في المقالات السابقة عند دراستنا لموضوعات الرسالات الإلهية الواردة في القرآن الكريم، رأينا أن التغيير يكون في الحكم والوصايا والشريعة وبعض المحرمات والشعائر والمقدسات والنسك، أما الحكمة والإسلام لله وحده أو ما يسمى بـ(التوحيد) لم يلحقهما أي تغيير في أي رسالة من الرسالات على الإطلاق، إذن، باستقراء جميع رسالات الأنبياء والمرسلين الواردة في القرآن الكريم نجد أنها تختلف جميعا في كيفية إقامة الشعائر والنسك التي يقوم بها أتباع تلك الرسالة كعبادة لله، وتختلف أيضا في نوعية الأحكام والعقوبات والجزاءات المادية أو المعنوية للمخالفين لتعاليم تلك الرسالة، وتختلف أيضا في بعض الوصايا والأوامر الواردة في نص تعاليم الرسالة، وأيضا تختلف في الأشياء والأماكن المقدسة، فمثلا الشعائر والأماكن المقدسة في رسالة موسى تختلف عن الشعائر والأماكن المقدسة في رسالة إبراهيم ومحمد عليهم السلام.
أما الحكمة التي تحتوي على الجانب السلوكي والقيمي والأخلاقي الإنساني لجميع أمم الأرض فلا تغيير فيه ولا تبديل، ومثال ذلك الوفاء بالعهد، والأمانة والعدل والنهي عن الظلم والفساد في الأرض والكذب وقتل النفس بغير حق، وحرمة السرقة والزنى والفواحش، والكبر والغرور وغيرها من السلوكيات الإنسانية التي يتناولها موضوع الحكمة.
وكذلك الإسلام لله وحده أو ما يسمى بـ (التوحيد أو الوحدانية) هو كذلك أمر ثابت دائم في جميع الرسالات الإلهية، لا يغيره الله ولا يبدله، لأنه الدين القيم الفطرة التي فطر الله الناس عليها ولا تبديل لخلق الله، أما الحكم والشريعة والوصايا والأوامر الإلهية فهي متغيرة ومتبدلة من رسالة لأخرى، ومن رسول لأخر، لقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ولكن هذا لا يمنع أيضا أن هناك بعض الأحكام وبعض الوصايا وبعض الأوامر الإلهية التي تكون في الشريعة ثابتة دائمة، وهي موجودة في كل رسالة إلهية لم تتغير رغم ورودها في الشريعة ورغم عدم ورودها في موضوع الحكمة أو الإسلام لله الدين القيم، ونذكر على سبيل المثال وصية شرعية ثابتة دائمة في كل الرسالات وهي: لزوم الجماعة الواحدة بين أتباع كل رسالة وإقامة الدين من شرائع وحكمة ووصايا وأحكام، والنهي عن الفرقة والتفرق: ويدل على ذلك قول الله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)، فإقامة الدين ولزوم الجماعة والنهي عن الفرقة والتفرق في الدين هو شريعة دينية ثابتة دائمة موجود في كل الرسالات الإلهية لم يغيرها الله ولم يبدلها رغم ورودها في باب الشريعة، التي يتغير معظمها من رسول لرسول، ولو أمعنا النظر والتدبر في رسالات الأنبياء والمرسلين الواردة في القرآن لربما نرى أشياء من الشريعة لم تتغير أيضا كتقديم القربان لله مهما كانت طبيعة هذا القربان أو نوعه أو كيفيته إلا أنه موجود في كل الرسالات الإلهية.
ولقد تبينا أيضا من قصص الأنبياء والمرسلين كما سبق وأن ذكرنا في الجزء الثاني من هذه الدراسة والذي كان بعنوان: (البوذية ديانة سماوية: الوحي والنبوة)، تبينا أن كل رسول وكل نبي من رسل وأنبياء القرآن كانت رسالته مهتمة بمعالجة جانب معين من جوانب الانحرافات السلوكية لدى قومه، وكانت الرسالة تصب في معظمها على ذلك الانحراف سواء السلوكي أو العقائدي أو الأخلاقي أو النفسي، وقلنا: (إن الأنبياء هم بشر كبقية البشر، أرسلهم الله إلى الناس لتحريرهم من ربقة العبودية للمخلوقات وللنفس والهوى، وأيضا لهدايتهم إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، إلا أن كل رسول كان يأتي قومه بشريعة ورسالة قد تختلف في كثير من تفصيلاتها التشريعية عن النبي أو الرسول الآخر، وذلك لأن هؤلاء الأقوام كانت لكل قوم منهم أخطاؤهم وخطاياهم الخاصة بهم، والتي قد يختلف فيها قوم هذا النبي عن قوم ذلك النبي، والمطالع لقصص الأنبياء والمرسلين في القرآن الكريم، يجد أن كل نبي كانت رسالته وشريعته تركز على معالجة خطأ بعينه أو عدة أخطاء بعينها، هذه الأخطاء قد تكون غير موجودة لدى قوم النبي الآخر، ونلحظ ذلك في قصص أقوام كل الأنبياء الذين ذكر القرآن قصصهم مع أقوامهم).
بعد هذه المقدمة التي أوضحنا من خلالها طبيعة حكم وشرائع ورسالات الأنبياء الواردة قصصهم في القرآن الكريم، نحاول فيما يلي أن نستقرئ هذه المسائل في أحكام وشرائع ورسالات الديانات الشرقية، لنرى هل يوجد تطابق بين رسالات قادة الأديان الشرقية: (الكونفوشيوسية، الزرادشتية، البرهمية، البوذية)، وبين رسالات الأنبياء والرسل الواردة قصصهم في القرآن الكريم في تلك المسائل سالفة الذكر؟؟
# الحكم والشرائع في الديانات الشرقية:
بالاطلاع على ما تبقى من نصوص الديانات الشرقية، وعلى نتائج الدراسات والبحوث التي توصل إليها العلماء والمؤرخون والباحثون في الديانات الشرقية، نتبين أن رسالات الديانة الشرقية لم تختلف في الإطار العام لنوعية الرسالات الإلهية الواردة في القرآن الكريم، فمن جهة الحكم والشريعة، نرى أن هناك ثلاث رسائل إلهية عامة مفصلة كبرى، واحدة في الهند وهي البرهمية، وواحدة في الصين والتي جاء كونفوشيوس لإحيائها وتجديدها، وواحدة في إيران وهي الزرادشتية، فقد حوت كل رسالة من هذه الرسالات على عدة موضوعات شاملة عامة مفصلة احتوت على جميع المناحي الدينية والتشريعية والحكمية والسلوكية وكذلك الإسلام لله وحده، أو ما نسميه بـ (التوحيد والعقيدة).
