العبرة والعظة فى إغتيال السفير الروسى فى تركيا :
إغتال أمس ( 19 ديسمبر 2016 ) ضابط تركى شاب ( مولود ميرت الطنطاش ( 22 عاما ) السفير الروسى اندريه كارلوف (62 عاما ) عندما كان السفير يلقي كلمة خلال افتتاح معرض صور في أنقرة بعنوان "روسيا بعيون أتراك".. صرخ القاتل "الله أكبر" وهو يطلق النار على الدبلوماسي.وقال القاتل بعد إطلاق النار على السفير: "نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما دمنا على قيد الحياة".. كما كان يصرخ: "لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا"، وقال أيضا "كل شخص له يد في هذا الظلم سيدفع الثمن"..
مع إدانتنا لهذا الاغتيال فإننا نضع وجهات نظر للعبرة والعظة :
أولا : القاتل هنا نموذج كلاسيكى للإرهاب الوهابى
1 ـ القاتل صنع من نفسه المفتى والقاضى والجلاد . اصدر بنفسه حكم الاعدام على السفير وقام بالتنفيذ . يحدث هذا فى عمليات الإغتيال ، ولكن القاتل هنا يزعم لنفسه صبغة دينية إلاهية ، فهو يهتف ( الله اكبر ) على عادة الارهلبيين الوهابيين ، أى أنه مخوّل من الله جل وعلا بقتل السفير ، وانه مبعوث العنايةالالهية لإعدامه ، ثم يؤكد هذا بقوله : ( نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما دمنا على قيد الحياة"..).!!. متى بايع النبى محمدا على الجهاد ؟ . ثم يصرخ فى قلوب الارهابيين يحرضهم على إكمال مسيرته : "لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا"، "كل شخص له يد في هذا الظلم سيدفع الثمن"..
2 ـ قوله : ( نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما دمنا على قيد الحياة"..) يؤكد إنتماءه للدين السُنّى الوهابى . الدين السُّنّى صنع شخصية للنبى محمد عليه السلام تتناقض مع شخصيته الحقيقية فى القرآن الكريم ، فإذا كان الله جل وعلا قد أرسل خاتم المرسلين بالقرآن الكرم رحمة للعالمين : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الانبياء ) فإن الدين السنى الوهابى يؤمن بشخصية مصنوعة للنبى محمد تجعله إرهابا للعالمين . وبالتناقض مع الدين الوهابى السنى القائم على الارهاب والتخصص فى قتل المدنيين والمسالمين والقتل العشوائى للجميع فإن دين الاسلام مؤسس على السلام والقتال فيه للدفاع ضد هجوم معتد فقط ويتوقف القتال الدفاعى بتوقف الاعتداء الحربى ، ويمتنع فيه قتل غير المحاربين ، بل إن المقاتل فى الجيش المعتدى إذا سلّم نفسه فى أرض المعركة مستجيرا فعلى المسلمين إجارته وتوصيله الى مأمنه بعد أن يسمعوه القرآن : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) التوبة ) بل لو أن المقاتل فى الجيش المعتدى ألقى تحية الاسلام ( السلام عليكم ) فقد حقن دمه وتتعين حمايته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) النساء) . هذا فى المقاتل فى أرض المعركة فكيف بإنسان لا يرفع سلاحا ؟ .
ثانيا : القاتل نتاج للثقافة الوهابية التى أرساها حزب أردوجان
1 ـ حزنت حين نجح أردغان فى إجهاض الانقلاب العسكرى . فى إعتقادى أن نظام حكم اردوجان أشد خطرا على تركيا واقليم الشرق الأوسط من النظام العسكرى الديكتاتورى . ليس للنظام العسكرى أيدلوجية دينية ـ مجرد العلمانية التى تربى عليها الأتراك ، ومن ثم سيكون هذا الانقلاب العسكرى التركى حلقة من حلقات الصراع ( العلمانى ) بين العسكر والأحزاب المدنية ، وهى عملية شاقة للتحول الديمقراطى لكنها تنتهى الى الديمقراطية طالما كانت الوهابية خارج الصورة .
كان هناك صراع العسكر مع الأحزاب المدنية فى باكستان والسودان ، حكم حزبى لا يخلو من الفساد ثم إنقلاب عسكرى ، وانتهى الأمر بالسودان الى انقلاب عسكرى وهابى قام به حسن البشير متحالفا مع حسن الترابى فأسقط الحكومة المنتخبة للصادق المهدى عام 1989 ، ولا يزال يحكم البشير العسكرى الوهابى حتى الآن فأضاع حوالى نصف السودان ، وهو مجرم هارب من القانون الدولى . نفس الحال فى باكستان التى أفسدت أفغانستان : توالت فيها الانقلابات العسكرية والحكم المدنى الفاسد مع وجود الوهابية والتأثير السعودى الوهابى بين العسكر والأحزاب المدنية وداخل الشعب الباكستانى ، والآن يحكم باكستان المدنيون فى الواجهة بينما يسيطر العسكرعلى مقاليد الأمور ويعتنق الجميع الوهابية . أفسدت الوهابية التحول الديمقراطى ، وأنهت صراع العسكر مع الأحزاب المدنية لصالح الوهابية ونظم إستبدادية فاسدة تكتفى بديكور ديمقراطى تمارس من خلاله الفساد والاستعباد والاستبعاد .
