"أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ"

الشيخ احمد درامى في الجمعة ١٧ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

"أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ" 

شاع في البيئة العربية، منذ الجاهلية إلى الآن (ربما بنسبة أقل)، أن من حق الرجل إذا تزوج بنتا وجامعها ولم يجد فيها البكارة، أن يشبع منها أربه كما يشاء، ثم يطلقها ويسترد ماله.

لقد حارب القرآن هذه الظاهرة الشنيعة ونهى عنها في المجتمع الإسلامي. وذلك لسببين:

1-  (أتأخذه بهتانا وإثما مبينا؟)أي أ تأخذه قاذفا إياها بالزنا، وأنت لا تدري بأي ظروف فقدت بكارتها؟! (إن كنت صادقا فيما قلت). أ بمرض فقدتها أو باغتصاب؟ فتظل آنذاك بريئة وطاهرة عند الله؟ ! أ تتهمها بهتانا؟… هذا من جهة،

2-  ومن جهة ثانية، فكيف تسترد مالك وفقد انتهزت الفرصة وضاجعتها أكثر من مرة؟ عارفا أنك ستسترد مالك anyway، علىكل حال، ثم تتخلص منها وتنكح غيرها؟!

وكان ذلك وما زال ظلما وإثما مبينا في حق المرأة.

وأميل إلى الاعتقاد أن قضية البكارة هي التي كانت أرضية طلاق زيد عروسه صبحية زفافها. حيث أنه قضى منها وطرا إثر مضاجعتها. بمعنى أنهي منها حاجته واشمأز، وأجفي منها وانفر، ولم يعد يرغب فيها لسبب فجائي يوحي بفقدها البكارة، كما بات ذلك شائعا في المجتمع العربي؛ وزيد كان حديث العهد بالجاهلية. وسبب طلاق عروسه أمر فجاني غامض ولم يكن قائما قبل الزفاف.

ونلفت النظر أن الآية التي تنهى عن هذه الظاهرة الشنيعة في القرآن لم تكن قد نزلت بعد (ونزلت في سورة النساء، بعد الممتحنة التي تلت الأحزاب)

فلما قضى زيد منها وطرا؛ أي فلما لم تعد له حاجة بها بعد "الدخول" وطلقها غداة الزفاف، جاء للنبي ص. أمر من ربه ألا تنفضح البنت أبدا في بيت النبوة ! وأن عليه (كالنبي) أن يحارب تلك العادة السيئة في المجتمع الإسلامي.

وهكذا أمر النبي (في الرؤيا، أعتقد، إذ لا نرى الآية في الكتاب) أن إذا لم يتراجع زيد عن قراره، ولم يوجد له أخ يرغب في الزواج بالمطلقة، فليتزوجها هو (النبي)، لضرورة تفادي افتضاح البنت وأسرتها. وأن بصفته نبيهم، يتعين عليه ان يعطي مثالا يُحتذى به. كي لا يكون للناس حرج في أزواج أدعيائهم وغيرهم من أفراد اسرتهم إذا قضوا منهن وطرا ورغبوا عنهن. ما عدا حلائل أبناء الصلب.

بمعنى إذا رغب أخ عن عروسه وطلقها تلو الزفاف، يعرض لخيه أخذها بالتراضي؛ لعلتين: كي لا يضيع المال المصروف فيها، من جهة، (علما أنه يصعب استيراده)، ولتفادي فضح البنت وأهلها، من جهة ثانية.

وأسرة البنت، في مثل هذا الموقف، تفضل الأبدال على العار الذي يشيع عادة كلما طُلقت عروس مباشرة تلو الزفاف. وبما أن بيوت العرب كانت مغلقة منيعة، فممكن ألا يعلم الناس مَن مِن الإخوة زوج مَن إلا بعد حين.