أما رسالتا كل من كونفوشيوس وبوذا عليهما السلام، فقد كانتا رسالتين فرعيتين تجديديتين إحيائيتين للرسالات العامة الكبرى التي سبقتهما، فكونفوشيوس عمل على إحياء رسالة:(ياو، وشون) ولم يبدل شعائرها أو أوامرها، وإنما عمل كونفوشيوس على إحياء تعاليمها الأصلية وتنقيتها مما علق بها من خرافات وإضافات أضافها الأتباع من عند أنفسهم، إلا أن رسالة كونفوشيوس ركزت في جانبها الإصلاحي والإحيائي على إصلاح نظام الحكم وإصلاح القائمين عليه عبر إلزامهم بالفضيلة والخلق الحسن اللذان دعا إليها كونفوشيوس عليه السلام. حيث كان الزمن الذي ظهر فيه كونفوشيوس يعج بالفساد والظلم والطغيان من قبل الحكام لشعوبهم.
أما رسالة بوذا عليه السلام فكانت على غرار رسالة المسيح بن مريم عليه السلام، فقد ركزت في مجملها على إصلاح النفس الإنسانية وتهذيبها، والدعوة للزهد في الدنيا والترفع عن دنايا النفس البشرية وآلامها، ومحاولة إصلاح الديانة البرهمية التي كانت تعج بالوثنية وعبادة مئات الآلهة من دون الله، فدعا بوذا عليه السلام للإسلام لله وحده ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والآلهة المزعومة التي اختلقها رجال الدين البراهمة والهندوس من دون الله، وقضى بوذا على كثير من الانحرافات السلوكية والخلقية والتشريعية والحكمية التي اختلقها الرهبان البراهمة والهندوس، ومن الانحرافات التي حاربها بوذا كان نظام الطبقات الكئيب الذي استحدثه رجال الدين للتفرقة العنصرية بينهم وبين بقية الشعب الهندي، حيث كان النظام الطبقي البئيس يفرق بين طائفة البراهمة ويسميهم رجال الله وبين بقية الشعب الهندي ويسميهم المنبوذين، فجاء بوذا برسالته الإلهية العظيمة لدعوة الأمة الهندية إلى التخلص من الوثنية المتخلفة والعنصرية الكالحة والمادية المقيتة التي كانت تسيطر على عقول وقلوب شعوب الأمة الهندية في ذلك الوقت.
ولقد تبينا أيضا من خلال نتائج دراسات وأبحاث الديانات الشرقية القديمة، أن جميعها كانت مختلفة في الأحكام والشرائع والشعائر الدينية، إلا أن جميعها اتفقت في الحكمة التي هي السمو بالسلوك البشري إلى أعلى قمم الإنسانية، وأيضا اتفقت جميعها على الإسلام لله وحده والحنف عن الشرك به (كما سنري في المقالات القادمة)، فقد تبينا من خلال قصص الأنبياء والمرسلين الواردة في القرآن الكريم، أن رسالات أنبياء ورسل القرآن كانت مختلفة في الحكم والشرائع وبعض المحرمات، واتفقت جميعها على الحكمة والإسلام لله وحده والحنف عن الشرك به، وقد نص القرآن على ذلك في قول الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، وقوله تعالى عن المسيح بن مريم: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم)، وهكذا كانت رسالات الديانات الشرقية فقد كانت مختلفة في شرائعها وأحكامها وطقوس عبادتها، وللتدليل على ذلك أقوم بعرض بعض أحكام وشرائع ووصايا رسالات الديانات الشرقية في السطور القادمة، كما جاءت في أبحاث ودراسات العلماء والباحثين، مع الأخذ في الاعتبار بأن النصوص الأصلية لتلك الديانات قد ضاع معظمها، والبعض الباقي قد امتدت إليه الأيادي بالزيادة والنقصان والتحريف، ولكن لا يمنعنا ذلك من تلمس الحقيقية الإسلامية لتلك الديانات.
# الحكم والشريعة في الديانة البرهمية :
لقد قام أحد رجال الدين البراهمة ويدعى (مانو) بشرح وتفسير الديانة البرهمية وكان مصدره الأساسي هو أسفار الفيدا، يقول الدكتور علي عبد الواحد: فقد قام مانو بتأليف كتاب وسماه (قوانين مانو) وتشتمل هذه القوانين على تفصيل للدين البرهمي عقائده وعباداته ومعاملاته ونظمه الاجتماعية بمختلف فروعها (نظم السياسة والاقتصاد والأسرة والقضاء والحرب والقوانين المدنية وقوانين العقوبات ونظم التربية والأخلاق ...الخ) كما تشتمل على تاريخ الكون ونشأته وخلق الإنسان وتقسيم الطبقات وينسب هذا السفر لمشرع قديم اسمه (مانو) أو (مانافا) ولا نعلم تاريخه على وجه اليقين . وأرجح ما قيل في هذا الصدد من آراء أنه عاش حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد . وينزل البرهميون هذا السفر منزلة التقديس, حتى لقد اعتقدوا أن مؤلفه هو أحد الآلهة الستة المنبثقين عن الإله براهما والذين تتابعوا في حكم العالم . وهو أهم مرجع للباحثين في الدين البرهمي, لأنه قد استوعب جميع نواحي هذا الدين قصصه وعقائده وعباداته وشرائعه, ولم يغادر أي فرع من هذه الفروع إلا فصله تفصيلا . ويستمد أحكامه من أسفار الفيدا نفسها, كما يصرح بذلك في مقدمته. (علي عبد الواحد وافي, ص 161).
