 مقدمة : بعض الناس يخلط بين التشريع والقصص . يتساءل عن قول قاله نبى فى قصة من القصص القرآنى ، أو فعل فعله ، ثم يجادل فيه على أنه تشريع . القصص القرآنى يأتى للعظة والعبرة . أما التشريع القرآنى فيأتى أمرا أو نهيا ، ومفروضا تنفيذه . عن العلاقة بين التشريع والقصص ، نقول :   

أولا :  التشريع لا يأتى من القصص :

1 ـ على سبيل المثال  ليس تشريعا أن يقول موسى عليه السلام لقومه: ( يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ )(54) البقرة  ) أو أن يقول يعقوب لبنيه (يَا بَنِي لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) (67) يوسف ) أو أن يدعو يوسف ربه فيقول : (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف )   القصص هو للعبرة والعظة وليس للتشريع.

2 ـ وبنفس  الطريقة نفهم قصة النبى سليمان مع ملكة سبأ ، وقصة موسى مع العبد الصالح ، وما قام به العبد الصالح من أعمال غريبة مثل قتل الغلام، وما قام به ذو القرنين ، وتحطيم ابراهيم عليه السلام للأصنام ..كل هذا وما يجرى مجراه هو مجرد قصص للعبرة والعظة وليس تشريعا لنا أو لغيرنا .

ثانيا : ـ  بعض القصص يأتى فى سياق التشريع :

قد يأتى فى سياق التشريع الاسلامى بعض إشارات الى أحداث تاريخية فى القصص القرآنى الخاص بالنبى محمد عليه السلام . أى وقعت حادثة فنزل تشريع يخصها ،وقد يكون تشريعا خاصا بزمانه ومكانه وقد يكون تشريعا عاما .  ويشير التشريع الى ظروف نزوله ، أى يشير الى قصص معاصر وقتها . ونعطى أمثلة :

 1 ـ  فى سورة النور ـ وهى من أوائل ما نزل فى المدينة ، وقت إزدحامها بالمهاجرين تأفّف المنافقون منهم ، بينما كان بعض الأنصار المؤمنين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة  . ولنا أن نتصور عطف بعض الأنصار على إمرأة مهاجرة ، وسكن مهاجر فى بيت أنصارى .كان ممكنا أن يتم تفسير هذا بحُسن النية لولا وجود المنافقين الذين يريدون إستغلال الوضع فى التشنيع . لذا انتشرت الشائعات تطارد المؤمنات العفيفات ، وهذا شرحناه فى كتابنا ( القرآن وكفى ) ننفى ان تكون لحادث الإفك علاقة بالسيدة عائشة . ولكن هذه الأرضية التاريخية التى نفهمها من سورة النور هى السبب فى نزول تشريعات جديدة حفلت بها هذه السورة ، من عقوبة الزانية والزانى والقاذف للمحصنات دون أن يأتى بأربعة شهود ، وتشريعات أخلاقية فى غض البصر والعفة وفى الحشمة فى الزى وزينة المرأة وفى الإستئذان ودخول البيوت والأكل والضيافة والتشجيع على نكاح الأيامى ( اى من لا زوج لها ) وعلى نكاح الفقراء من الجنسين ، المرأة الفقيرة والرجل الفقير حتى لو كان مملوكا . ثم فى فرضية حضور الشورى للجميع ليتم مناقشة المجتمع كل شىء علنا وبالشفافية حتى لا يكون هناك دور للشائعات والمؤامرات .

