فى هذا العصر الردىء ينحصر الخيار بين السىء والأسوأ ..وفقط .!!
مقدمة :
1 ـ : قال لى ابنى محمد منصور فى نقاش بيننا : تذكر حين كنت تمدح السيسى ثم إنقلبت عليه ،وكنتّ أُكرر لك أنه لا خير فى السيسى ولم تسمع كلامى ، ثم تبين لك صدق قولى فأصبحت تهاجم السيسى .
2 ـ قلت :
2 / 1 : الآراء السياسية وجهة نطر . وهى تتقلب تبعا لتقلبان السياسة . المهم فى هذه التقلبات أن تقف فى مكانك الصحيح متمسكا بما تراه حقا وعدلا ، تناصر المستضعفين فى الأرض وحقوقهم الانسانية والسياسية والاجتماعية . وهذا مكانى الذى لم أفارقه ، وبه كتبت تحليلاتى السياسية . وأثبتت الأيام صدق توقعاتى فى أغلب آرائى السياسية ، لذا أعيد نشر ما سبق أن كتبته فى أواخر الثمانينيات و فى التسعينيات تأكيدا على صحتها وصدق تنبؤاتى . لا شك أن بعضها يخطىء وهذا لا بأس به ، فلست كاتبا سياسيا فى المقام الأول .
2 / 2 : هناك فرق بين التحليل السياسى والوعظ السياسى. وأكتب فى هذا وذاك . أنا مفكر مسلم يبغى الاصلاح الشامل دينيا وسياسيا وثقافيا وإجتماعيا . كتابات الاصلاح تركز على المساوىء لأن المصلح طبيب يمسك مشرط الجراحة يعالج مريضا يكره العلاج ويحب المرض ويكره الذى يعالجه من مرضه . لذا أقول أننى متخصص دائما فى السيئات ـ رغم أنفى ــ فنحن نعيش فى عصر السقوط والاختيار بين السىء والأسوأ . فى هذا الحضيض الأسود من الفساد والاستبداد لو ظهرت بارقة نور تعطى أملأ لا بد أن أحتفل بها وأن أشجعها . ثم إذا ظهر أنه فجر كاذب عدت الى النقد والهجوم . ونحن هنا نحكم على السلوك وليس عمّا فى القلوب ، فالمتقون فعلا لن يُعرفوا إلا يوم الحساب حين يدخلون الجنة .
3 ـ دعنا ندخل عى ماساة الاحتيار فى عصرنا الردىء بين السىء والأسوا .
أولا : السيسى
1 ــ إستبشرت خيرا يسقوط الاخوان ورئيسهم محمد مرسى ، لأنهم الأسوأ ، ونظام العسكر هو السىء . جاء السيسى بكلمات خادعة فى الاصلاح الدينى ـ وهو محور حياتى . إستبشرت به خيرا ، وكتبت أشجعه ، وظللت أرقب النتائج فظهر أنه مجرد وعود وكلمات ، كتبت أنتقده برفق ، ثم إرتفعت وتيرة النقد لتبلغ الهجوم العنيف ، وفى النهاية قلت له وداعا . وجمعت كل المقالات ونشرتها كتابا عن شاهد على عصر السيسى فى الشهور الأولى من حكمه .
2 ـ تدهور السيسى ووصل الى حضيض مبارك بأسرع ما كان عليه مبارك فى فترة رئاسته الأولى . إحتاج القذافى الى 30 عاما ليصل الى جنون العظمة وينطق بما يُضحك الحزين ، لم يستغرق الأمر من السيسى سوى أقل من عام ليصل الى مرحلة الجنون وتندر الناس على كلمات وتصريحاته . ستُظهر الأيام أن التعذيب فى ايام مبارك الأولى كان أقل كثيرا من التعذيب فى عصر السيسى ، وأن نهب مبارك للاموال فى فترة رئاسته الأولى ليس بشىء مقارنة بالسيسى ، السيسى ترعرع فى عصر مبارك الذى حارب عدة معارك بينما لم يدخل السيسى أى معركة سوى معركته ضد الشعب المصرى الأعزل . مبارك كان يسرق مصر وينهبها عن طريق غلمانه أمثال حسين سالم وبطرس غالى وغيرهم من الحرامية الذين عمل بعضهم وزراء ورجال اعمال . أما السيسى فقد تسلّح بالجيش والأمن والقضاء ودخل بهم منافسا للحرامية من غلمان مبارك ، وهو ينهب مصر باسم الجيش ومعه كبار الجنرالات ما ظهر منهم وما بطن . وبدخول الجيش منافسا فى المشروعات الانتاجية والاستهلاكية والخدمية فلا يجرؤ أحد على المنافسة ، ولا يجرؤ أحد على المحاسبة ، وبهذا يصل الفساد الى السحاب.