ويبدو مما سبق أن قانون مانو سالف الذكر قد تم من خلاله تحريف الديانة البرهمية الأصلية والزيادة فيها والنقصان منها كما حدث مع جميع الرسالات الإلهية الواردة في القرآن الكريم وكما سبق وأن ذكرنا أن ما من رسالة إلهية إلا وقد وضع لها عشرات المؤلفات لتفسيرها وتفصيلها والإضافة عليها والنقصان منها مما جعل من الرسالة الأصلية مجرد نصوص لا يعبأ بها العامة من جمهور الأتباع, أو تذهب أدراج الرياح ويخفيها الضياع، وهذا ما حدث مع الديانة البرهمية على يد مانو وغيره ممن جاءوا بعده من رجال الدين الذين حرفوا دين الله وشرعوا للناس من الشرائع ما لم يأذن به الله. ولنأخذ بعض الأمثلة من الأحكام والشرائع الواردة في هذه الكتب والتي أعتقد أن فيها الصحيح وفيها الغير صحيح وهي على النحو التالي:
ومن أهم ما تعني به شريعتهم النظم المتعلقة بالزواج وشئون الأسرة. وهي تعتبر الزواج واجباً على كل قادر عليه ، ومن ثم ينظر البرهميون إلى الأعزب نظرتهم إلى عنصر فاسد ضار، أو إلى مخلوق عجيب ومسخ وغير طبيعي. وعلى الرغم مما كان في نفوس البرهميين من منزلة كبيرة للزواج، فإنهم كانوا يرون العزوبة واجبة على كل من يصل إلى منزلة القديسين من رجال الدين. (د. علي عبد الواحد وافي، ص176). أما تعدد الزوجات للزوج الواحد فقد أباحته جميع كتبهم المقدسة. (د. عمارة نجيب، ص203).
# الانحرافات التشريعية التي أضافها رجال الدين للديانة البرهمية:
من غريب ما تذهب إليه الشريعة البرهمية في شئون المسئولية والجزاء أنها تأخذ بنظام المسئولية الجماعية في بعض الجرائم وتجيز أن ينتقل الجرم وتبعته إلى غير مقترفه، وقد نصت قوانين مانو على أمور كثيرة من هذا القبيل ، فمن ذلك أنها تقرر أن نكاح السفاح أو النكاح المحرم يقع إثمه على جميع الأولاد الذي يجيئون منه كما يقع على الزوجين نفسيهما.
وأن شاهد الزور يعاقب بجرمه في جهنم خمسة أو عشرة أو مائة أو ألف من أقربائه تبعاً لخطورة شهادته ومبلغ ما يترتب عليها من الإضرار بالغير، وأن الرجل الخليع ( وهو الذي تتبرأ منه طبقته وتخلعه من ذمتها لعمل ارتكبه ) إذا عاشره رجل آخر وقدم ضحية عنه أو علمه أو صاهره أو شاركه في ركوب عربته أو في مقعده أو طعامه ... فإن هذا الرجل الآخر يصبح هو نفسه خليعاً، وأن من يقتل برهمياً ( أحد رجال الدين ) ينتقل جرمه إلى من يؤاكله، وأن المرأة التي تخون زوجها ينتقل جرمها إلى زوجها نفسه. (د. علي عبد الواحد وافي، ص179، 180). ويؤخذ من بعض أسفارهم وقصصهم أنه كان يباح في شريعتهم أن يشرك في المرأة الواحدة عدة أزواج وخاصة إذا كانوا أخوة. (د. علي عبد الواحد وافي، ص178).
# انحراف أتباع الديانة البرهمية في تشريع العنصرية :
من أهم شرائع الدين البرهمي النظم المتعلقة بالتفرقة العنصرية، وتقسيم المجتمع إلى طبقات، ووظائف كل طبقة منها واختصاصها، وانتقال هذه الوظائف والاختصاصات بطرق الوراثة. وذلك أن أسفار الفيدا وقوانين مانو لا تعترف بمبدأ المساواة بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة، بل تقرر والتفاضل بينهم بحسب عناصرهم ونشأتهم الأولى . فتزعم أن الإله براهما قد خلق أربع طبقات من الناس ، وخلق كل طبقة من هذه الطبقات من طبيعة خاصة ومن موضع خاص من جسمه . فخلق طبقة "البرهميين" من فمه، وطبقة "الكشتريين" من ذراعه، وطبقة "الفيسائيين" من فخذه، وطبقة "الشودرا" أو المنبوذين من قدمه. ولما كان أشرف الأعضاء وأطهرها هو ما علا السرة، وأشرفها وأطهرها جميعاً هو الفم، ويليه في ذلك الذراع، وكان أحط الأعضاء هو ما كان أسفل السرة، وأحطها جميعاً هو القدم، لذلك كان أشرف الناس جميعاً وأطهرهم حسب العنصر والنشأة الأولى هم الذين انحدروا من فم براهما وهم "البرهمييون"، ويليهم في الفضل الذين انحدروا من ذراعه وهم "الكشتريون"، وكان أحط الطبقات الإنسانية الذين انحدروا من فخذه وقدمه وهم "الفيسائيون" و"الشودرا" أو "المنبوذين"وأكثرهم رجساً ونجساً هم "الشودرا" المنحدرون من قدم براهما. (د. علي عبد الواحد وافي، ص173، 174). وقد اجتهد غاندي في القضاء على هذه الفوارق ورد الاعتبار إلى المنبوذين ولكن جهوده لم تكلل بالنجاح، وبقي نظام الطبقات على ما كان عليه من قبل. (د. علي عبد الواحد وافي، ص175).
ويقال أن نظام الطبقات نشأ عن التقاء الآريين بالتورانيين والسكان الأصليين, ومعنى هذا أنه نشأ أول ما نشأ على أساس الجنس ويؤيد Weeck هذا الرأي فهو يقول: (وكان الآريون شعبا يفوق في نشاطه وحيويته السكان الأصليين وكانوا يعتقون اعتقادا جازما بسمو جنسهم على سواهم من الأجناس وكلمة (آري) التي عرفوا بها معناها النبلاء) . ونحن في مصدر هذا التقسيم نختلف مع مؤلف (تاريخ الإسلام في الهند) فهو يرى أن الحياة بالهند – اقتضت أن يقوم الناس بالطقوس الدينية ويقوم آخرون بالحروب وكان من الطبيعي أن توجد جماعة تقوم بالعمل في الحقول- ونسأل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يكن الآريون مثلا هم الذين يقومون بالزراعة أو الخدمة, إن المسألة – فيما يرى – ليست مقتضيات الحياة ولكنها مقتضيات السيادة والقوة التي لاحظها الآريون في أنفسهم. (د. أحمد شلبي, ص52: 55).
