أذاعت كل الفضائيات العالمية والعربية أخبار الاستفتاء على التعديلات الدستورية، الذي جرى في مصر، يوم الاثنين 26/3/2007، والتي أجمعت أن نسبة ضئيلة للغاية من الناخبين المصريين، هي التي شاركت في الاستفتاء. أما منظمات المجتمع المدني المصرية التي رصدت وراقبت الاستفتاء، فقد تراوحت الأرقام التي أذاعتها بين 2 و6 في المائة، في ثلاثمائة مركز اقتراع، في 24 محافظة، تم اختيارها بحيث تمثل الريف والمدن والمحافظات الصحراوية (سيناء والوادي الجديد). استخلصت اللجنة المستقلة لدعم الديمقراطية، والتي تضم اثني عشر منظمة أهلية، يتقدمها مركز ابن خلدون، أن المتوسط العام للمشاركة في الاستفتاء في عموم جمهورية مصر العربية، لم يتجاوز 4%، وهو (سدس) الرقم الرسمي الذي أعلنته الحكومة المصرية. وحتى على فرض صحة الرقم الحكومي (وهو ما لم يصدقه أحد داخل وخارج مصر) فإنه يعني أن ثلاثة أرباع المصريون المسجلون في الجداول الانتخابية لم يستجيبوا للحملة الدعائية الحكومية المحمومة، التي حثتهم على المشاركة في الاستفتاء. وبتعبير آخر، فإن هذه الأغلبية الساحقة (76%) استجابت لدعوة القوى المعارضة، بمقاطعة الاستفتاء. أي أن نظام آل مبارك الذي يحكم مصر منذ أكثر من ربع قرن، لم يعد يتمتع بأكثر من تأييد (ربع) المواطنين المصريين. أما في نظر القوى المعارضة، فإن آل مبارك لا يتمتعون حتى بأربعة في المائة من أصوات المصريين.
وربما لإدراك آل مبارك بهذه الحقيقة (المُرة) هو ما دفع أجهزتهم الأمنية بنصب حصار صارم على قلب القاهرة خلال اليومين السابقين على الاستفتاء، ويوم الاستفتاء، واليوم التالي للاستفتاء، وذلك لمنع أي تجمع للمواطنين الذين أرادوا التعبير عن رفضهم لما اعتبروه مهزلة، أو مسرحية سياسية رديئة. وكان نظام آل مبارك يريد بذلك الحصار أن ينكر على الشعب المصري حتى هذا الحق المتواضع من حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق التعبير السلمي عن الرأي. أما بالنسبة لمن أصروا على ممارسة هذا الحق في التعبير عن الرأي، فإن قوات الأمن قد فرضت عليهم طوقاً أمنياً، أشبه بالمصيدة، ما بين المنطقة التي تمتد من شارع عدلي ـ حيث نقابتي الصحفيين والمحامين، وحتى ميداني طلعت حرب والتحرير. وقد استمر هذا الحصار لست ساعات وكان ضمن من تم حصارهم مئات الأجانب ـ من صحفيين ومراقبين وطلاب ـ الذين توافدوا على قلب القاهرة، للتضامن مع النشطاء المصريين في اليوم المشهود أو المنكوب واتصل بعضهم بسفاراتهم لفك الحصار.
وربما لنفس هذا السبب ـ المقاطعة والاحتجاج ـ اختار الرئيس المصري أن يلتقي بوزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، في أسوان ـ بعيداً عن العاصمة، وهو يعلم أن مئات الصحفيين سيكونوا في صحبتها. ومع ذلك فإن وسائل الإعلام الدولية لم يفتها أن تغطي أحداث يوم الاستفتاء. ولم يفتها أن تخبر العالم الخارجي بطبيعة التعديلات الدستورية، حتى الخبر الأول لأكبر شبكة إعلامية، وهي (CNN)، كان فحواه "أن استفتاء دستورياً يجرى في مصر اليوم، لزيادة السلطات الممنوحة للرئيس، وللتمهيد لخلافة ابنه، جمال، لنفس المنصب من بعده".
