خضوع الفقهاءالسنيين لدين التصوف السُّنّى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٠ - مارس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

خضوع الفقهاءالسنيين لدين التصوف السُّنّى

كتاب  : نشأة  وتطور أديان المسلمين الأرضية

الباب الأول : الأرضية التاريخية عن نشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية

الفصل الخامس : تسيد دين التصوف السنى فى العصر المملوكى

( 648 ـ 921 ) ( 1250 ـ 1517 )

 

خضوع الفقهاءالسنيين لدين التصوف السُّنّى

أثر التصوف السُّنى فى تنوع الفقهاء بين التصوف والسُّنّة

أصناف شيوخ التصوف السنى :

ولقد أسفر دين التصوف السنى عن كتابة تراث مختلط متنوع ، بعضه ينتسب للتصوف فقط وآخر ينتمى للفقه فقط وثالث يجمع بينهما. هذا التراث ملأ مكتبة بغداد التى  دمرها المغول سنة 658 ، ثم أعاد العصر المملوكى كتابة ذلك التراث والزيادة عليه وشرحه وتلخيصه والتعليق عليه.

الباحث فى هذا التراث لا بد له أولا أن يفهم الفوارق الأساسية بين أديان السنة والتشيع والتصوف ومصطلحات وعقائد وأدبيات كل منها قبل وبعد العصر المملوكى ، مع فهم كامل للخلفيات السياسية والاجتماعية لتلك الفترة الزمنية لأنها التربة التى نبتت وازدهرت فيها الحياة الدينية الواقعية للمسلمين ودينهم العملى وهو ( التصوف السنى ).

من يبحث كتب الحديث والعقائد والفقه العادى النظرى والفقه الوعظى بدون ذلك الفهم لا بد أن تصيبه نعمة الجهل التى يتحلى بها الشيوخ فى الأزهر والباحثون الأفندية المترفون السطحيون المتفرنجون .

ولتوضيح الأمر لدى الباحثين الجادّين فى التراث والعقائد الدينية للمسلمين فان أعلام التصوف السنى من الفقهاء و الصوفية ينقسمون الى فئات أربع حسب تاريخهم وتراثهم المكتوب :

1 ـ صوفية فقهاء: أى هم صوفية فى الأصل ولكنهم تخصصوا فى الفقه وبرزوا فيه ، وإنصبّ تراثهم وتاريخهم فى الدفاع عن التصوف وربطه بدين السنة ، وقدهاجموا صعاليك الصوفية فى عهدهم لسحب البساط من تحت أقدام الفقهاء السنيين المنكرين عليهم وحتى ينحصر الانكار على بعض الصوفية دون مساس بدين التصوف نفسه. بدأ هذا على استحياء بالقشيرى المتوفى (465 ) ثم توسع فيه الغزالى ( ت 505 ) وتزعمه الشعرانى 973 فى العصرين المملوكى والعثمانى.

2ـ فقهاء صوفية: وهم معظم القضاة ومعظم المؤرخين وعلماء الحديث والفقه الذين عملوا فى المؤسسات الصوفية ودانوا بالعقيدة الصوفية بدرجات متفاوتة دون نقد لعقائد التصوف تأثرا بالتقليد ووفقا لقاعدة هذا ما وجدنا عليه آباءنا. والأمثلة كثيرة من ابن الحاج العبدرى 737 والذهبى 748 و السبكى 771 وابن خلدون 808 والمقريزى 845 وأبى المحاسن 874 وابن حجر 852 والعينى 855والسخاوى المؤرخ المحدث 902  والسيوطى ت 911 وزكريا الأنصارى رفيق السيوطى.

3 ـ  صوفية فقط : يجمع بينهم كراهية الفقه المعبر عن دين السنة وفى المقابل كانوا يؤمنون  بعقائدهم الصوفية من وحدة الوجود ( الاعتقاد بأن الله تعالى هو نفسه المخلوقات والمادة ) والاتحاد بالله تعالى و الحلول فيه وادعاء الالوهية. وكان العصر يسمح لهم بذلك اذا قالوها فى صورة شعرية أو بزعم الشطحات وغيبة العقل والوجد و" الحال الصوفى ". وكان أتباعهم يكتبون فيهم المدائح والمناقب ويؤلفون فى حقهم الكرامات .