# الحكم والشريعة في الديانة البوذية :
تتشابه الرسالة الإلهية التي جاء بها النبي بوذا عليه السلام، تشابها كبيرا في مضمونها مع رسالة المسيح بن مريم عليه السلام، حيث كانت رسالة المسيح عليه السلام، رسالة روحية تركز على السلوك القويم وتهذيب النفوس أكثر من أي شيء آخر، وتسمو بالنفس البشرية عن الأطماع والشهوات الدنيوية الدنيئة، وذلك لأن طبيعة اليهود وقتها كانت قاسية فظة غليظة مادية مقيته، فكانت رسالته خالصة في تهذيب الروح وتنقية النفس وإشاعة التضحية والتسامح والمحبة بين الناس.
وكذلك تعد الرسالة الإلهية التي جاء بها النبي بوذا عليه السلام، من الرسالات الإسلامية العظيمة، والتي تؤسس للإنسان الهندي إنسانيته وتقيم فيه آدميته، وتنتشله من وحل العبودية لنفسه وهواه وملذاته وشهواته، فقد جاءت الرسالة البوذية للإنسان الهندي بعد أن شوهته العقائد الوثنية والشرائع المنحرفة المزعومة التي اختلقها رجال الدين البراهمة الذي غيروا رسالة الله الإسلامية الواردة في أسفار الفيدا الأصلية، حتى تعلمه كيف يروض نفسه على الحرمان من ملذات النفس وشهواتها، لتصبح حرة أبية متعالية على شتى المنافع اللحظية القصيرة، لا سبيل للشهوات والمصالح واللذات الدنيئة للتغلب عليها أو إخضاعها لها. هذه كانت هي الشريعة البوذية العظيمة التي جاءت لتحرر الإنسان الهندي من أي عبودية سوى العبودية لله وحده، وقد جاءت تلك الشريعة العظيمة بعدد من الضوابط والأوامر والأحكام والوصايا العظيمة ليتمكن من خلالها المؤمن بتلك الرسالة من إنقاذ نفسه من وحل الملذات والشهوات. وسوف نعرض لبعض ما جاء في دراسات العلماء والباحثين حول ما جاءت به تلك الشريعة العظيمة من وصايا وأحكام وأوامر على النحو التالي:
لقد نشأت الديانة البوذية بالهند كما حلت البرهمية فيها وقد كان منشئها برهميا, وهي في الواقع تخفيف لما جاء في البرهمية من تعاليم وإزالة لما أحدثته البرهمية من تفريق بين الناس يتوارث بينهم خلفا عن سلف, فلا يمحوه كر الغداة ومر العشي, بل ينتقل بالوراثة كما ينتقل الدم, ويولد مع الشخص ويلازمه وهو في المهد. (محمد أبو زهرة، ص53). ومن الكتب الثلاثة المنسوبة للبوذية، يوجد كتاب يشتمل على مجموعة قوانين البوذية ومسالكها وقد جمعت تلك المجموعة سنة 350 ق.م ويحوي العقوبة المفروضة على ما يقع من البوذي من ذنوب ومخالفات. (محمد أبو زهرة، ص109).
ولقد أوضح بوذا في إفاضة ما اعتبره الحياة الحقة ولكن كانت دعامة كل إيضاحاته وتعاريفه وتحديداته للسلوك, أقواله وتعاليمه بأن منشأ الأسى هو ما تنطوي عليه طبيعة الإنسان من حب السيطرة, ومن هنا كان من الضروري العمل للوصول إلى الحياة الحقة والتفكير الطيب, وذلك لكي نستطيع أن نقتلع هذه الصفة من طبيعة الإنسان وكأننا – بممارسة الجوع – نقتل في الإنسان شهواته الجامحة. (مانوراما موداك, ص89).
أما البوذي فغايته من النسك رياضة الإرادة على الحرمان, وتعويدها السيطرة على الرغبة في الملاذ, لكيلا تشقى بطلبها ويحز فيها الحرمان. ولقد كان أبلغ ما أحدثته البوذية من أثر في المجتمع الهندي, إلغاؤها نظام الطبقات واعتبارها بني الإنسان سواسية كأسنان المشط يتفاضلون في المواهب, ويتساوون في الحقوق, لا فرق بين شخص وشخص بنسبه أو طبقته, ولكن الفرق بينهما بالموهبة والقدرة على العمل. محا بوذا إذن الفرق بين الطبقات وتلاقي الناس في مذهبه عند الوحدة الإنسانية, من غير اعتبار للاختلاف العنصري ولا فضل لأحد إلا بالمعرفة وسيطرة الإرادة الإنسانية سيطرة تامة لا تقوى اللذات على التغلب عليها. (محمد أبو زهرة، ص107).
الجواهر الثلاث للبوذية:
التعاليم : تشير إلى تعاليم بوذا وأتباعه التي تتضمن معنى الحقيقة والطريق الموصل إليها وتعلم عن طريق الحقائق الأربع النبيلة وطريق الشعب الثماني النبيلة. (وسوف نذكرها بعد قليل)
الجماعة الدينية البوذية : تكون من عامة الرجال والنساء والرهبان والراهبات ويساعد العامة على إمداد الرهبان بالطعام والمأوى والملبس.
أما الرهبان فيقومون بتمثيل النموذج الحي لبوذا ويحافظون على التعاليم. (الموسوعة العربية العالمية, ص225).
الحقائق الأربعة النبيلة:
الحقائق الأربع النبيلة تمثل نقطة البداية عند البوذيين وتؤكد بنكران الحياة والإعراض عنها وذلك لما يأتي:
1- الألم موجود كما يلاحظ في الشيخوخة والمرض والموت ومتاعب الحياة من فراق أحبة أو لقاء أعداء .