2 ـ  فى سورة الممتحنة ، وهى أيضا من أوائل ما نزل فى المدينة : حيث لم يكن المهاجرون قد تعودوا على المعيشة فيها وكانوا يقاسون من الغربة ( حُبُّ الوطن ) وقد تركوا خلفهم اهاليهم وآباءهم وأبناءهم . وفى نفس الوقت الذى كان فيه أهل مكة على عدائهم لمن هاجر منهم الى المدينة كان بعض المهاجرين يشعرون بالحنين اليهم بل وبعضهم يلقى اليهم بالمودة ويواليهم منحازا اليهم مقدما . وهذا وضع خطير لأن قريش كانت تهاجم المدينة فلا يصح مطلقا أن توالى وأن تنحاز الى عدو يهاجم بلدك وقومك ، ثم كانت هناك هجرات متتالية فردية من نساء . ويحتمل فى ظروف هذا العداء أن يكون من بينهن من جاءت للتجسس . ثم فى ظروف هذا العداء كان هناك زوجات مؤمنات تركن أزواجهن وهاجرن ، وكان هناك أزواج مؤمنون تركوا زوجاتهم وهاجروا ، ولم يعد ممكنا إستمرار الحياة الزوجية ، فلا بد من جعل هذا الانفصال الواقعى إنفصالا شرعيا حتى تتزوج المؤمنة فى المدينة وحتى تتزوح الكافرة فى مكة . ثم قيام دولة النبى الاسلامية فى المدينة كان بعقد ، أو ( بيعة ) وشمل هذا العقد أو تلك البيعة النساء. نزلت سورة الممتحنة بعد لوم المهاجرين الموالين لكفار مكة بتشريعات تضع قواعد فى التعامل مع الآخر المختلف فى العقيدة . إذا كان مسالما لم يقاتل المؤمنين المسالمين بسبب دينهم ولم يخرجهم من ديارهم ولم يؤيد من أخرجهم من ديارهم ـ هذا الصنف لا بد من التعامل معه بالبر والقسط . أما الذى أخرج المؤمنين المسالمين من ديارهم أو أيّد إخراجهم من ديارهم او قاتل المؤمنين المسالمين فيحرم موالاته والتحالف معه . وبالنسبة للمرأة المهاجرة لا بد من إمتحانها أمنيا ـ وليس إيمانيا . وبالنسبة للزوجات الكافرات فى مكة ، وبالنسبة للزوجات المؤمنات فى المدينة   فلابد من تطليقهن ، والكافر الذى يتزوج الكافرة المطلقة عليه أن يدفع صداقها للزوج المؤمن السابق ، والمؤمن الذى يتزوج المؤمنة المطلقة عليه أن يدفع الصداق لزوجها السابق الكافر. وسبق نشر مقال عن الولاء والبراء فى سورة الممتحنة . وفيها يتضح أن تشريعاتها لها أرضية تاريخية . بدون فهم هذه الأرضية التاريخية نسىء فهم التشريعات ، وهو ما يحدث الآن من تعيميم الفقه السُّنّى لقوله جل وعلا : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ).

3 ـ سورة البقرة ، فيها تشريعات كثيرة لها أرضية تاريخية . مثلا : نزل النهى عن إقراض الفقير بفائدة ربوية فى سورة مكية : ( الروم 38 : 39 ) . وفى المدينة إستمر بعض الصحابة الأثرياء فى إعطاء الفقير ديونا بفائدة ربوية بدلا من التصدق عليه فنزلت الآيات بتشريع يحرم هذا ويهدد من يفعله ( البقرة 275 : 281 ) .

4 ـ فى سورة الأحزاب :بناءا على واقع تاريخى نزل تشريع يحرم التبنى وفى تحريم الظهار ( الأحزاب 4 : 5 / 36 : 37 ) وهو تشريع عام تكررت تفصيلاته فى أوائل سورة المجادلة  . ثم تشريعات خاصة بوقتها ومكانها بالنسبة لأزواج النبى ( الأحزاب 28 : 34 ) ودخول الناس بيوت النبى وتعاملهم مع نساء النبى ( الأحزاب 35 : 55 ). وهناك فى السورة تشريعات عامة فيما يخص الزى للنساء  ( الأحزاب 59 )  

5: سورة الحجرات : ومن بدايتها الى نهايتها يتضح منها نزول تشريعات بسبب أرضية تاريخية ، منها تشريعات خاصة بزمانها ومكانها فى التعامل مع النبى بإحترامه وعدم رفع الصوت عليه ، ومنها تشريعات عامة تنهى عن المزايدة على تشريعات الرحمن ، والأمر بالتثبت عند سماع خبر ، والصلح بين المؤمنين إذا إقتتلوا ، مع تشريعات أخلاقية تنهى عن السخرية والتجسس والغيبة والهمز واللمز والتنابز بالألقاب .  

6 ـ الأمر بإجتناب الأوثان والأنصاب : أكثرية المؤمنين كانوا مسالمين ( يتمسكون بالاسلام السلوكى بمعنى السلام ) مع إحتفاظهم بعبادة الأوثان ، أى عدم تمسكهم بالاسلام القلبى وهو التسليم بالعبودية للخالق جل وعلا وحده . هؤلاء المسلمون المسالمون كانوا فى سلبيتهم يكرهون القتال الدفاعى ويوالون الكافرين الذين أخرجوهم من مكة الى المدينة ، والأفظع أنهم كانوا متمسكين بعبادة الأوثان فى المدينة متمتعين بالحرية المطلقة فى الدين التى أرساها رب العالمين بناءا على أنّ للدين يوما هو يوم الدين سيحاسب فيه رب العالمين الناس فى أمور عقيدتهم ومدى طاعتهم لربهم جل وعلا . نزل الأمر للمؤمنين بإجتناب الأوثان وهم فى بداية عهدهم بالمدينة . ( الحج 30 ) ، وظلوا عاكفين عليها فكان من أواخر ما نزل فى سورة المائدة تكرار نفس الأمر بإجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وأن ينتهوا عن ذلك وأنه ما على الرسول الا البلاغ المبين ( المائدة 90 ــ ). وتمسكوا بتقديم القرابين من الطعام والذبائح لتلك الأنصاب أو القبور المقدسة . ولا يزال المحمديون يفعلون ذلك خصوصا الصوفية والشيعة . ولهذا كان من الإعجاز القرآنى ذلك التكرار فى تعداد المحرمات من الطعام وأن منها ما أُهلّ لغير الله به ــ اى المذبوح قربانا للأوثان ـ والنّص على ذلك صراحة فى تفصيلات سورة المائدة ( آية 3 ) وهى من أواخر ما نزل من القرآن الكريم .