أولئك الصوفية كانوا أنواعا شتى  :

* نوع تبحر فى التصوف النظرى الفلسفى وقواعده ، مثل أبى  مدين الغوث التلمسانى 594 و ابن عربى 638 وابن الفارض 632 و عبد الحق ابن سبعين 667  وعفيف الدين التلمسانى 690 والقاشانى 735 وابن عطاء السكندرى وعبد الكريم الجيلى وزروق الفاسى. كانوا قلة مالبث أن اختفت عندما عمّ الجهل وتسيد التصوف العملى القائم على انتشار الطرق الصوفية ودخول العوام فيها.

* نوع تخصص فى التصوف العملى بانشاء الطرق الصوفية وجمع الأتباع لأغراض سياسية أو دنيوية . والى هذا الصنف ينتمى كبار الأولياء الأولياء المقدسين حتى الآن مثل أحمد الرفاعى 578 واحمد البدوى 675  وابراهيم الدسوقى 676 وأبو الحسن الشاذلى 656 ومحمد وفا 765 .. الخ

* ومنهم من كان مدعيا للجنون أو ( مجذوب ) أى ـــ بزعمهم ــ جذب الله تعالى نفسه ليجلس فى الحضرة الالهية يينما يبقى جسده فى الأرض. ومنهم من زعم العلم اللدنى الالهى ــ وكان يفخر بأنه لا يقرأ ولا يكتب مثل الحنفى والفرغل والمنوفى و الخواص والدشطوطى. كانوا يتحدثون بالعلم اللدنى يقولون جهلا مركبا وخرافات ، ولكن كان أتباعهم يكتبون فى مناقبهم وكراماتهم كتبا خاصة مثل ( مناقب القطب الأمثل سيدى محمد الفرغل ) واسم (فرغلى)  المنتشر فى صعيد مصر منسوب الى هذا الولى الأمى الموجود ضريحه فى صعيد مصر وهو يحظى بالتقديس حتى الآن  ، و ( السّر الصفى فى مناقب سيدى الحنفى ) تأليف الشيخ البتنونى  و ( مناقب سيدى المنوفى ) لابن اسحاق خليل المالكى.

والشعرانى كتب فى مناقب أولئك الأولياء الصوفية الأميين ، وأضفى عليهم صفات الألوهية ، وهم كثيرون فى الجزء الثانى من كتابه ( الطبقات الكبرى ) . بل ونقل عن شيخه ( الخواص ) الكثير ، منها ما كان فى عقائد التصوف ومنه ما كان فى ( التفسير ) ، وكان يتعامل مع ما ينقله عن شيخه الخواص يالتقديس يعتبره مثل القرآن الكريم . وظهر فى العصر المملوكى ( البرجى ــ المماليك البرجية ) نوع جديد من الكتابة التاريخية الصوفية ، هو كتب المزارات . إعتاد المصريون والقادمون لمصر زيارة قبور الأولياء تبركا بها ، وكانت هذه السياحة الدينية تجارة زاهرة ، ويكفى أن الرحالة الذين زاروا مصر المملوكية سجلوا زيارتتهم لمقابرها مثل ابن بطوطة وابن ظهيرة . ولأنها أصبحت صناعة فقد إحترف بعضهم مهنة ( المرشد السياحى ) أو ( مشايخ الزيارة ) تخصصوا فى معرفة طرقات القرافة وإرشاد الزوار للقبور المشهورة وأن يحكى للزوار كرامات أصحاب تلك القبور ، وصار لبعض القبور تخصص فى الكرامات . وبعض مشايخ الزيارة كتب فى هذه النوعية( كتب المزارات )  ، يصف معالم القرافة ومناقب الأولياء وكراماتهم المزعومة المشهورة ، والتى كانت فى العصر المملوكى التى كانت كالدليل السياحى لمن يزور الترب ومقابر الأولياء، ويعطى تاريخا لبعض الأولياء الموتى وكراماتهم، كما فعل ابن الزيات  814 فى كتابه ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة ) والسخاوى الصوفى 900فى كتابه ( تحفة الأحباب ).أو يجمعونهم فى تراجم عامة مثلما فعل الشعرانى فى ترجمة مشاهير الأولياء فى ( الطبقات الكبرى) و ( الطبقات الصغرى )، وعلى مثاله كتب المناوى 1031 طبقاته الكبرى والصغرى.

