مباراة حربية بين إيران والسعودية (4)

سامح عسكر في الجمعة ٢٣ - سبتمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ عدة أشهر نظّم التيار الصدر مظاهرات حاشدة ضد التدخل الإيراني في العراق، وكانت مفاجأة للعديد من المتابعين..خصوصا وأن إيران قدمت الدعم العسكري والسياسي للعراق ضد داعش، ولكن ربما هؤلاء لا يعلمون حجم الخلاف بين مرجعيتي .."قم والنجف".. الشيعيتين، وأن التيار الصدري لا يؤمن بولاية الفقيه، وهي رؤية اجتهادية إيرانية ظهرت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

كذلك حجم الخلاف بين مقتدى الصدر والجنرال الإيراني."قاسم سليماني"..مؤخرا بسبب استبعاد سرايا السلام (الصدرية) من الحرب ضد داعش واستبدالها بقوات الحشد الشعبي التي شكلت بفتوى السيستاني، ولدعم إيران حيدر العبادي الذي يراه الصدريون ضعيفا ولا يصلح لقيادة العراق، ومظاهرتهم مؤخرا ضد العبادي حملت تنوعا للأهداف منها إقصاء العبادي أو بعض الوزراء والمحافظين ومنها أيضا كارت إرهاب لإيران لحملها على وقف تدخلاتها في الشأن العراقي الداخلي ورعايتها لبعض المنظمات والأحزاب الموالية للدولة..

هذا الوضع السياسي يجعل من العراق (رقم صعب لإيران) وأن المصلحة الوحيدة التي تجمعهم هي .."القضاء على داعش"..وقد أنجزوا الشوط الأكبر منها الآن، لكن حين يتعلق ذلك بالخارج وقتها توجد حسابات أخرى وأن قصة تدخل الحشد الشعبي ضد السعودية لصالح إيران هي قصة محفوفة بالمخاطر، وتنذر بالتصعيد الداخلي وانتفاضة صدرية ضد الحكومة وقيادات الحشد وأولهم .."هادي العامري"..حليف إيران الأكبر في العراق وصديق قاسم سليماني الوفي..

في المقابل لا تبحث إيران عن أي دور للعراق في حربها الافتراضية ضد المملكة، والفرس ربما يعلمون أن مصالحهم في العراق تُحتم أن تكون بغداد هي.."العصا والجزرة"..في صراع إيران مع عرب الخليج، وعودة السفير السعودي لبغداد بعد قطيعة أكثر من 20 عاما قرينة على رغبة إيرانية بأن تكون العراق هي.."جسر إيراني"..للتواصل مع العرب، وقد نجحوا في ذلك بشكل كبير، لكن خطأ السعودية مؤخرا بتدخل سفيرها في الشأن العراقي الداخلي هدد هذه الرغبة الإيرانية مؤقتا، خصوصا بعد ما رأينا في الجزء الأول من المباراة طرد السفير السعودي من بغداد، وهو إجراء يشير لسياسة العصا والجزرة الإيرانية بوضوح، فإجراء طرد السفراء في الفقه السياسي هو من أعلى صور المواجهة ، وقد يترتب عليه مزيد من الشحن النفسي والسياسي المتبادل..

يُفهم من التحليل أعلاه أنه لا فرصة لتدخل عراقي في الحرب الإيرانية السعودية، وأن الفرصة الوحيدة الآن هي أن تهدد المملكة العراقيين من الداخل بشكل صريح، أي أن يبادر آل سعود بالعدوان على العراق بأي شكل، وفي تقديري أن عنترية السبهان-سفير السعودية في العراق- قد تسارع بتحالف عسكري عراقي مع إيران لو لزم الأمر، خصوصا وأن هناك شعور شيعي يجمع العراقيين والإيرانيين الآن باستهداف (الوهابية السعودية) لهم مهما حدث وفي أي زمان ومكان.. 

أما البحرين فقد انتهت بفرض حظر للسلاح عليها بعد .."مجزرة المحرّق"..وانتشار لسمعة البحرين السيئة دوليا في مجال حقوق الإنسان، هذا شكل ضغط كبير على السعودية خصوصا وأن الرياض تعاني من سمعة سيئة أيضا في مجال حقوق الإنسان، رغم أنها ترأس لجنة الحقوق هذه في الأمم المتحدة الآن، ولكن رئاستها لم تُجدي في تلميع صورة السعودية المشوهة دوليا خصوصا بعد جرائمها وأخطائها الكبيرة في حرب اليمن، وأن الملف الحقوقي سيكون هو المتصدر لمعاقبة أي دولة خليجية مستقبلا بغض النظر عن موقعها السياسي والاقتصادي، وفي تقديري أن تنامي الشعور المعادي للإسلام -بسبب داعش الآن- قد يحمل العالم على التضحية بأي مكاسب سياسية واقتصادية في سبيل تجفيف منابع الإرهاب في الشرق الأوسط وحصار مموليه خصوصا في السعودية وبقية دول الخليج..