3 ــ ومهما يُقال عن السيسى فتبقى حقائق ثلاث : السيسى تلميذ لمبارك وتفوق عليه ، والسيسى هو أحطُّ نتاج لحكم العسكر المصرى بعد حكم ناصر / السادات / مبارك / المجلس العسكرى ، والسيسى مهما بلغ من فساد يظل هو السىء مقارنة بالاخوان والسلفيين الوهابيين وهم الأسوأ .
ثانيا : عبد الله بن عبد العزيز آل سعود
1 ـ هم خصومى فى الدين وفى السياسة معا . وربما لم يهاجمهم أحد مثلى سياسيا ودينيا . ومع ذلك فعندما تولى عبدالله بن عبد العزيز وظهر بوجه إصلاحى سارعت الى الترحيب به ، ودعوته الى إصلاح حقيقى بإقامة مملكة دستورية وفض الارتباط بين الأسرة السعودية والوهابية وآل الشيخ ، وإنهاء عقد التحالف بين ألأميرمحمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب . ونشرت فصلا من كتاب ( المعارضة السعودية ) عن المناضل ناصر السعيد ، مؤكدا أن ما طرحه هذا المناضل الرائع يصلح اساسا لاصلاح تسير فيه المملكة . ظهرت الأمور على حقيقتها سريعا . كان الرئيس بوش فى ولايته الأولى وبعد احداث سبتمبر قد تنبه الى اهمية إصلاح التعليم فى الشرق الآوسط ــ وهذا ايضا كنت سبّاقا فى الدعوة اليه . ضغط بوش على الملك عبد الله ، فقام عبد الله بعقد مؤتمرات وندوات هللت لها الصحافة ، وإنشغل بوش بورطته فى العراق ، فتراجع عبد الله ، ثم وضع فى السجن بعض دُعاة الإصلاح ، وعادت الأمور الى مجاريها ، وعّدت أهاجم السعودية ..ولا زلت .
2 ـ أنا فى موقعى لم أتغير . هم الذين تظاهروا بتغيير موقعهم ثم عادوا الى ما كانوا عليه . كتبت مقالين بالانجليزية ردا على تراجع عبد الله السعودى ، أحدهما عن مسئولية السعودية عن أحداث سبتمبر ، وعن إستحالة الاصلاح فى المملكة السعودية الوهابية .
3 ـ هذه المملكة السعودية الوهابية يتماهى فيها الأسوأ مع الأسوا ..
ثالثا : القذافى
1 ـ أعلن القذافى إنكار السّنة وتندر عليها ، وجاءت لى الدعوات لحضور مؤتمرات وإحتفاليات فى ليبيا ، وكنت أحضرها على أمل أن يكون هناك إصلاح يطبق بعض اللمحات الايجابية فى ( الكتاب الأخضر ) ، فوجدت الواقع إستبداد بدويا قبليا ( نسبة للقبيلة ) .
2 ـ فى آخر مؤتمر حضرته فى ليبيا ، تلا رئيس المؤتمر ورقة على انها قرارات المؤتمر طالبا الموافقة عليها ، وقفت معترضا ، وقلت بأعلى صوت : ما جئنا لكى نسمع بل جئنا لكى نُسمع ونسمع . وقدمت ورقة بديلة ايدنى فيها بعضهم ، وعوملت بجفاء ، الى أن غادرت ليبيا ، ورفضت الذهاب اليها بعدها . وانتهى القذافى وهو مدين لى بعشرة آلاف حنيه كان مفروضا أن يدفعها لى المركز العالمى للكتاب الأخضر مقابل أبحاث كتبتها ونشروها .
3 ـ كنت أظن أن القذافى هو الأسوأ ، ولكن ظهور داعش أثبت أنه سىء ..فقط . إختلفت معه فلم يقتلنى .. ماذا لو إختلفت مع داعش فى نظام حكم لداعش ؟ عندها لن أجد رأسا أخبط بها الحائط . كانت داعش ستقطعها .
رابعا : فى سوريا والعراق
1 ـ قام فيهما نظام حزبى واحد ، كلاهما يرفع راية حزب البعث ، وبدلا من الاتحاد أصبحا أعداء متشاكسين . كلاهما ضرب شعبه بالقوات المسلحة ( صدام وحافظ الأسد وابنه بشار ) . بشار ولد سىء مثل أبيه ، ولكن يفوق أباه خُبثا ومكرا . واجهته مظاهرات الربيع العربى السلمية ـ وهى البديل الحسن لنظامه السىء ـ فقطع عليها الطريق بأن أتاح للأسوأ أن يظهر ويتمدد فى سوريا ، ظهرت داعش وأخواتها فى المحيط السنى ، فأصبح السىء بشار يواحد الأسوأ الوهابى . الآن فى مأساة حلب نذرف الدموع على ضحايا حلب من السىء بشار ومن الأسوأ الوهابى .