4 ـ فقهاء فقط ، وكلهم حنابلة .

مثل ابن الجوزى 597 ابن تيمية 728 وابن القيم الجوزية 751 وابن كثير774  ثم البقاعى 885. هؤلاء رفضوا عقائد التصوف الصريحة مثل الاتحاد ووحدة الوجود والحلول ، كما لم يذعنوا لقيم التصوف الداعية الى عدم الاعتراض، لذا أحيوا الانكار الحنبلى القديم . إلا أنهم انكروا فقط على شيوخ التصوف المعاصرين لهم مع الاحترام للصوفية السابقين والتسليم بدين التصوف نفسه منخدعين بمقالة الجنيد سيد الطائفة الصوفية الذى ربط التصوف بالسنة.

هؤلاء الفقهاء الحنابلة اصطدموا بالفكر السائد فى عصرهم وحاولوا اعلاء شأن الجزء السنى على الجزء الصوفى فى دين التصوف السنى ، فكان نصيبهم الاضطهاد مع علو قدرهم علميا واجتماعيا.

اضطهاد ابن تيمية في العصر المملوكي

1 ـ خلافا للسائد المعروف عن ابن تيميه فقد كان ابن تيمية مؤمنا بالتصوف السُنّى ، كان يُسلّم لاولياء التصوف ويعتقد في ولايتهم وكراماتهم وشفاعاتهم يقول ابن تيمية (ان الصوفية مجتهدون في طاعة الله) ويقول عن الجنيد احد ائمة التصوف السابقين (فإن الجنيد قدس الله روحه كان من ائمة الهدى ..)غاية ما هناك ان ابن تيمية يري ان طوائف من اهل البدع قد انتسبوا للتصوف وليسوا منهم كالحلاج ويعتقد ابن تيمية في كرامات الاولياء حتي فيمن يعتبرهم من أولياء الشيطان . ولكنه تعرض للإضطهاد حين إعترض على أشهر الأولياء الصوفية ابن عربى الذى كتب فى عقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود . عندها لم تنفعه مكانته فتعرض للإضطهاد .

2 ـ بدأت محاكمة ابن تيمية حين احتج علي كتاب الفصوص لابن عربي الذي يصرح بعقيدة الصوفية في وحدة الوجود أو انه لا فارق بين الله والكون ،وكان ذلك في شهر رجب 705هـ في الشام ، وكان الشام تابعا للسلطنة المملوكية ،وكان السلطان الفعلي وقتها بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الحكم من السلطان الشرعي محمد بن قلاوون ،وكان ابن تيمية باعتباره اكبر فقهاء عصره يؤيد حق الملك الشرعي الناصر محمد بن قلاوون ، ومن هنا كان الجاشنكير غاضبا عليه فأيد الصوفية في اضطهاده .

3 ـ  ثم عقدت لأبن تيمية محاكمة اخرى في مصر حيث اعتقلوه في جُبّ القلعة وارادوا الحكم بقتله ،وانصبت محاكمته حول امور فقهية لأن خصومه منعوه من مناقشة عقائد ابن عربي خوف الفضيحة، ومع ذلك ارادوا الحكم بقتل ابن تيمية في تلك الخلافات الفقهية اليسيرة . واثناء اعتقاله في السجن حاولوا الحصول علي اعترافه بعقائدهم ويعرضون عليه الصلح والافراج ولكنه رفض ، وفي النهاية افرجوا عنه ونفوه الي الاسكندرية علي امل ان يقتله اعداؤه فيها ، الا انه صار له اتباع في الاسكندرية ، ثم اطلق بيبرس الجاشنكير سراحه . واستمرت المناوشات بينه وبين الصوفية حتي انهم عادوا لمحاكمته وسلطوا عليه سفهاءهم  فضربوه والحوا علي السلطان في سجنه فسجنه.