2- أسباب الألم ناشئة عن الشهوات والرغبات التي تنمي الرغبة في اللذة والتملك والحرص على الأشياء, إن الجشع والكراهية والجهل نيران ثلاث ينبغي إخمادها.
3- هذه الأسباب قابلة للزوال فيبطل الحزن متى بطلت الشهوة وانتفت الرغبة في الأشياء ويصل الإنسان إلى السعادة القصوى التي تسمى (النيرفانا) وهي لفظ (سنسكريتي) يطلقه البوذيون على الخير الأعلى.
4- هناك طريق للسعادة يعرف بطريق الشعب الثماني يتضمن درجتين من الحكمة وأربع درجات من الأخلاق وينتهي بدرجتين من التأمل. (الموسوعة العربية العالمية, ص225).
نار الشهوة وكيف تطفأ:
إن الحياة كلها من الولادة إلى الموت لهيب وحريق, إنها نار الشهوة ونار البغض والعداء والهوى, ومن أولئك الخدم الذين يشعلون هذه النيران؟, العواطف الستة والحواس الستة : إن العين ترى الأشياء الجميلة مزخرفة اللون والأذن تسمع الأصوات الحلوة والأنف يشم الروائح الطبيعية واليد تشعر بنعومة الريش أو الحرير والفم أو الحلق يقول إن ثمر المانجو هذا لذيذ حقا والقلب يتأثر بالأشياء المرغوبة – هؤلاء هم العبيد الستة الذين يسعون لتنفيذ أوامر سيدهم فيجمعون الحطب فتزداد النيران اشتعالا.
ولكن هناك طريقا لإخماد هذه النار, اتبعوا الصراط السوي النير إن هذا الصراط مستقيم لا عوج فيه أما بابه فهو تطهير الذهن ونهايته السلام والحنان لكل الخلق من الأحياء. إن الذي يسلك هذا الصراط لا يقول إنني أنا وذلك الإنسان غيري ولذلك ففي نفعه خسارتي ! كلا ! بل هو يقول: (يجب عليّ أنا الذي فزت بالبصيرة أن أشعر بالحب والحنان لكل الخلق الذين قيدوا بهذه الأغلال, أغلال العلة وتعدد الحياة ولقد كسرت أنا هذه الأغلال بنفسي بقلع الشهوة من قلبي فيجب عليّ الآن أن أسعى للكل وأجعلهم أحرارا). (د. أحمد شلبي, ص158).
القيود التي تعترض طريق الإنسان في الوصل إلى النجاة:
هناك قيود عشرة تحول دون بلوغ الإنسانية درجة النجاة والسلام وتلك القيود هي:
1- الوهم الخادع في وجود النفس.
2- الشك في بوذا وتعاليمه.
3- الاعتقاد في تأثير الطقوس والتقاليد الدينية.
4- الشهوة.
5- الكراهية.
6- الغرور.
7- الرغبة في البقاء المادي.
8- الكبرياء.
9- الاعتداد بالبر الذاتي.
10- الجهل.
ومن الممكن تحطيم هذه القيود لمن يؤمن بالحقائق الأربعة ويعمل في ضوء هديها وتتحطم هذه القيود شيئا فشيئا على درجات أربع:
1- فمجرد الإيمان بالحقائق الأربعة يحطم القيود الثلاثة الأولى لأن الإيمان بها هو اتباع لأفكار بوذا وذلك يستلزم عدم الشك فيه وعدم الاعتقاد في الطقوس والتقاليد الدينية (الهندوكية وغيرها) واتباع بوذا في فكرته عن التناسخ وأن الإنسان حلقة في سلسلة متتابعة وليس له وجود مستقل.
2- وعندما يؤمن الإنسان بالحقيقة الثانية وهي أن علة الألم هي الرغبات والشهوات تخف حدة الشهوة والكراهية والغرور في نفسه.
3- فإذا اتبع الحقيقة الثالثة وتأكد أنه لا بد للقضاء على الألم من القضاء على الشهوة تحطمت قيود الشهوة والكراهية والغرور تحطيما نهائيا.
4- فإذا اتبع الحقيقة الرابعة واتبع الشعب الثماني وتخلق بها تهدمت باقي القيود العشرة وبذلك يصل الإنسان إلى الهدف السامي الذي يطلبه وهو (النيرفانا) أو النجاة. (د. أحمد شلبي, ص164، 165).
ومن الشرائع والأحكام البوذية أنه على الراغب في الالتحاق بها أن يتنازل عن ماله وعقاره ويحمل مخلاته للسؤال وينضم للجماعة ويتخلق بأخلاقهم. وليس ضبط النفس وقهر الشهوات بدرجة واحدة بين أتباع بوذا بل كانوا يتفاوتون في ذلك تبعا لمقدرتهم الخاصة. والاحترام للحياة إنسانية كانت أو حيوانية من أهم أخلاق البوذية, فليس لبوذي أن يقتل حيوانا في لهو كالصيد أو في جد كذبحه للأكل بل عليه أن يرفق بالحيوان ويعده أخاه في الخلق ولا يراه خلقا أدنى منه فالهدوء الروحي والحب لكل نسمة هو ما أرشد له بوذا. (د. أحمد شلبي, ص173).
