خلوة اثناء الحرب
خلوة شرعية

فتحى احمد ماضى في السبت ١٨ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

هذه هي الحرب الثالثة على غزّة . والحرب تُعَرّي أهلها . وفي الحرب نصبح أُناساً آخرين . وما زلنا في هذه المدرسة ، التي تحوّلت إلى نُزلٍ كبير يضمّ أكثر من عشرين أُسْرة لاذت بها ، باعتبارها مدرسةً تابعةً لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الدولية ( الأُونروا) ، وهذا قد يجعلها في منأى عن القصف والخسف والاستهداف .

لم يعد لدينا شموع لنوقِدها داخل الغرف ليلاً ، وربّما لم نعد بحاجة إليها ، فوَميض قصف الطائرات ، الذي يخبز العمارات والورش والمشافي ، كافٍ لأنْ يُحيلَ الليلَ إلى نهارٍ جهنّمي .

 ولم يتبقَ الكثير من الطعام ، غير صناديق البصل والبطاطا وأكياس الجزر ورُزَمِ الخبز الذي تيبّس .  أمّا الماء ، فقد تمّ قصف الخزّان الكبير ، ولم يتبقَ لدينا سوى ما احتوته الخزّانات الصغيرة الواقعة فوق حمّامات المدرسة ، لهذا فإن مَن يدخل ، لقضاء حاجته ، عليه ألا يستعمل الماء ، بل يكتفي بالمناديل الورقية ، التي نفدت .. فراحوا يستعينون بقطع القماش الممزّقة .

 وعندما كانت الطائرات تئزّ وتخترق الأجواء ، وتترك خلفها عواميد العجاج الأسود والغبار والدخان والدمار والركام والجثث المتناثرة ، كنّا نتجمّع حول بعضنا البعض ، كأننا بالتصاقنا والتحامنا نحمي أنفسنا من حمولة الجحيم . وكان من الطبيعي أن تنام النساء في غرف على المقاعد أو على فِراش خفيف ، فيما ينام الرجال في غرفٍ أخرى وفي الممرات .. هذا ، إذا استطاعوا أن يناموا ! فلا شاي ولا قهوة ولا سجائر ، إضافة إلى الخوف الذي يُهَجِّر النّعاس .

ولا أدري مَن الذي اقترح على نزلاء المدرسة فكرة صِلة الأرحام ! ؟

إذ اجتمع الرجال بعد أن أخرجوا الأطفال والفتيان إلى الساحة ، وعقدوا اجتماعهم الأوّل ، الذي تداولوا فيه ضرورة تكريس غرفة  ، لكي يختلي كلُّ رجل فيها مع زوجته ، لمدة نصف ساعة ، وتُعْرَف  بِغُرفة صِلة الأرحام .. وهكذا ، ليخفّفوا عن أنفسهم أثقال هذه الحرب الرّهيبة .

احتجّ بعضُهم لأنّ هذا ليس بالتوقيت المعقول ، وأن الظرف غير مناسب للمُعاشرة ، بل مَن لديه الرّغبة في أنْ يباضع امرأته تحت القصف ؟ وكيف سيقوم له قائم ؟

قال آخر : حتى وإنْ حدث هذا ، فمِن أين لنا بالماء لإزالة الجنابة ؟ فردّ عليه أحدهم : نتيَمَّم يا أخي ! 

ثم توجّه الرجال بحديثهم إلى الشيخ عثمان مؤذّن جامع المخيّم ، للوقوف على رأيه ؟

صمتَ الشيخُ ثمّ قال : لماذا لا نُسمّيها غرفة الخِلْوة الشرعية ، فإنّها تسمية " خِلْوِه كثير " .. وانفجر ضاحكاً ، وقهقه حتى كاد أنْ يسقط عن مقعده ، فضحك الرجالُ على ضحكه ، كأنّما انتابتهم عدوى جنون انفلات الضحك ! حتى إذا هدأوا ساد صمتٌ ثقيل ضارٍ ، لم تكسره سوى زخاتٌ متقطّعة بعيدة ، من رصاصٍ غليظ ، تبعته أصداء قصف وتهشيم وصراخ ، يمور بالفزع والاستغاثات المشروخة .

واستدرك الشيخ : إنّ هذا أقرب إلى التقوى وتحصين الذات ، وأجدها فرصة لكلّ واحدٍ ليفشّ خلقه في فِعْلٍ حلال ، ولا أرى مانعاً له ، بل إنّه الثَواب بعينه ..

