أربعة أيام في المستشفىَ
هزيمة السرطان في الجولة الأولىَ !
في الأول من شهر يناير كانت أشعة مقطعية تبحث في جسدي عن سلامة الأمعاء، فوجدتها سليمة لكنها اكتشفت في الكلىَ اليُمنىَ ورما سرطانيا كان مختبئًا في أمان دون أن يُشعرني بألم كأنه لص يتخفى إلى حين موعد الإغارة بعد فوات الأوان.
في الأول من فبراير أبلغتني الطبيبة في المستشفىَ أنه سرطان مثل 60% من حالات المرض غير المرئي التي تُظهرها مصادفة البحث عن مرض آخر.
في 7 فبراير قضيت اليوم كله في المستشفىَ هنا في أوسلو استعدادًا لاجراء العملية الجراحية في اليوم التالي، ولكن شاء الله أن أًصاب بنصف أنفلونزا مع سعال شديد مما استدعىَ الأطباء إلى ارسالي للبيت وتأجيل العملية خمسة أسابيع.
في 14 مارس عدت إلى المستشفىَ للتحضير لعملية اليوم التالي.
جراحان ماهران مع طبيب التخدير وكتيبة من الممرضات كأن الجميع يشحذ أسلحته، كل في تخصصه، لهجوم مضاد على المرض الذي يخيف اسمُه أشجع الفرسان.
السرطان لا يمزح أو يبتسم أو يضحك أو يُشفق عليك، فإذا جاء دخل من حيث لا تدري. مصّاص دماء يُدَرْكـِـل غاراته.
كل الأمراض تخدعك بلفتة مودة، إلا السرطان فهو قبيح ينمو، ويكبر، وينتظر اللحظة المناسبة ليبدأ الهجوم المباغت.
المستشىفى والعناية والنظافة والأجهزة والأطباء والمساعدون والممرضات خلية نحل تصنع لك العسل، ولا تلدغك! تعالجك بالابتسامة قبل كل الأدوية فتقتنع بأن يوم العملية هو عيد الحب، وأن مشرط الجراح لا يؤلم؛ إنما يبدع ويرسم ويلوّن ثم يطبع في النهاية قُبلة على الجرح.
كأن كل العاملين والعاملات في خدمتي، ليلا ونهارًا، صبحا ومساءً، إذا استدعيت ممرضة جاءتك فراشات تطير أمامك شعورهن الشقراء والسمراء كما تفعل نسمة هواء في حرير يطير ويسقط على الوجه ولا يحجب الابتسامة.
أكثر من عشرين ممرضة في الأيام الأربعة ، وكل واحدة توحي إليك أنك مريضها المُفضّل، وأنك في حمايتها قبل الأطباء.
الطبيب ودود قبل العملية، وصديق خلالها، وأخ بعدها، فإذا تحدث معك فقد عالج نصف المرض، ويجب أن تلاحظ أن كل المرضى أمراء تُلبىَ طلباتهم قبل أن يقوم المريض من مكانه، وملوك قبل أن يرتد لأي منهم طرفه.
في غرفتك معك المستشفى كلها، إذا ارتفع الضغط أو السكر أو هبط أو نقص فيتامين أو هجرك النوم فستجد من تجلس بجانب فراشك تتحدث إليك حديثـًـا شافيا كأنك على وشك الخروج من المستشفى مع عروس في عُمر أصغر بناتك.
في الصباح كانت احداهن تطير بالسرير في ردهات المستشفى إلى غرفة العمليات ثم استقبلني طبيب التخدير مع أسئلة متبادلة للتأكد أنني أعرف لماذا أدخل هنا، وماذا أتوقع، فالخطأ غير مغفور في هذه الأمور.
ثم غرفة العمليات واستقبلتني عيون خمس ممرضات يُعوض بريقها الابتسامة المختفية خلف قناع أخضر .
كانت النظافة سيدة العملية برمتها، وخرجت منها برأي يقيني أن الله يقبل صلوات الناس في المستشفيات الطاهرة والنظيفة أسرع من قبولها في المساجد والكنائس والمعابد.
كل خطوة محسوب الطهارة والنظافة فيها قبل وبعد العملية، وفراشك للملائكة فقط ، وخلاصة الاقامة أنك في أمانة الأيدي الأمينة، فإذا نظر لك ملك الموت بإيعاز من السرطان، تراجع فورا أمام العناية والطهارة والنظافة والكفاءة، فكل رداء أبيض أو أخضر يعرف مكانه ويشرق وجهه وهو يفتح باب الغرفة للمرة المئة ليستفسر عن حالتك وراحتك.
بعض المستشفيات خُلقت للعلاج، وبعضها للسعادة، فيخجل ملك الموت ويخرج من الغرفة فورًا.
ساعتان استغرقت العملية، وأزيل السرطان الملتصق بالكلىَ اليُمنى بمنظار عبر خمس فتحات فضلا عن السادسة لخروج الدماء، وكنتُ أعلم عن احتمال عملية فتح بطن في حالة التعقيدات أو إزالة الكلَــىَ اليُمنىَ كاملة في حالة مضاعفة التعقيدات.