# الحكم والشريعة في الديانة الكونفوشيوسة :
أما رسالة كونفوشيوس عليه السلام فكانت رسالة تجديدية إصلاحية لنظام الحكم والحكام في الصين، وقد جاءت رسالة كونفوشيوس لتحيي التعاليم القديمة التي جاءت في الرسالة العامة المفصلة الكبرى التي سبقته، فكانت شريعة كونفوشيوس تركز في أحكامها وأوامرها ووصاياها على الإصلاح في نظام الحكم بتبني الفضيلة والسلوك الإنساني الراقي، وقد وضع كونفوشيوس المعرفة وعدم التفريق بين الناس في التعلم من أهم آلياته الدعوية لرسالته. وسوف نعرض لبعض التعاليم والوصايا التي حوتها شريعة النبي كونفوشيوس من خلال الدراسات والأبحاث التي توصل لها العلماء على النحو التالي:
من أقواله المأثورة عن التعليم: (يجب أن تزول الاختلافات الطبقية في التعليم, وإنني أرفض قط تعليم أي فرد حتى إن وفد إلىّ على الأقدام وليس لديه ما يقدمه لنا). (د. فؤاد محمد شبل, ص67)، ومن الأسباب التي ساقها كونفوشيوس لإقناع الناس بكفاية الحل وأهليته: لا يضع في حسابه أي ضرب من ضروب النفع المادي لاستمالة الناس لممارسة الفضيلة الكاملة. فلقد أوضحت له تجربة حياته أن الناس يزدرون الفضيلة ويضحون بها, وقد أهاب بمريديه بأن يوطنوا النفس على مجابهة الفقر وملاقاة الكروب. ولا يتفق الجري وراء المكسب المادي مع قواعد الفضيلة, بل إنه ليجافيها في غالب الأحيان, فما المنفعة المادية إلا مطلب ضعيف العقل قصير النظر. (د. فؤاد محمد شبل, ص72). ومن مبادئ كونفوشيوس السياسية لتقويم الناس وبث روح التضامن في نفوسهم يسلّم بضرورة التعليم: وفي هذا يقول: (إذا ما حاول حاكم قيادة الشعب بالاستعانة بالسلطة المطلقة وتوقيع شتى العقوبات لإقرار الأمن والنظام, فسينشد أفراد الشعب تحاشي العقوبات غير عابئين باحترام السلطان واحترام إرادته . ولكن إن استعان الحاكم لقيادتهم بالفضيلة – بفضل السنة والقدوة الحسنة – وارتكن على العرف والعادات الصالحة التي يوقرها الشعب وتنزل بينه منزلة القديس فها هنا يرتبط الناس برباط معنوي مكين لتقويم أنفسهم وإصلاح حالهم). ولما سأل أحد مريديه عن موقف الوزير تجاه الحاكم أجابه: (على الوزير ألا يخادع الحاكم, وله أن يعارضه علنا إن اقتضى الأمر). وقد أخبر كونفوشيوس حاكم ولاية (لو) أنه إذا ساءت تصرفات الحاكم ولم يبذل المحيطون به النصيحة له فهذا كفيل بتدمير الدولة. (د. فؤاد محمد شبل, ص79، 80).
ومن رأيه أن الإنسان القويم يتصرف وفقا لما تمليه عليه مشاعره, في حين يتصرف الإنسان المعوج حسبما يراه الآخرون. لكنه يربط الاستقامة بالمعرفة في قوله: (حب الاستقامة من غير حب المعرفة يقود إلى حجب الاستقامة بستار ضار). ولا يؤمن بتولي فرد – مهما يكن من شأنه – إرغام الناس على اعتناق مذهب على غير إرادتهم وتوجيه شئونهم وفقا له, ومن أقواله في هذا الشأن: (إذا كان الإنسان لا يسأل نفسه عما هو صواب ليفعله وما هو خطأ ليتجنبه, فلا أدري ما الذي يمكنني فعله معه). وهو القائل: (الاكتفاء بتناول الطعام الغليظ وشرب الماء القراح والاضطجاع على وسادة عادية يبعث في النفس البهجة والسعادة, إن الثروات ومراتب الشرف التي تنال بوسائل غير مشروعة هي عندي كالسحب التي تسوقها الرياح). (د. فؤاد محمد شبل, ص86). وقال ذات مرة: (عندما أكون في جماعة تتألف من ثلاثة أسعى إلى محاكاة الصفات الطيبة التي أجدها في أحد صحابتي وأتجنب الصفات القبيحة التي ألمسها في صاحبي الآخر). وكان يقدس الحقيقة, وفي هذا يقول: (أولئك الذين يدركون الحقيقة لا يتسامون إلى مرتبة أولئك الذين يحبونها, لكن من يحب الحقيقة لا يرقى إلى مرتبة من يفرح بها). (د. فؤاد محمد شبل, ص88).
وسأله أحد تلامذته عما يعنيه بلفظ الإنسانية فأجابه: (أن تتصرف وأنت خارج دارك كما لو كنت في حضرة ضيف عظيم الشأن, تعامل مع عامة الناس كما لو أنك تؤدي فريضة دينية, هنا ينتفي السخط في الدولة والمنزل. وعلى المرء الراغب في بناء رفعته أن يساهم في تشييد رفعة الآخرين, وعلى من يتوق إلى النجاح أن يساعد غيره على بلوغه). واستخبر أحد تلامذة كونفوشيوس عن ماهية (المحبة) فقال: (أن تكون قادرا على ممارسة خمس فضائل في كل ناحية من نواحي العالم وهي: المجاملة – النخوة – سلامة النية – المثابرة – الإحسان . ولا تعني المجاملة: الإذلال . وذو النخوة يجتذب الجميع إلى صفه, وسليم النية يثق به الناس, والمثابر يبلغ هدفه, والمحسن يقبل الناس على خدمته . ومن غير المحبة يعجز الإنسان عن احتمال قسوة الحياة, ولن يستطيع الاستمتاع بالرفاهية). وسأله أحدهم: (ماذا ترى في مجازاة الإساءة بالإحسان؟) فأجاب: (كيف تجازي الإحسان إذن؟ جاز الإساءة بالعدل والإحسان بالإحسان). ويقول كونفوشيوس: (الثروة وألقاب الشرف هي ما يرغب فيه كل إنسان, ولكن إن حصل عليها المرء بالتعدي على السبيل القويم يجب ألا يحتفظ بها. والفقر وضعة المنزلة يكرههما كل إنسان ولكن إن أمكن تجنبهما بانتهاك حرمة السبيل القويم وجب الرضى بهما . إن نأى الإنسان المهذب عن الخلق الكريم فكيف يكون جديرا بحمل اسمه؟). (د. فؤاد محمد شبل, ص89، 90). سأله أحد مريديه عن (الإنسان الماجد) فأجاب: (قلبه خلو من الخوف والقلق. فهو عندما يستعرض أعماله لا يجد سببا للخشية من الناس أو مبررا لعذلهم إياه أو تبكيت ضميره. ولمنهاج الماجد ثلاث زوايا: لا يحس بالقلق لكرم أخلاقه, وهو لحكمته برئ من الحيرة والتشويش, ولشجاعته لا يخشى أحدا).