فوقف الأستاذ عطا ، كأنه يخطب : يا إخوان ، إن العدوّ  يقتل المئات منّا يومياً .. وعلينا أن نُعَوّض هذا الخُسْران بمواليد جدد ، وسلاحنا الأكثر مَضاءً هو القنبلة  السُكّانيّة ! هم يريدون شطبنا وإلغاءنا ومحوَنا من الوجود .. ونحن سنبقى هنا ، نتكاثر ونتوالد ونملأ الدنيا صغاراً ، يكبرون لمواجهة هذه العدميّة الماحقة .. ولهذا فأنا أؤيّد بشدّة هذه الفكرة الوطنيّة الخلّاقة .

ونظر القوم إلى عبدالله المحامي ، فقال : يا جماعة ، منذ أسبوعين لم نستحمّ ولم تغتسل نساؤنا ، ألا تلاحظون روائح العَرق والإفرازات الخانقة والخراء الذي عبّأ الدنيا ؟ عداك عن الفضيحة التي سيلاحظها أولادنا .. والله إنّي أخجل مِن فعل ذلك !

وهنا هبّ حسام ، ولم يكن قد مرّ على زواجه شهر : يا عمّي ، لا حياء في الدّين ، ثم إن الواحد منّا لا بدّ له إلا أن يمارس إنسانيته ، مهما كانت الظروف .. ألم تسمعوا أنّهم يُحضِرون فِرقاً موسيقية إلى الجبهات ليُرَفّهوا عن الجنود المُقاتلين ! فلماذا لا نُرَفِّه عن أنفسنا .. ما المانع .. ها ؟ وقد تطول الحرب .. فماذا سنفعل ؟

وتساءل أبو غسان : طيّب إذا انقصفنا ونحن ..

ضحكوا .. فقال الشيخ عثمان : والله ستكون ميتة رائعة ! وقهقه .. ثمّ أردف : إن الموت مُقدَّرٌ ومحتوم ، ولا يدري الواحدُ متى تكون منيّته ، فالأعمارُ بيد الله سبحانه وتعالى .. ولا داعي للتشاؤم .

وبالتأكيد ، فإنهم لاحظوا أنّ عبدالله المُحامي يهزّ رأسه استنكاراً لما يُقال !

ما بكَ يا أخ عبدالله ؟ سأله أبو غسان ..

فأجاب : والأصوات !

أيّ أصواتٍ تعني ؟

قال : أصوات الغنج والرّهز والتأوّه والنّحيب .. فانفرطوا ضاحكين  ! ما أغضبَ المحامي ، وجعله يجلس وقد أدار ظهرَه لهم .. وهو يغمغم : ليس للخردوات أحاسيس ناعمة !

قال الشيخ عثمان : لدي فكرة !

ما هي يا شيخ ؟

أن تكون غرفة صِلة الأرحام في الطابق الثاني ، وتكون اللقاءات في النهار ، فعندها يكون الجميع في ساحة المدرسة ، وتتوه أصواتنا بين ضجيج القصف والصّخب المريع .

 مَن سيعلّق الجَرَس ؟

رفع حسام يده ، فصمت الجمْع تعبيراً عن موافقتهم .

 نادى حسام عروسَه ، فجاءت بكلّ ظلالها الوردية ، وهي لا تعلم السبب . وما كادا يضعان أقدامهما على أوّل درجة تصعد إلى الأعلى ، حتى هوت قنبلةٌ فجّرت معظم صفوف الطابق الثاني  .. فتدحرجا ، وانخسفت المدرسة ُ صراخاً ووَلْولةً ونداءات ودعوات ..

بعد ساعات ، اطمأنّوا أنّ الجميع  بخير . غير أنّ حسام حَلَفَ بالطَلاق ثلاثاً وأقْسَمَ  ؛ بأنه لن يُخَلِّف بعد اليوم !

مقالة للكاتب الفلسطيني المتوكل طه عن ايام العدوان على غزة من قبل الاحتلال الصهيوني رايت ان انقلها لما فيها من العبر وطريقة تفكير التيار السلفي حتى اثناء الحرب والقتل واحلامهم الجنسية التي لا تفارقهم حتى في اصعب الظروف 

اجمالي القراءات 7908