العسكر الأتراك بثقافتهم العلمانية ( الأتاتوركية ) وبإلاستعلاء التركى المعهود ترفض الوهابية الصحراية النابعة من مناطق كانت ولايات عثمانية من قبل ، لذا كان منتظرا أن يكون الانقلاب العسكرى الأخير فى تركيا حلقة تعيد هذا الصراع بين العسكر والقوى المدنية ،وأنه يمكن للعسكر الأتراك ــ لو حكموا ـ أن يستأصلوا شأفة الوهابية فى المجتمع التركى ، وبالتالى يصبح المناخ السياسى مؤهلا لثقافة الديمقراطية ، بما يؤسس حكما ديمقراطيا ، لأن الحكم الديمقراطى يستلزم تعلم الثقافة الديمقراطية فى الأسرة والمدرسة والشارع والمؤسسات السياسية والاجتماعية والحقوقية والنقابية ..
2 ـ وفى لمحة تاريخية سريعة نقول :
قامت الدولة العثمانية امبراطورية استمرت حوالى ستة قرون ، وكانت تعتنق التصوف السًنّى على أنه الاسلام وفق السائد وقتها . ضعفت الدولة العثمانية ثم أسقطها حزب الاتحاد والترقى العلمانى المتعصب للقومية التركية الطورانية ، وتعزز هذا برئاسة مصطفى أتاتورك رئاسة تركيا رئاسة الجمهورية من عام 1923 الى 1935 . ألغى مصطفى كمال الخلافة وأنهى التعليم الدينى وسائر المظاهر الدينية وفرض العلمانية دينا وعمل على تحديث تركيا لتلحق بالغرب . توفى أتاتورك فى نوفمبر عام 1938.، وترك جيشا قويا يتنافس مع الحكومات المنتخبة ، فى ظل ضعف معتاد لثقافة الديمقراطية وتهميش للزعامات الدينية . وما لبث أن عرفت تركيا الانقلابات العسكرية وصراع العسكر والقوى المدنية .كان أول إنقلاب عسكرى عام 1960 ، برعاية أمريكية وقد أعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس، ووزير الشؤون الخارجية، فاتن روستو زورلو، ووزير المالية، حسن بولاتكان، وفشل الانقلاب بعد شهر .وشب إنقلاب عسكرى عام 1971 بسبب الفساد السياسى والاضطرابات ، ومنها ما أثارته حركات دينية وهابية تعادى العلمانية الأتاتوركية والتبعية للغرب . ولم ينجح الانقلاب فى كبح الاضطرابات التى قامبها الشيوعيون وحزب اربكان الدينى حزب النظام الوطني ، مع توالى الوزارات تحت سيطرة الجنرالات قام إنقلاب شكلى عام 1993 ، مع وقوع الصدام التركى الكردى بظهر حزب العمال الكردى وزعيمه عبد الله اوجلان ، حدثت مذابح . وإستمر الجنرالات فى سيطرتهم من وراء ستار ، وفى عام 1997 أقال العسكر رئيس الوزراء نجم الدين اربكان ، وتبعه حملة عسكرية عنيفة على كل مظاهر التدين مع مصادرة للحريات وانتهاك حقوق الانسان . وكان رد الفعل الشعبى هو تأييد حزب العدالة والتنمية ففاز فوزا ساحقا فى انتخابات 2003 . وبدأ ظهور أردوجان خصما للجنرالات ، وأثناء دراسته في الجامعة، تعرف على نجم الدين أربكان أول رئيس وزراء دينى لتركيا.وأسس أردوغان وبعض رفاقه حزب العدالة والتنمية عام 2001 بعيدا عن حزب الفضيلة الذي حظرته السلطات آنذاك.وواصل اردوجان طريق استاذه يطمح الى إستعادة مجد الامبراطورية العثمانية . وأتاح إنتصاره على الانقلاب العسكرى الأخير فى تقليص سلطة الجيش وتطهير المؤسسات التركية من خصومه العلمانيين ، وتقوية النزعة الدينية الوهابية ، وادخل نفسه لاعبا رئيسا فى مستنقع الشرق الأوسط .