وربما لنفس السبب أيضاً، لم يفت البيت الأبيض الأمريكي، أن يصدر بياناً، ينوه فيه عما حدث في مصر يوم الاستفتاء، وفحواه هو "الفجوة الشاسعة بين ما أذاعته الحكومة وما رصدته منظمات المجتمع المدني من أرقام حول نسبة المشاركة في الاستفتاء". أي أن ما أراد آل مبارك أن يتحاشوه من وسائل الإعلام الخارجية بالهروب إلى أسوان، أو صرف اهتمام البيت الأبيض عن الاستفتاء بالاجتماع مع كونداليزا رايس، لم يفلح وبات معروفاً للداني في مصر، وللقاصي في واشنطون، أن نظام آل مبارك في وادي، وأن أغلبية الشعب المصري في وادي آخر.
والمخيف والطريف في آن واحد هو أن آل مبارك يحاولون بتعديلاتهم الدستورية أن يسدوا كل المنافذ والمسالك التي يمكن أن يتسرب منها أي منافسين حقيقيين لمرشحهم القادم لرئاسة الجمهورية. ويُخيل إليهم أنهم نجحوا في ذلك بالشكل الذي صاغوا به التعديلات الدستورية. فهم يريدون اغتصاب هذا المنصب لأجل غير مسمى، وبلا أدنى رقابة حقيقية على ما يفعلون. وهذا هو سر استماتتهم في رفض تعديل المادة 77 (التي تطيل سنوات شغل منصب رئيس الجمهورية). وهذا أيضاً، هو سبب استماتتهم في إبعاد الأشراف القضائي الحقيقي عن أي انتخابات أو استفتاءات قادمة. فقد ثبت لهم بما لا يقبل أي شك أن القضاة هم العقبة الحقيقية الكأداء في طريق مخططات التوريث والتزوير.
أكثر من ذلك فإن آل مبارك بتعديل المواد 40 و41 و46، يفرغون ضمانات الحريات من مضمونها، بدعوى مناهضة الإرهاب، في حين أن حقيقة الأمر هو رغبتهم في إطلاق يد أجهزتهم القمعية في ملاحقة المعارضين والمنشقين، دون ضوابط أو قيود من النيابة العامة أو القضاء. وإمعاناً في التمهيد لمخطط التوريث، تم استحداث أحكاماً دستورية تمنح سلطات جديدة لرئيس وزراء، يعينه رئيس الجمهورية نفسه، في الوقت الذي يروق له، وبالسلطات التي تروق لرئيس الجمهورية، وهو ما يرجح المراقبون أنهما عناصر تكميلية لأحد سيناريوهات التوريث، والتي يمكن أن تتم في حياة الرئيس الحالي، خوفاً من ألا تتم بعد رحيله (أطال الله في عمره).
يقول الله عز وجل في محكم قرأنه الكريم "يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". لقد انطبقت هذه الآية الكريمة على الرئيس السابق أنور السادات وبعض النائبات المتملقات له، حينما تم تعديل المادة 77 من الدستور، عام 1980، لكي تطيل سنوات شغل منصب رئيس الجمهورية ـ من مدتين (12 سنة)، إلى مُدد أخرى، أي مدى الحياة. ولكن الرئيس السادات لم يستفيد شخصياً من هذا التعديل، فقد وافته المنية ـ اغتيالاً ـ بعد سنة واحدة فقط من الاستفتاء على التعديل. لذلك نقول، أن لآل مبارك أن يمكروا ماش شاء لهم مكرا، وأن يعدلوا من مواد الدستور ما شاءوا من تعديلات. ولكن الله والشعب لهم بالمرصاد. نعم، لقد زينت لهم أجهزتهم أنها تستطيع أن تحاصر الشعب المصري، وتخيفه، وأن تحاصر مصر كلها، وأن تتحدى قوانين التاريخ والاجتماع. ولكن المشهد المصري يوم الاثنين 26 مارس 2007، كان مشهداً مختلطاً. فمن ناحية، لفقت الأجهزة تعديلات دستورية، حاولت الإيحاء بأنها استفتت الشعب المصري عليها، وأصيب كثيرون بالجزع مخافة أن ينجح المخطط. ولكن الناحية الأخرى من نفس المشهد، تقول أن ـ على الأقل ـ 76% من الشعب المصري قال لآل مبارك، "لا"، لن نشارك في هذه المسرحية العبثية. فمن الذي يحاصر من؟ إن الله لشاهد والتاريخ، على الجميع بالمرصاد.