كذلك فالبحرين رقعة جغرافية استراتيجية مهمة لكلا البلدين-إيران والسعودية- وأي تهور عسكري فيها قد يكلف أهلها خسائر بشرية هائلة أولا: لضيق مساحتها ، ثانيا: لانقسام المجتمع البحراني طائفياً بسبب الثورة، أي أن الصراع العسكري فيها الآن سيصبح مواجهة صريحة بين السنة والشيعة، بل أوضح مما يحدث في العراق وسوريا واليمن، فتلك البلاد جميعا تتميز بتحالفات سنية شيعية ضد الإرهاب وضد العدوان الخارجي، أما البحرين فهي مهيئة لصراع سني شيعي (صِرف) وفي تقديري أن إيران تعي هذه النقطة جيدا..وتفضل إدارة ملف البحرين في نطاق حقوقي، وهو توجه مضمون غالبا يكفي لحشد المجتمع الدولي ضد حليف السعودية الأكبر في الخليج، وكذلك لتكون البحرين آداه بنظام.."العصا والجزرة"..لإحداث مكاسب على الطريقة العراقية..

أما عن اليمن فالحرب بين شمالها وبين السعودية على الحدود تختلف عن الصراع السعودي الإيراني:

أولا: لأن الحرب الصاروخية التي حدثت في الجزء الأول من المباراة تثبت معنى الحرب المتاح في منطقة الخليج، وعدم إمكانية توسعها بأي شكل إلا لو كانت ضمن تحالفات دولية كبيرة (كحرب عالمية مثلاً) وهذا غير وارد الآن، فإنسان ما بعد الحرب الباردة أفضل ما فيه أنه تعلم التجربة واستطاع تكوين منظمات دولية وحقوقية وإعلامية تحد من أي صراع عالمي كبير أو تكافحه في مهده، وسوريا الآن نموذج، فقد كانت دمشق مرشحة لأن تصبح بؤرة اشتعال حرب عالمية ثالثة، ولكن لم يحدث ولا توجد الآن أي فرصة لهذا النوع من الصراع..خصوصا بعد تدخل روسيا ونجاحها في حشد المجتمع الدولي وحصر معركته فقط ضد داعش وجبهة النصرة.

ثانيا: لأن اليمن كمكون داخلي ليس حليف مطلق لإيران، قد يكون هناك تعاطف حوثي مع الإيرانيين والعكس لعوامل مذهبية وسياسية، ولكن التنسيق بينهما لم يحدث لكون المجتمع اليمني في معظمه مختلف مذهبيا مع الإيرانيين، وسياسيا كون التحالف الحوثي الصالحي منقسم تجاه هذه العلاقة ، حتى بين الحوثيين أنفسهم يوجد خلاف على حجم ودور إيران المفترض في اليمن، وفي ذلك دلالات، كعدم وجود مسئول إيراني- مثلا- لملف اليمن كعلي شمخاني الذي أصبح المسئول عن ملف العراق، ولأن اليمن لم تكن محط اهتمام قاسم سليماني أو رجالات الحرس الثوري، حتى في عز ضعف صالح وقوة حزب الإصلاح الإخواني والحوثيين لم نر تدخلا إيرانيا في اليمن بحجم الذي يحدث في لبنان والعراق وسوريا، وعلى ما يبدو أن اليمن بالنسبة لإيران هي كالبحرين بالنسبة لهم أيضا، أي أنها تفضل استخدام اليمن كقوة عسكرية برية تهدد جنوب المملكة-وهذا ما يحدث الآن- وكقضية حقوقية لتشويه السعودية دوليا، وهذا ما يحدث أيضا..

هذا يعني أن معركة الحدود بين الحوثيين والجيش السعودي ستجري بمعزل عن الصراع الإيراني السعودي، وأن شرط بقائها الوحيد هو استمرار القصف الجوي، وقتها ربما تتوسع الحرب لتشمل احتلالا حوثيا لمدن الجنوب الكبرى كجيزان وأبها ونجران، أو ما يسموه اليمنيين في الداخل.."تحرير محافظات اليمن القديم"..وهذا يدل أن السعودية فقط هي من بيدها وقف هذه الحرب البرية في أي وقت.. 

في المقابل تسعى المملكة لاستخدام نفس استراتيجية طهران وهي.."الحرب الغير مباشرة"..كما يحدث الآن من دعم السعودية لمجاميع إرهابية في إقليم بلوشستان الإيراني والذي يقع على الحدود مع باكستان، لكن هذا له تداعيات على علاقة باكستان بالمملكة، لأن هؤلاء البلوش يهددون باكستان أيضا، وهي نقطة التقاء ومصلحة كبرى لإمكانية عقد تحالف عسكري بين طهران وإسلام أباد، فكلاهما يرى التمرد البلوشي –إن حدث- هو مصدر لتهديد الأمن القومي لكلا البلدين..