4 ـ واسقطت ثورة شعبية مصرية السلطان بيبرس الجاشنكير و قد تخلى الصوفية والجند عن الجاشنكير فهرب وجئ بالسلطان الشرعي محمد بن قلاوون صديق ابن تيمية، وكان وقتها ابن تيمية معتقلا . وأعدّ الصوفية العدة لإستقبال السلطان الناصر محمد الذي سبق وان تخلوا عنه من قبل ليستعيدوا مكانتهم عنده وليكفروا عن تخليهم عنه من قبل.

وصحيح ان السلطان الناصر محمد بن قلاوون افرج عن ابن تيمية واتباعه واكرمه وجعل ابن تيمية مستشارا له ، الا ان السلطان الجديد استجاب لدسائس شيوخ الصوفية ، وكانت لديه هواجسه من شخصية ابن تيمية وكثرة اتباعه وشدته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فصدق الاشاعات الصوفية عن الطموح السياسى لابن تيمية. وكان الناصر محمد ابن قلاوون قد تعلم الكثير من عزله مرتين من السلطة ، ويريد الاحتفاظ بسلطنته الثالثة مستبدا بدون أى نقد لذا  انحاز الي الصوفية مضحيا بصديقه القديم ابن تيمية ، فاقام للصوفية اكبر خانقاه وهي خانقاه سرياقوس وافتتحها في حفل جامع سنة 725هـ ، وفي السنة التالية امر باعتقال صديقه القديم ابن تيمية بسبب فتوي سابقة له عن تحريم زيارة القبور.

5 ــ  وحمل الاعتقال الاخير لابن تيمية كل الحقد الصوفي عليه ،اذ كان يفرح بالسجن حيث يتفرغ للعبادة والتأليف ، الا ان خصومة الصوفية في سجنه الاخير منعوه من الكتابة، مما اثر تأثيرا سيئا علي نفسيته فمات بعد عامين من السجن سنة 728هـ 1327م .

6 ــ وأدى إضطهاده الى تطرفه فى الإفتاء بالقتل على أهون الأسباب ، وسنعرض لهذا بالتفصيل فى الفصل الخاص بالوهابية حيث أحيت الوهابية دين ابن تيمية وطبقته بالحديد والنار ــ ولا تزال .!!

اضطهاد الفقيه البقاعي

1 ـــ أجهض  الصوفية حركة الفقيه البقاعي سنة 875هـ في سلطنة قايتباي المملوكي أي بعد موت ابن تيمية بنحو قرن ونصف القرن،

2 ـ و قد ترسم البقاعي طريق ابن تيمية في الايمان بالتصوف السُّنّى وتقديس من أسماهم ( أهل الله ) من أولياء التصوف الأوائل ، ولكنه وقع فى الخطيئة الكبرى وهى الانكار علي المتطرفين الصرحاء من شيوخ التصوف ، فقد هاجم ابن عربي وابن الفارض ، وله في ذلك كتابان: ( تنبيه الغبي الي تكفير ابن عربي )، و ( تحذير العباد من اهل العناد القائلين بالاتحاد.) .  

3 ــ وقد اذاع انتقاده وتكفيره للشيخين المقدسين ابن عربي وابن الفارض اللذين ماتا قبل البقاعي بنحو قرنين ونصف القرن ، فاضطهد عوام الصوفية الشيخ البقاعي الي ان جعلوه يغادر مصر الي سورية. ولحقت كراهيتهم بمؤلفاته وتاريخه (تاريخ البقاعي ) فلا تزال في معظمها اسيرة النسيان المتعمد والسرقة والتحريف مع  انه سبق عصره في اجتهاد مبتكر في علم التفسير.

4 ــ وقد عرضنا بالتفصيل لمحنة ابن تيمية والبقاعى فى موسوعتنا عن التصوف المملوكى .

اجمالي القراءات 6650