الحكم بوساطة الفضيلة الشخصية:
إذا كان الحاكم نفسه قويما عادلا تنصلح أحوال الجميع دون حاجة إلى إصدار الأوامر, أما إذا تنكب الحاكم جادة الصواب فلن يستجيب أحدا لأوامره. وسأله أحد مريديه عن صفة الطبقة الحاكمة, فأجاب: يتولى نفسه إسعاد الناس جميعا, وإن استعانة الحاكم بالقوانين لقيادة الناس وتسيير شئونهم بفرض العقوبات يفقد الناس معنى الحياء. على الحاكم أن يقود الناس بالحكمة ويكبح جماحهم بقواعد اللباقة وعندئذ يسيطر عليهم معنى الحياء وتسودهم الطيبة والصلاح. واستفسر أحد مريديه عن جدوى الحكم بالإعدام في إرغام الناس على إطاعة القوانين, فأجاب: ما هي الضرورة للاستعانة بعقوبة الإعدام لتقويم الناس؟ إن الناس يقتدون بالحاكم, فلو صلح حاله صلحت أحوالهم ولو ساءت أموره ساءت أمورهم. إن فضيلة الحاكم الصالح يمكن مقارنتها بالريح وفضيلة الرعية بالأعشاب البرية, ولا تملك الأعشاب سوى الانحناء تحت ضغط قوة الريح. وسأله أحد الحكام عن الحكومة الصالحة, فأجاب: (تكون الحكومة صالحة إذا ما كان الخاضعون لسلطانها سعداء, والبعيدون عنها تواقين للانضواء تحت لوائها) (د. فؤاد محمد شبل, ص92).
وقد أحزنه كثيرا ما يغشى الصين من فوضى وخروج على القانون, فاحتفظ لنفسه صورة مثل أعلى لحكومة أحسن وحياة أفضل. وأخذ يتنقل من ولاية إلى أخرى باحثا عن أمير يأخذ بنظرياته في التشريع والتعليم وينفذها, ولكنه لم يعثر قط على ذلك الأمير وحين عثر عليه أحاطت به مؤامرات رجال البلاط فقوضت سلطان كونفوشيوس على الأمير وتغلبت في النهاية مشروعاته الإصلاحية. ويتلخص مذهب كونفشيوس في منهج عيش الرجل النبيل أو الأرستقراطي أو المثل الأعلى – أي أنه شغل بسلوك الشخص وأفعاله, فاهتم بالشئون العامة ورثى لاضطراب العالم وتعاسته وأراد أن يحمل الناس نبلاء – أي فضلاء – رغبة في إيجاد عالم فاضل. لذلك حاول أن ينظم السلوك إلى درجة تفوق المألوف وأن يدير القواعد السليمة لكل مناسبة من مناسبات الحياة, وكانت صورة السيد المهذب الذي يهتم بالشئون العامة والذي يأخذ نفسه بالأديب الصارم هي المثل الأعلى. (د. عمارة نجيب, ص231). ويقول في قوة وإيمان بما يقول: (إن الحاكم إذا شغف بالآداب الفاضلة لا يجترئ أحد من رعيته على إهانة غيره, وإذا شغف بالصدق لا يجترئ أحد على الكذب ومن هذه حالة أقبل عليه الناس حاملين أولادهم على ظهورهم). (محمد أبو زهرة, ص105).
فهو يقول: (إن كان سلوك الرئيس مستقيما أطاعه المرءوسين من غير أن يأمرهم, وإن كان غير مستقيم لم يطيعوه ولو أمرهم). ولذلك يرى أن قيادة النفس بالآداب والأسوة الحسنة هي التي تتبعها الطاعة التي لا يحاول الشخص فيها العصيان إلا وتأنيب الضمير يرصده فيقول, فهو يقول: (الرعية إذا قدتها بالأحكام الصارمة والعقوبات الزاجرة فستحاول التخلص منها. وهي غير مستحيية من مخالفتها, وإذا قدتها بالفضائل وأصلحتها بالآداب تستحي من ارتكاب الجرائم وهي صالحة). وسأله أحد تلاميذه عن ضروريات السياسة فقال: (من ضروريات السياسة الأقوات الكافية وذخائر الحرب الواقية, وثقة الرعية. فقال التلميذ: ( لو اضطررنا إلى حذف واحد من هذه الثلاثة فبأيها نبتدئ بالحذف؟ فقال: (احذفوا ذخائر الحرب) قال: (لو اضطررنا إلى حذف أحد هذين الأمرين فأيهما نحذف؟ وأيهما نبقي؟). قال: (احذفوا الأقوات, فإن الموت حظ الإنسان منذ الغابر من الأزمان ولكن السياسة لا تقوم إلا بثقة الرعية. (محمد أبو زهرة, ص106، 107).
وسأله أحد تلاميذه قائلا: (كيف يجعل الحاكم رعيته يجلونه ويثقون به مخلصين ويتواصون بالخير فيما بينهم؟ فقال مجيبا: إذا قابلهم بالصمت والوقار أجلوه. وإذا كان بارا بوالديه شفيقا على قومه أخلصوا له, وإذا رفع الصالحين وأعان العاجزين تواصوا بالخير)، وسأله أمير مقاطعته قائلا: (كيف تكتسب طاعة الرعية؟) فأجابه بقوله: إذا أعلى الصالحون وأبعد الطالحون أطاعت الرعية وإذا أقصى الصالحون وأدنى الطالحون عصت الرعية). فولاية أهل الصلاح في نظره تجذب الناس إلى الثقة بالحاكم وتحملهم على طاعته, وتساعد الحاكمين على الوصول إلى غايتهم السامية من تهذيب الأخلاق, ولذا كان يقول: لو تداولت أيدي الصالحين شئون الدولة لمدة قرن واحد لتهذب الظالمون جميعا, ولاستغنى الحاكم عن عقوبة الإعدام.