7 ــ : بعض تشريعات القتال جاءت تعلق على وقائع . فى البداية كانت قريش تواصل الهجوم على المؤمنين المسالمين فى المدينة قبل أن يأتى لهم الإذن بالدفاع عن انفسهم، فنزل لهم الإذن بالقتال الدفاعى ( الحج 39 : 40 ) وفى حيثياته إشارة الى تعرضه المؤمنين للهجوم الحربى ، وهى حقيقة تاريخية قرآنية مسكوت عنها من كتب السيرة .  ، ومنها تبرم المؤمنين المسالمين من فرض القتال عليهم وشكواهم منه:( البقرة  216 : 217 ) ( النساء 71 : 78 ) ، وحض النبى على تحريض المؤمنين المسالمين على القتال ( الانفال 65 ـ   ) ( النساء 84 ) والاستعداد الحربى لردع المعتدين حتى لا يعتدوا ( الانفال 60 ) ،. ومنها تسرع المقاتلين المؤمنين بقتل جنود الكفار المعتدين ، فنزل الأمر بحقن دم أحدهم إذا نطق بكلمة السلام، والتحريم واللعن لمن يقتل مؤمنا مسالما عمدا  ( النساء 92 : 94 ) . ويلحق بهذا تشريع الغنائم بعد موقعة بدر كما جاء فى سورة الانفال والتعامل مع الأسرى.

8 ـ مع المنافقين : تشريع الاعراض عن المنافقين وعدم أخذ زكاة مالية منهم وعدم الصلاة عليهم إذا ماتوا وعدم الاستغفار لهم وعدم قبولهم ضمن الجيش ،وعدم دخول مسجدهم الضرار . كل ذلك كان بناءا على تصرفاتهم المذكورة فى القرآن الكريم. وهذا ما حفلت به سورة التوبة من وقائع تاريخية وتشريعات مترتبة عليها . هناك أيضا تشريع النجوى والتفسح فى المجالس: ( المجادلة 7 : 13 ) وهذا من منافقى المدينة الذين تمتعوا بحرية مطلقة فى الدين وفى المعارضىة السياسية ( السلمية ).  ولكن كان هناك منافقون محاربون من الأعراب يتآمرون على المدينة يأتونها على انهم مسلمون ثم يهاجمونها بعد أن يتعرفوا على عوراتها ويرتبوا أمورهم مع المنافقين فى الداخل . ونزل بشأنهم تشريع بإلزامهم بالهجرة للمدينة وبحرب من يظل خارجها مخادعا متآمرا مهاجما حتى يكف عن عدوانه ( النساء 88 : 91 ).

9 ـ فى الهجرة : تكاسل بعض المؤمنين عن الهجرة الواجبة مع قدرتهم عليها ، فنزل بشأنهم تشريع ( النساء 97 : 100 ) ، وكانوا يتعرضون فى الهجرة الى مطاردة الكافرين المعتدين ، وكانوا أيضا يتعرضون لهجوم عليهم يمنعهم من الصلاة فنزل تشريع صلاة الخوف ( النساء 101 : 103 ).

10  : مع أهل الكتاب : النهى عن موالاة اليهود والنصارى الذى جاء فى سورة المائدة ( 51 : 58 ) هو تشريع يشير الى حروب ــ مسكوت عنها ــ إعتدى فيها أهل الكتاب على المؤمنين ، وبالتالى لا يجوز موالاة المعتدين على المؤمنين المسالمين . ونزل تشريع أخذ الجزية منهم بعد هزيمتهم عقابا لهم وجزاءا على عدوانهم ( التوبة 29 )

أخيرا :

1 ـ للقصص القرآنى منهجه فى التركيز على الوعظ وتجاهل الأسماء والزمان والمكان ، ويسرى هذا على القصص الذى يأتى فى سياق التشريع .

2 ـ ابن اسحاق ــ أول من كتب السيرة من دماغه ــ تجاهل كثيرا من القصص القرآنى . وبالتالى فهناك حقائق تاريخية قرآنية أغفلها ابن اسحاق ومن جاء بعده .

3 ـ خطأ آخر وقع فيه من يقول بأسباب النزول ، وبها يسىء فهم تشريعات القرآن ومنها ما هو خاص بزمانه ومكانه لا يمكن أن يتكرر ، ومنه ما يمكن تكراره . وبالتالى فإن حصر التشريع فى أسباب النزول بحيث لا تتعداها الى العصور اللاحقة خطأ فادح .

وهناك قضايا أخرى نؤجلها الى كتابنا القادم ـ بعون الله جل وعلا ـ عن التشريع الاسلامى .

اجمالي القراءات 8873