لقد فزع النبي من مغبة هذا الزواج الذي فرض عليه إن حصل. فلذلك حمل على زيد يحاوره يعظه ويناشده على التراجع عن قراره التي لا مبررة له شرعا، قائلا له بالتكرار: "أمسك عليك زوجك واتق الله!" ولا تفضحها!مخفيا في نفسه تلك "الفجيعة" التي فرضت عليه إذا لم يتراجع زيد… وذلك بخلاف ما ذهب إليه التفسير والسيرة من أن النبي ص كان يبطن ويخفى في نفسه عشق زوجة ابنه المتبنى زيد ! حاشا !

وفي قول النبي لزيد (...واتق الله) ما يوحي أن زيد هو الذي نال في حق زوجته وليس العكس، كما زعم في كتب التفاسير من أن الزوجة هي التي رغبت عن زيد ونفرت منه. ولو كان الأمر كذلك، فعبارة (واتق الله) توجه إلى الزوجة، وليس إلى زيد.

لقد تزوج النبي بزينب طليق زيد سنة خمس هجرية، وعمره آنذاك 58 سنة، وتحته خمس زوجات. وكان ص عاجزا عن تلبية رغبات زوجاتها في العشرة الزوجية. إذ أنه كان يقضي نهاره كإمام وقاض وقائد الجماعة؛ يستقبل الوفود، ويحل الخصام، ويقعد الزواج، ويفتي الناس ويعلمهم. وفي الليل كان عليه أن يقيم الليل إلا قليلا، ويستيقظ عند الفجر ليؤم الناس. ولم يبق له من الوقت لزوجاته الخمس إلا قليل.

وكان قد تزوج بهذه الزوجات كثيرة لا رغبة في النساء (وهو مسنّ)، لكن لإرضاء هذه القبيلة وتلك ؛ إذ كل قبيلة كانت تأمل أن يتزوج منها. تماما كما اضطر بالمصاهرة مع كل من خلفائه الأربعة: إذ لما أخذ بنت أبي بكر عائشة، أخذ بنت عمر ابن الخطاب حفصة؛ وأتى لكل من عثمان وعليّ ابنة من بناتها. وهكذا أرضى كل واحد منهم.

ورجل في 58 من العمر وتحته خمس زوجات او ست، وهو عاجز عن إرضائهن في العشرة فكيف يرغب في مزيد!؟ إنما تزوج بطليقة زيد لأمر في نفسه وفّاه، إنه لذو علم لما علمه ربه ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

فهكذا كانت حياته مع زوجاته في سنواته الأخيرة؛ حتى ثرن عليه مشتكين عدم اتساع وقته لهن. فتدخّل ربنا لحل الخصام قائلا لهن ما مفاده: إن هذا الرجل ينقصه الوقت؛لأن لديه جدول أعمال حافل، إذ لم يبق من عمره إلا قليل؛ وعليه أن يقيم للمسلمين دولة قبل أن يغادر… وهكذا أتى الله لزوجات النبي الخيار بين البقاء معه أو مفارقته. وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا.وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا.) فكان الخيار لهن.

بالمناسبة، أفهم من هذه الآية، جواز تزوج من غدرته من زوجاته مع غيره. وإلا فما الفائدة في الخيار؟!

 

إن فرض الإسلام إبقاء المطلقة في بيتها "ثلاثة أشهر" بعد طلاقها كرامة للمرأة. إذ ظن الكثير (في هذه الحادثة) أن زيد قد طلق زوجه بعد ثلاثة أشهر مرت من زواجها لسبب أو آخر مقبول؛ ولو علم الناس أنه قد طلقها مباشرة صبحية الزفاف فلن يخفى السبب إذن على أحد.

 يقول جل وعلا:(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ "أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ". وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ (من أمر الله) مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (بعد انقضاء العدة)؛ وَتَخْشَى النَّاسَ(وما عليك بما سيقولون؟)وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ (أي بل الله اخشن بس.) فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا (وانتهى منها حاجته وانفر) زَوَّجْنَاكَهَا. لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا (إذا رغبوا عنهن ولم تعد لهم حاجة بهن) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.)[الأحزاب: 37].