أعادوني برفق إلى الغرفة مع خراطيم وثقوب ومحاليل وأشياء تُرفع وأخرى تنخفض. العملية استغرقت ساعتين وعدت إلى الغرفة بعد سبع ساعات.
تم ارسال الورم السرطاني إلى المعمل للتأكد من طيبته أو خبثه، حميد فيتركني أو خبيث فيعاود الإغارة في وقت لاحق. كل هذا سيكتشفه التحليل المختبري في خلال شهر أو أكثر من الآن.
أربعة أيام في مستشفى خمسة نجوم، وعناية سبعة، ومتابعة عشرة نجوم.
في المستشفى لا يطلبون منك المغادرة حتى لو بدا أنك شفيت، فأنت صاحب القرار في راحتك وهم أصحاب القرار في علاجك وابلاغك بالشفاء.
صباح اليوم زارني أحد الجراحيّن وهما نرويجي من أصلل عراقي كردي، والثاني نرويجي وهو مسؤول العملية. وسُمح لي بالمغادرة على أن أعود بعد شهر والتأكد من نوعية السرطان. الجراحان كانا على درجة عالية من المهارة والكفاءة والخبرة فتغمض عينيك وتعطي الجراح جسدك ومفتاحه ولا تغلق خلية واحدة منه.
كل اجرءات العملية من ألفها إلى يائها، من مشرطها إلى قناعها، من الاقامة إلى الراحة لم أسدد فيها قرشا واحدًا، فالدولة هي الأم والأب، والزوج والزوجة، والابن والابنة حتى سيارة الأجرة في العودة إلى البيت على نفقة الحكومة الخادمة للشعب .
تلك هي حكايتي في الأيام الأربعة الماضية أو الشهرين ونصف الشهر منذ اكتشاف المرض. وهذا أول مقال لي بعد" الخروج من الجنة"!
وقبل كل شيء وبعده، وقبل نطفة الحياة ودود الموت، وقبل نفخة الروح وغيابها أو استمرارها إلى حين، تبقىَ رعاية الله، جلّ شأنه، وأنا رأيت نور الله ويده ورعايته، فعدت إلى البيت ونجحت المرحلة الأولى من العملية الجراحية، قبل الغارة القادمة أو انسحاب السرطان إلى غير رجعة!
معركة الحُب والمرض!
تابعت في اليومين الماضيين الشفاءَ الثاني؛ أي تعليقات وتمنيات وردود الأصدقاء، فتسللت من بين حروف أكثرها لأجد نفسي أمام قصائد حُب تنقل فيسبوكي من العالم الافتراضي إلى عالم حقيقي. بعيدًا عن السياسة والدين والهموم الوطنية والأخبار اليومية إلى أجمل العوالم التي من أجلها خلق اللهُ السموات والأرض والإنس والجن.
لم تكن أكثرها أدعية وتمنيات إلكترونية صماء، إنما روحانيات تصعد إلى السماء فتأخذ التصديق منها، ثم تهبط إلى الأرض وتدخل صفحتي.
لو كنتُ طبيبًا وجاءني مريض فلن أسأله عن مرضه، لكنني سأطلب منه أن يأخذ جرعة حُب، ومعها رشفة سعادة، ثم يتجرع يقين المساواة بين البشر، ثم يضع الإنسانية قبل الدين والمذهب والوطن وفي النهاية يعتنق التسامح دين الأديان ولا يغادر دينه أو عقيدته.
صيدلية من الكلمات دونما حاجة لطبيب عجّلت في بعض شفائي، فالكلمة سحر، وبعض الكلمات تبتسم حروفها لكَ كأنها تحتضنك، وبعض الأسماء تعانقك حتى لو لم يرك أصحابها، فإذا وقعت عيناك عليها فقد دخلت في المنطقة الآمنة من الحياة.
تجربة السرطان اختبارٌ في سنة أولىَ إيمان، فهذا المرض لا يهاجم قبل أن يتربص كامنًـا، ويُخفي وجهه القبيح، ويترك الناس يخادعون أنفسهم فيطلقون عليه الورم أو المرض الخبيث خشية النُطق باسمه الحقيقي.
جولة واحدة أو جولات متعددة، وهزائم وانتصارات من الطرفين، وأنا بإذن الله المنتصر ولو هُزمت؛ فمعي الحب والقلم وهما أمضىَ الأسلحة وأقواها.
تخطيت السبعين، وزارني السرطان، لكن الحياة لم تبدأ بعد، ومعاركها جزء من حلوها ومُرها، والجنود المجهولون في صفي أكثر عددًا وبأسًا من بشاعة المرض.
أشعر بأنني شُفيت حتى لو لم أشف بعد.
شكرًا جزيلا لكل من خطّ حرفا واحد، أو لم يخطّ، وتمنىَ لي السلامة.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 19 مارس 2017