وفي دراسات سابقة قلنا أن البلوش سنة على المذهبين الحنفي والشافعي، وفي السلوك هم (صوفية) أي أن عموم البلوش ليسوا وهابيين بما يدل عن حجم اختلاف عقائدي وأيدلوجي كبير بينهم وبين السعودية ، وأن هذه المجاميع الإرهابية التي أعلنت عنها إيران وقالت أنها مدعومة من المملكة هم .."قلة وهابية"..متبقية من جماعة .."عبدالملك ريجي".. زعيم جماعة جند الله الإرهابية الذي قتلته قوات الأمن الإيرانية عام 2010، وجماعة أنصار الفرقان الإرهابية وزعيمها.."هشام عزازي"..أو أبو حفص البلوشي الذي قتلته إيران أيضا هذا العام..

أي أن تأثير السعودية في شرق إيران هو تأثير محدود يتلخص في إنشاء جماعات مسلحة تحارب الحكومة من منطلق .."المقاومة السنية للشيعة"..وفي السياسة أن هذه الجماعات لا هدف تنموي لها أو تتمتع باتصال جيد مع المجتمع البلوشي..مما يجعلها عرضة للنقد السياسي والاجتماعي، أو حتى لها تقارب أفكار مع متصوفة البلوش بشكل عام، مما يجعل هذه الجماعات مجرد تنفيس عن غضب وهابي سعودي ضد إيران، لكن أن تكون لهم الكلمة العليا أو حاضنة شعبية فهو أمر عسير جدا..خصوصا وأن الإعلام الإيراني نجح في توصيل صورة عن تشدد المملكة وشيوخها ضد كل مخالفي المذهب السلفي عند البلوش، كذلك تشدد الشيوخ ضد غير العرب ومنهم البلوش بالكاد..

أما عن الأهواز فغالب أهلها شيعة إمامية أعداء للسلفية السعودية، وكذلك عرب ينحدرون من منطقة غرب وشمال الخليج، أي لهم صلة قرابة مع شعبي الأحساء وجنوب العراق، وهذه المناطق معادية للمملكة بشكل كبير، وهذا يعني عدم وجود فرصة لأي تأثير سعودي في الأهواز، فمشكلة الأهواز بالأصل كانت قومية في زمن حزب البعث العراقي بالثمانينات وزعيمه صدام حسين، وبموته انقضى نفوذ البعث الآن ولم تعد قضية الأهواز تشغل بال العرب في هذا المكان، بل وبحكم المذهب أصبح كل من يعيد إحياء قضية الأهواز متهم بالعمالة للوهابية والقضاء على مذهب آل البيت كما يتردد هناك..

إلى هنا انتهت المباراة وملخصها بالكامل

أن الحرب البرية بين السعودية وإيران مستحيلة الآن نظريا وعمليا إلا بشروط ذكرناها في سياق التحليل، وكذلك الحرب الجوية، وأن غاية ما سيحدث هي مناوشات في البحر، وضربات صاروخية متبادلة ، وأن الصراع تتفوق فيه إيران من الناحية الجيوسياسية ..فهي تمتلك أذرع وأدوات أكبر وأوسع لتهديد المملكة، ويعزز ذلك الموقع الاستراتيجي لتلك الأدوات..كاليمن في الجنوب والبحرين في الشرق والعراق في الشمال، أي وبمجرد تحقيق الشروط المذكورة لإشعال الحرب البرية سيكون لإيران نفوذ ضخم جدا وتحكم كامل في سير العمليات..

كذلك ..أكرر ..أن أي حرب في الخليج سيتضرر منها العرب حصرا، وكما رأينا في سير المباراة -والتحليل المرفق- أن فرصة تهديد إيران صعبة لتجانس مجتمعها من الداخل، ولارتباط مشاكل الحدود والأقليات فيها مع دول أخرى لها مصالح معها، فباكستان لها مصلحة مع إيران في مواجهة البلوش، وكذلك تركيا والعراق وسوريا في مواجهة الأكراد، وهذا تفتقده السعودية، كمثال صراعها في اليمن لا يهدد أحد غيرها، والنتيجة أن تورط جيشها ومدنها في الجنوب، وترك مصر والإمارات لها دليل أنها أخطأت من الناحية الجيوسياسية في إشعال الحرب..

أخيرا: إن الصراعات أمر مذموم بالتأكيد، لكنها تصبح ضرورية للدفاع عن النفس والمصالح، وهي بذلك تصبح.."الممنوع الضروري"..أو.."المهم المكروه"..وطرحي لهذه المباراة الحربية المفترضة من قبيل (تصوّر الوضع) واستباق للأحداث برسم أحداث خيالية لها اتصال بالواقع المعاش، هذا يساعد كثيرا في عمليات التنبؤ، أي يعني ربما تحدث الحرب فعلا بهذا السيناريو أو باختلاف كبير أو صغير، لكن المهم في تقديري أن نفهم منطق الحرب..أنها تقوم على غرائز ومشاعر كالخوف والطمع، وأنه لا فائز حقيقي فيها..حتى من يعتقد أنه فاز هو خاسر بطريقة أخرى

اجمالي القراءات 5942