مقدمة :
ووصل بعص الخصيان العبيد الى مراكز عليا ، مثل بهاء الدين قراقوش خادم صلاح الدين الأيوبى ، وقد عرضنا لكراهية المصريين له لأنه قام بتسخيرهم فى بناء القلعة وسور القاهرة . ولكن أحب المصريون عبدا خصيا أسود اللون خاليا من الوسامة ، هو كافور الاخشيدى ، الذى وصل بذكائه لأن يكون حاكما لمصر والشام فى نهاية الدولة الأخشيدية الى عاصرها وحكم باسمها، وبموته سقطت وإستولى معز الدين الفاطمى على مصر سلميا وبلا عناء . ونعطى بعض التفصيلات
أولا :
موجز تاريخ الدولة الاخشيدية سريعا قبل حكم كافور :
1 : دخل ( الإخشيد ) مصر بجيشه سنة323 فحارب المتغلب علىها وهو ( ابن كيغلغ ) وهزمه وقبض على الأمور وتتبع أصحاب ( ابن كيغلغ ) فأخرجهم عن البلاد ، ودان له الجيش العباسي في مصر .
2 ـ وحاز (محمد بن طغج ) إعجاب الخليفة (الراضي ) فلقبه( بالإخشيد) ودعى له بذلك على المنابر سنة 327 بعد أن صد حملة فاطمية بعثها الفاطميون من مركزهم فى تونس لفتح مصر . فقد التقى أتباع كيغلغ بالخليفة الفاطمي بالمغرب وهو القائم بأمر ( الله ) فحرضوه على أخذ مصر نكاية في الإخشيد فجهز الفاطمي جيشا ولكن الإخشيد هزمه .
3 ـ وازداد عجز الخلافة العباسية في عهد ( الراضي ) فتجرأ الولاة على قطع الأموال التي يؤدونها إلى بغداد , وتغلب ( بنو بويه ) على فارس وضغطوا على العراق فاضطر الخليفة ( الراضي ) للاستعانة ( بابن رائق ) وكان متغلبا على واسط فاستقدمه إلى بغداد وقلده إمارة الجيش والخراج والديوان وجعله أمير الأمراء . وقبض ( ابن رائق ) على ناصية الأمور في بغداد واستبد بالأمر فيها بدون وزير ومشير ، ورأى ذلك حكام الولايات فاستقل كل منهم بولايتة كما فعل ( البريدي ) في خوزستان و ( عماد الدولة بنو بويه ) في فارس و ( ابن الياس ) في كرمان ، أما الري وأصبهان فتغلب عليها ( ركن الدولة بنو بويه ) , وتغلب ( بنو حمدان ) على الموصل وديار بكر و مضر وربيعة , وسبقهم ( الإخشيد ) باستقلاله بمصر والشام .
4 ـ ثم دارت الأيام ( بابن رائق ) فغلبه على بغداد خصمه ( البريدي ) ثم جاء بعد ( البريدي ) بجكم ( امير الأمراء ) ، وحدث أن الخليفة ( الراضي ) سار مع ( بجكم ) إلى الموصل لتأديب بنى حمدان لتأخيرهم الأموال , ولما ابتعدا عن بغداد ظهر ( ابن رائق ) واحتلها، وانتهت المفاوضات بين ( ابن رائق ) والخليفة و ( بجكم ) بتولية ( ابن رائق ) الشام . هذا مع تبعية الشام للإخشيد باعتراف الخليفة الراضي نفسه , فكان محتما أن ينشب الصراع بين الخصمين القويين ( ابن رائق ) و ( الإخشيد ) .
5 ـ وتقدم ( ابن رائق ) في الشام فاحتل حمص ثم احتل دمشق واخرج منها والى الإخشيد وتقدم من دمشق إلى الرملة فملكها ,وإذ وصل ( ابن رائق ) إلى جنوب الشام وفلسطين عزم على أخذ مصر فدخل العريش فتلقاه فيها الإخشيد ودارت معركة سنة 328 هـ . انهزم فيها ( الإخشيد ) أولا ثم انتهز انشغال ( ابن رائق ) بالسلب فهزمه وفر ( ابن رائق ) بسبعين رجلا إلى دمشق . وأرسل ( الإخشيد ) جيشا آخر لدمشق تمكن ( ابن رائق ) من هزيمته وقتل قائده، وتم بينهما الصلح على أن تكون مصر وجنوب الشام مما يلي الرملة ( للإخشيد ) وباقي الشام ( لابن رائق ) ويؤدى ( الإخشيد ) جزية ( لابن رائق ) عن الرملة . وقد أضطر ( الإخشيد ) إلى دفع الجزية عن الرملة ( لابن رائق ) ليمد حدود الدفاع عن مصر إلى الرملة ويأمن على حدوده الشرقية من ( ابن رائق ) بعد عقد الصلح بينهما , ثم يتفرغ لمواجهة الضغط الفاطمي الذي يأتيه من الغرب . ولا يريد الإخشيد أن يحارب في جبهتين في وقت واحد .