2 ــ نفس الحال فى العراق الذى غاب فيه السىء صدام وحلّ الأسوأ وهو الحرب الأهلية بين الشيعة والسُّنّة .
خامسا : إسرائيل والمستبد العربى :
1 ـ كنت فى الثالثة من العمر عندما قامت حركة الجيش عام 1952 ، عشت طفولتى وصباى فى عبادة عبد الناصر . اذكر أننى ـ وأنا فى المدرسة الابتدائية ـ بعث خطابا له فأرسل صورة شخصية لى عليها توقيعه . كان هذا يحدث دائما وقتها ، ترسل خطابا لعبد الناصر ـ بدون طابع بريد ـ ويأتيك الرد بصورته وتوقيعه . فرحتى وقتها لم توصف ، عبرت عنها بمزيد من التقديس لصنم عبد الناصر الذى كانت متربعا فى قلبى . صحوت فجأة على هزيمة يونية 1967 ، ورايت بعض مآسيها بعينى . وصلت اسرائيل الى شط القناة ، وكنت وقتها فى مدينة الزقازيق التى أصبحت خط الدفاع بعد تشرذم الجيش المصرى ووصول أفراده جرحى ، كنت فى الثامنة عشر ومتطوعا فى الدفاع المدنى فى منطقة محطة السكة الحديدة أرى قطارات الجرحى تدمى القلب . سقط صنم عبد الناصر ، واقمت له جنازة فى قلبى شيعت فيها عصرا من الأحلام ومن الأوهام ، وأفقت بعدها على أسئلة إقتنعت بعدها أنه لا بد من الاصلاح .
2 ـ فى ندوة فى قسم التاريخ ــ وكنت مدرسا مساعدا ـ عام 1975 ـ سألت متشجعا بحرية إنتقاد عبد الناصر التى أناحها السادات ـ قلت : من هو العدو الأكبر لمصر : عبد الناصر أم موشى ديان ؟ إرتعب الاساتذة الأكبر سنا ومقاما منى ، ونظروا لى خوفا و شذرا ، فأعدت السؤال بصيغة أخف وقلت : كم عدد من قتلهم موشى ديان من المصريين وما عدد من قتلهم عبد الناصر من المصريين . سكتوا جميعا . عبد الناصر تسبب فى قتل مئات الالوف من المصريين فى معارك مع اسرائيل إنهزم فيها ، عدا معارك أخرى تورط فيها فى اليمن وغيرها بلا داع ، هذا عدا من قتلهم فى السجن الحربى عمدا مع سبق الاصرار . كانت هى المرة الأولى التى أقارن فيها بين عبد الناصر الذى كنتّ أعبده فى جاهليتى وبين قائد فى دولة هى العدو الأول لوطنى . خرجت منها ــ ومبكرا ـ بأن اسرائيل عدو سىء ، ولكن الحاكم المصرى المستبد هو الأسوأ ــ حتى لو كان عبد الناصر . فماذا عن الأقزام من بعده ؟
3 ــ. حكى لنا د ياسين مراد استاذ الجغرافيا عما لاقته رحلة ( إستكشافية ) من جامعة القاهرة فى طرق سيناء التى لم تعرف الرصف . وقد عانت قبلها من صعوبة الحصول على تصريح بدخول سيناء . كان هذا فى عصر عبد الناصر . بعد تحرير جزئى لسيناء قمنا ـ قسم التاريخ بجامعة الأزهر ـ برحلتين الى العريش مرة والى شرم الشيخ مرة أخرى . فوجئنا بالطرق التى أنشأتها إسرائيل ، وبتعميرها لشرم الشيخ وطابا . وحُسن معاملتها لبدو سيناء . فى يوم واحد تم تصوير كل أفراد البدو وإعطاؤهم (هوية / بطاقة شخصية ) . وتم توصيل مياه الشرب من اسرائيل الى حدائق فى شرم الشيخ ، والتى أقاموا فيها مدينة تحت الأرض ، وعندما تركوها واحتلها الجنود المصريون أحرقوا أبوابها وسرقوا محتوياتها . بدو العريش كانوا فى أسوأ حال بعد عودة سيناء الى مصر . تكلمت مع أحدهم فكان يشكو ويقول : "ولما جاء المصريون عملوا كذا وكذا ، أما الاسرائيليون فقد كانوا يعملون كذا وكذا .!" . يمدح الاسرائليين بصورة أذهلنى ، وقال : " طالما لا تحمل السلاح فأنت معهم فى أجسن حال" . أفجعنى أن المقارنة هنا ليس بين السىء الاسرائيلى والأسوا ( المصرى ) ولكن ـ بعيون بدو سيناء ـ بين الحسن الاسرائيلى والأسوأ المصرى . الآن .. ماذا يفعل الجيش المصرى فى سيناء ؟ ومن المسئول عن ظهور داعش فى سيناء ؟ . دعنا نفترض أن المستبد المصرى عامل أهل سيناء نفس المعاملة الحسنة التى عاملتهم بها اسرائيل وأنه أكمل تعمير وتنمية سيناء لصالح أهلها كما فعلت اسرائيل هل كانت ستظهر داعش ؟ . مرة أخرى : فى المسألة السيناوية : من الحسن ومن الأسوأ ؟
4 ـ كنت فى رحلة لحضور مؤتمر فى لندن فى التسعينيات ، فى الطائرة تعرف الىّ استاذ جامعى من عرب اسرائيل ، قال لى : إن السجن الاسرائيلى فندق خمسة نجوم مقارنة بأى سجن فلسطينى . كان هذا ردا على سؤالى : لماذا لا تترك اسرائيل وتعيش مع قومك الفلسطينين فى غزة أو الضفة .