وقال في قوة: (آمن بالحق وأحب العلم واتبع الفطرة, ولا تقم في مملكة سادتها الفوضى, واطلب المنصب إذا كانت البلاد محكومة بسياسة حكيمة, واعتزل إذا كانت تحت سياسة غاشمة, فمن العار أن تفتقر وتبتعد والبلاد تحت سياسة عادلة, ومن العار أن تغنى وتعتز والبلاد تحت سياسة غاشمة). وكان يقول: (لا يكن همك أن تتولى المنصب, بل ليكن همك ما يؤهلك لهذا المنصب, ولا تهتم بجهل الناس قدرك, بل اهتم بالفضل الذي تريد أن يعرفوك به). وقال يقول: (من يخدم الأمراء فليجعل العناية بأداء الواجب في المحل الأول وأمر الراتب في المحل الثاني). (محمد أبو زهرة, ص109). وقد اعتزل هو منصبه لما رأى أن أمير المقاطعة قد استولت عليه الشهوات واستحوذت على بصيرته, ولما ناقشه تلاميذه في اعتزاله مناصب الدولة قال لهم: (لماذا يهمكم أن يفقد أستاذكم منصبه!! إن البلاد قد خلت من العدل والاستقامة من زمن بعيد وستتخذ السماء أستاذكم ناقوسا لها). (محمد أبو زهرة، ص109، 110).
وهذا ما لم يرض عنه كونفوشيوس إذ كان يمقت الحرب إلا أن استخدمت لردع فريق من الناس يسعى لاستعباد فريق آخر ولا ينفع لردعه عن العدوان إلا استخدام القوة . إذ كان كونفوشيوس يعد القوة الملجأ الأخير الذي لا يستخدم إلا بعد استنفاذ أساليب الإقناع وأن يلجأ إليها لكفالة العدالة ليس إلا وتطالعنا مبادئه في هذا المقام التي عبر عنها بأقواله التالية:
أولا: إذا أحسست صادقا بخطئي يأخذ الخوف بمجامع قلبي حتى لو كان خصمي لا يؤبه له لكن إن أنبأني ضميري أنني على حق فإنني أمضى قدما إلى الأمام حتى لو لاقتني الحشود الهائلة.
ثانيا: لا يستطيع جيش أن يقاتل بفاعليته إن لم يدرك جميع المقاتلين – بما فيهم الجند العاديون – السبب الذي يقاتلون من أجله وأن يقتنعوا بعدالة قضيتهم فالروح المعنوية تتوقف على المعنوي.
ثالثا: قيادة أناس إلى معترك القتال دون أن يتعلموا الحرب, يعني القضاء عليهم. (فؤاد محمد شبل , ص69، 70).
# الحكم والشريعة في الديانة الزرادشتية :
تحث الشريعة الزرادشتية على العمل والسعي في مناكب الأرض لكسب الرزق وإنتاج الثروة، وخاصة الإنتاج الزراعي وتربية الماشية. فمن نصوصها المقدسة أن من يشق الأرض بمحراثه خير ممن يقدم ألفا من القرابين وممن يقدم عشرة آلاف من الأدعية والصلوات. وتحث على النظافة والقضاء على الحيوانات المؤذية، وتضع على كاهل الفرد واجبات نحو نفسه وجسمه وأفراد أسرته وأفراد مجتمعه والإنسانية جمعاء، وتوجب صيانة النفس والمحافظة على الصحة، وتحرم الانتحار تحريماً باتاً، لأنه جناية على النفس والوطن، وتجعل الزواج واجباً على كل قادر عليه، وتحث على تعدد الزوجات ليكثر النسل ويزداد عدد الجنود المحاربين في سبيل النور. (د. علي عبد الواحد وافي، ص153).
وقد ورد في الأبستاق أن الله (أهورا مزدا) قد أوحى إلى زرادشت أن المتزوج أعلى منزلة من الأعزب ولو كان تقيا عفيفا, وأن من له بيت (أسرة وزوجة) أعلى منزلة عند الله ممن ليس له بيت, وأن من له خلف أعلى منزلة ممن ليس له خلف. وكانت أكبر كارثة تحل بالرجال عند الزرادشتيين ألا تكون له ذرية, وكانوا يعتقدون أن من يدركه الموت قبل أن ينجب أولادا لا يلج باب الجنة. (د. علي عبد الواحد وافي، ص153).
وتشبه أسفار الأبستاق وشروحها أسفار اليهود في استيعابها لجميع فروع الشريعة, فهي لا تغادر أي فرع من فروع الحياة الفردية والاجتماعية إلا وضعت له قواعد يسير عليها حتى شئون الأكل والشرب وحلق الشعر وتقليم الأظافر. ومن الغريب أن سفر (الونديداد) يضع في صدد قلامات الأظافر والشعر تعاليم واحتياطات تشبه ما يعتقده الآن كثير من العامة في مصر وغيرها, فيذكر أنه من واجب الإنسان أن يضع قلامات أظفاره وقصاصات شعره على منضدة أمامه, ويحرص عليها كل الحرص حتى لا يضيع منها شيء, ثم يحملها بعناية ويخفيها في حفرة قديمة, وإلا كانت عرضة لأن تمتد إليها أيدي السحرة والمشعوذين فيستخدمونها في سحر صاحبها. (د. علي عبد الواحد وافي، ص154).
(وللحديث بقية).
Nehro_basem@hotmail.com
# قائمة بالمراجع :
1. الموسوعة العربية العالمية, مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع, المملكة العربية السعودية, 1996.
2. د. عمارة نجيب, الإنسان في ظل الأديان: المعتقدات والأديان القديمة, المكتبة التوفيقية، القاهرة 1977.
3. د. أحمد شلبي, مقارنة الأديان, أديان الهند الكبرى, الهندوسية– الجينية– البوذية, الطبعة الخامسة, مكتبة النهضة المصرية 1979.
4. محمد أبو زهرة، مقارنات بين الأديان "الديانات القديمة"، دار الفكر العربي، القاهرة.
5. د. مانوراما موداك, الهند-شعبها وأرضها, ترجمة: العميد محمد عبد الفتاح إبراهيم, مراجعة وتقديم: الدكتور عز الدين فريد, مكتبة النهضة العربية, القاهرة 1964.
6. د. فؤاد محمد شبل, حكمة الصين: دراسة تحليلية لمعالم الفكر الصيني منذ أقدم العصور, الجزء الأول, دار المعارف بمصر.
7. د. علي عبد الواحد وافي، الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، مكتبة نهضة مصر، الفجالة 1964.