3 ـ القاتل التركى الصغير الذى قتل السفير الروسى من مواليد عام 1994 . هو نفس العام الذى شهد صعود اردوغان أول سُلّم فى حياته السياسية حين تولى منصب رئيس بلدية أسطنبول . ثم قضى اردوغان أربعة أشهر خلف القضبان عام 1999 بعد اتهامه بالتحريض على أساس ديني.وكان قد تلا علنا إحدى القصائد التي جاء فيها: "المسجد معسكرنا، وقبابه خوذاتنا، والمآذن رماحنا، والمؤمنون هم جنودنا ".هو خطاب لا يختلف عن هتاف القاتل التركى الصغير .
أخيرا :
1 ـ هناك علمانية غربية مستنيرة تؤسس حرية الدين والفكر والرأى والابداع ، وتجعل من هذه الليبرالية ثقافة شعبية تترعرع فيها الديمقراطية وحقوق الانسان والعدل الاجتماعى . وهناك علمانية شرقية ظلامية جهولة ، بعضها متطرف يعادى الدين ـ أرضيا كان أم سماويا كالعلمانية التركية ، وبعضها الآخر يستخدم الدين الأرضى فى تغييب الناس وفى ركوبهم كالعلمانيات فى نظام صدام ومبارك والأسد وبن على وبوتفليقة .
2 ـ لا يمكن إقصاء الدين بالقمع ، وحتى مع محاولة إقصائه فهو الغائب الحاضر . بعد تطرف الشيوعية فى محاربة الدينية سقط الاتحاد السوفيتى فظهرت الأديان الأرضية من مرقدها بديلا فى البلقان تثير المذابح ، وتنذر بمذابح أخرى فى دول أواسط آسيا ( التى كانت من قبل فى الكومنولث السوفيتى ) .
وفى الحالة التركية فالدين لصيق بالشخصية التركية ، به ـ الدين الصوفى السنى ـ ظهرت الدولة العثمانية وتحت شعاره حكمت دولا فى أوربا وآسيا وشمال وجنوب البحر المتوسط . وبه أصبح لقب ( التركى ) فى العصور الوسطى الأوربية مرادفا لكلمة ( مسلم ) . ستة قرون من الارتباط بدين ( أرضى ) منح الأتراك عزة وفخرا لا يمكن أن تشطبه قوة عسكرية جهولة فى ستة عقود . بل حدث العكس هو تحول الدين الأرضى ( التصوف السنى المسالم ) الى دين الوهابية السنية المسلح الارهابى . ( فأى فعل له ردّ فعل مساو له فى القوة مضاد له فى الاتجاه ).! وهذا هو واقع تركيا الآن والذى ينذر بتحولها الى ساحة إقتتال ، لا يقتصر على الاقتتال التركى الكردى بل يمتد الى إقتتال شيعى سُنّى ، وإقتتال وهابى وهابى . وهذا ما سيجلبه الى تركيا السلطان العثمانى الجديد رجب طيب اردوجان .
الذى لا يعرفه أردوجان أن الوهابية تحمل فى داخلها عناصر فنائها ، وعناصر الاقتتال بين عناصرها . وما يحدث فى الساحة السورية أبلغ دليل ، وما حدث ويحدث فى السعودية دليل آخر . الوهابية تعطى السلطان شرعية الاستبداد ، وفى نفس الوقت تعطى من يثور عليه شرعية تكفير السلطان وإستحلال قتله والثورة عليه . فإذا كانت الوهابية تعطى السلطان العثمانى رجب طيب أردوعان شرعية الاستبداد والتخلص من خصومه باسم الشرع ( الوهابى المتمسح بالاسلام ) فهى أيضا تعطى كل خصومه شرعية تكفيره وقتله والوصول الى العرش على جثته .
3 ـ لا يمكن إقصاء الدين الأرضى ، ولكن يمكن إصلاحه بالاسلام . وهذا هو جهادنا أهل القرآن فى الاصلاح السلمى ، وفى التبشير بالقيم الاسلامية الأصيلة من حرية الدين والديمقراطية المباشرة والعدل والرحمة والاحسان والتسامح وحقوق الانسان . نحن ندعو لهذه القيم الاسلام ، نستشهد بالقرآن الكريم المصدر الوحيد للاسلام ، وبه نسلط الضوء على فضائح التراث وأديانه الأرضية . ولو كان للعسكر الأتراك عقل مستنير لقرنوا علمانيتهم بالقيم الاسلامية ، أو على الأقل قاموا بتطعيمها بالقيم الغربية ـ وهى قريبة جدا من القيم الاسلامية .
5 ـ ويظل القاتل التركى الصغير ضحية للوهابية التى نشرها أردوغان ، وليس مستبعدا أن يكون أردوغان من ضحاياها .
6 ـ نرجو السلامة لتركيا بأتراكها وأكرادها وسائر أقلياتها .