5 ــ هناك تمييز واضح من اسرائيل ضد عرب فلسطين فى الداخل الاسرائيلى . ولكنهم افضل حالا من الفلسطينين فى الضفة والقطاع . وهم أفضل حالا من المصرى المستضعف فى مصر ، ونظيره فى أى بلد عربى . هناك فساد فى اسرائيل ، ولكن المفسد يتم التحقيق معه ، وهناك رئيس اسرائيلى فى السجن . أما فى مصر فإن المستشار هشام جنينة المنوط به ـ رسميا ــ كشف الفساد حين أدى واجبه زكشف فساد العسكر وأتباعهم دخل السجن . والدستور المصرى يجعل التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم ، ولكن صديقى نجاد البرعى المخامى الحقوقى يواجه السجن بتهمة رسمية أنه يعارض التعذيب . المستبد الفلسطينى عريق فى الفساد ، لا فارق هنا بين محمود عباس (ابو مازن ) ومحمد دحلان وبين خالد مشعل واسماعيل هنية . المستوطنات الاسرائيلية تقيمها لاسرائيل شركات فلسطينة يملكها ساسة فلسطين .
6 ــ إسرائيل سيئة فى تعاملها مع العرب المعارضين لها ، ولكن قادة فتح وحماس هم الأسوا فى تعاملهم مع الفلسطينيين العاديين . تكفى جريمة التترس السنية التى تمارسها خماس وتجنى بها الملايين على حساب دماء الفلسطينين . تقوم حماس بعملية ضد المدنيين الاسرائيليين ، و( تتترّس ) بالمدنيين فى غزة المكتظة بالسكان ، أى تختبى فى أعماق الحوارى وفى المساجد والمدارس وسيارات الاسعاف ، وتضع اسرائيل فى مأزق ، لا بد لاسرائيل ( السيئة ) أن ترد وتنتقم بعملية أقتحام برية لغزة أو ضربات جوية ، ولا بد أن يسقط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين . وهكذا تتهدم بيوت ويسقط ضحايا ، وينعم خالد مشعل بالاقامة فى فنادق فاخرة يحصى الملايين التى يأخذها فى تعمير غزة ، وينظر بحسد الى الملايين التى تأتى الى رفيقة أسماعيل هنية . تتبدل حكام اسرائيل ولا تتغير الزعامات الفلسطينية إلا بالموت .
7 ــ لا شك أن الشعب الفسطينى يستحق زعامة أفضل من هذه النفايات البشرية . من حق الفلسطينين فى الضفة والقطاع أن تترفق بهم السلطة الفلسطينية وتعاملهم بنفس درجة السوء التى تتعامل بها اسرائيل مع العرب الاسرائيليين .
أخيرا :
1 ــ المستبد العربى السىء يقتل المعارض المسلح لكى يحافظ على عرشه ، أما الأسوأ الوهابى فهو يقتل ( الآخر ) لمجرد أنه (الآخر ). يقتله حبا فى القتل ، ويتفنن فى تعذيب ضخيته ، ويعتقد أنه يقوم بالقتل عبادة وفريضة فرضها عليه إلاهه الشيطانى .
2 ـ هناك مساحة للتعامل مع السىء فالمستبد لا ينفى الآخر ، اما الوهابى الأسوأ فلا يرى سوى نفسه ، ولا يرى للآخر مكانا إلا فى القبر وفى الجحيم .
3 ـ من اسف أننا قد نضطر للتعامل مع السىء فى غياب الحسن . فنحن نعيش فى عصر الحضيض .