 ما فرط النبي قط في خشية ربه. وهذه الجملة (وتخشى الناس. والله أحق أن تخشاه) ليست لوما ولا عتابا عليه؛ وإنما هي نصيحة وطمأنة له في محنته تلك. أي ولا تخش مما سيقوله الناس. بل الله اخش. وذلك هو الأولى. إذ أنه ص. كان يريد الجمع، في هذا الأمر العويص، بين طاعة ربه وتجنب "العار".

وهذه الآية وامثالها (وهن كثيرة) يضل بها كثير (ممن في قلوبهم زيغ) ويهدي بها كثير (ممن يظنون بالمؤمنين خيرا) (لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ (أي ببعضهم بعضا، كجسد واحد) خَيْرًا؟! وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ!؟)؟! فما لا ترضيه لنفسك فكيه ترضيه لأخيك المسلم؟!

ما كان من الممكن بيان ما حدث دون فضح البنت. لذا كتم النبي وزيد والبنت السر حتى ارتحلوا به، رغم شدة الوطأة عليهم. (مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا!)

(فلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا.). نشعر في تعبير "زوجناكها" قسرا عليه. فتحمل النبي في سبيل ذلك الزواج كثيرا من هجوم المنافقين عليه وطعنهم فيه، عليه صلاة وسلام.

وكانت العلة الممكنة إعلانها للناس دون فضح البنت هي (لكيلا يكون للناس حرج في أزواج أدعياءهم إذا قضوا منهن وطرا) صحيح. ذلك وهو سبب تزوج النبي بالمطلقة. لكن المسكوت عنه هو السبب الذي جعل زيد يطلق زوجته بعد الزفاف.

لقد ظن الناس أن زيد طلق زوجها زينب بنت جحش بعد حين، بعد ثلاثة أشهر؛ لكن الحقيقة هي أن العدة هي التي دامت ثلاثة أشهر وهي في البيت الزوجية؛ أما الطلاق فإنه وقع قبل ذلك بأشهر. وطيلة تلك الفترة كلها، ظل النبي يحاور زيد ويناشده على التراجع عن قراره قائلا له بالتكرار: "أمسك عليك زوجك واتق الله!" ولا تفضحها! كي ينجو هو مما سيعتبره المجتمع عارا عليه؛ وهو زواج طليقة ابنه المتبني.

لو خطى النبي خطوة من النصح إلى الإرغام لأطاعه زيد؛ لكن لتكون الحياة الزوجية إذن جهيما لهما على سواء. لذا اكتفى بالتحريض والوعظ لزيد (علما بأن الآية التي تحكم في ذلك من سورة النساء لم تكن قد نزلت بعد).

في الحقيقة لم ينه القرآن العريس عن طلاق عروسه التي جامعها وأشبع منها وطره وارتوى، ولكن ينهاه، بكل الصرامة، عن استرجاع ماله بعد ما أشبع منها اربه، أي بالتعبير القرآني بعد ما (أفضى بعضهم إلى بعض).

والآن، عند ما لم يعد أحد يتضرر بإفشاء الحقيقة، يجوز التنبؤ بها بشبه اليقين؛ لكن دون جزم.

وما ألجأني إلى هذه التحليلات العقلية، والتكهنات الاجتماعية إلا عجزي عن تقبل ما وردت في التفسير السيرة من الروايات حول هذه الواقعة. واستبعادي أطروحتهم، ولم أستطع أن أنزل النبي ص. هذا المنزل الذي أنزله فيه السيرة الموروثة. فقلت في نفسي أن لا شك أن للواقعة تفسير آخر يجب البحث عنه. وذلك ما قمت به

فإن ضللت فإنما أضل على نفسي، (وأستغفر الله منه)، وإن اهتديت فبفضل الله علام الغيوب، ولا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء. وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.

 

والله، سبحانه وتعالى، أعلم.

اجمالي القراءات 13584