6 ـ وقتل ( الحمدانيون ) ابن رائق سنة 330 هـ فدخلت جيوش ( الإخشيد ) دمشق ، وحارب ( الحمدانيين ) واستخلص منهم حلب . واضطر الخليفة العباسى ( المطيع ) للاعتراف بفتوحات ( الإخشيد ) , ومات ( الإخشيد ) سنة 334 وعهد لابنه ( نوجور ) تحت وصاية ( كافور ).
ثانيا : و ندخل هنا على دور كافور :
1ـ استأثر ( كافور ) بالسلطة من دون أبناء ( الإخشيد ) وسار على سياسته طيلة حكمه الذي استمر ثلاثا وعشرين سنة ( 334 – 357 هـ ) . وقد استطاع ( كافور ) أن يهزم سيف الدولة الحمداني ويسترد منه دمشق، وكان استولى عليها عندما توفى ( محمد بن طغج الإخشيد ).
2 ـ وممن عبقرية كافور السياسية أنه بعد أن هزم ( سيف الدولة ) إلا أنه صالحه على دفع جزية نظير الاحتفاظ بدمشق وذلك حتى يأمن على حدود مصر الشرقية في جنوب الشام ويرد الخطر الفاطمي عن غرب مصر . كما استطاع ( كافور ) أن يهزم ملك النوبة الذي أغار على مصر سنة 345 وأمن حدود مصر الجنوبية . كما تودد الى الفاطميين فاقتنعوا بالتغلغل بدعوتهم فى مصر بدون حملات عسكرية .فإقتنع الفاطميون بالتغلغل السلمي بين المصريين دون الحملات الحربية التي تثير الحنق ضدهم ، وأحسن ( كافور) استقبال الدعاة الشيعة ، إذ كان لا يهتم بمن يحكم مصر بعده فهو خصي لا ولد له . وقد أيقن أن مصير الأمر من بعده للفاطميين وهم أقرب لمصر وأكثر تلهفا على امتلاكها .. وبقى ( كافور ) يحكم مستبدا بالأمر إلى أن مات 357 وحدود مصر منيعة ما بين برقة إلى دمشق .
ثانيا
قالوا عن كافور الاخشيدى : (292 : 357 )
1 ـ كان خصيا أسود دميماً قبيح الشكل مثقوب الشفة السفلي مشوه القدمين بطيئاً ثقيل القدم. ، بيع لأحد تجار الزيوت ، وقاسي منه الكثير من العنت الى أن إشتراه محمد بن وهب بن عباس الكاتب ، وتعلم كافور القراءة والكتابة فى بيته ، ولمس سيده فيه الاخلاص والكفاءة فأعتقه ، وكان هذا الكاتب وثيق الصلة بالأخشيد ( محمد بن طغج ) المسيطر على مصر والشام . فباعه الى الاخشيد ليعمل مؤدبا لابن الاخشيد . ولمس فيه الاخشيد الكفاءة والاخلاص فجعله قائدا عسكريا للاخشيد. ونجح فى عمله فتصدر الدولة الاخشيدية بحيث جعله الاخشيد وصيا على ابنه ولى عهده لإخلاصه ، وربما لأنه ( خصى ) ليس له أولاد بسببهم يطمح فى الانقلاب على ابن الاخشيد . ولكن أصبح كافور الحاكم الفعلى للدولة الأخشيدية بعد وفاة ابن طغج ، بإعتباره الوصى على ( أنجور ) ابن الاخشيد . وكالعادة ـ لم يكن ولى العهد الاخشيدى كفئا فكان سهلا على كافور أنه حجب ولى العهد ( أونجور ) عن الحكم ، دون أى إعتراض ممن يهمه الأمر. بل إن بعض خصوم كافور تلاعب بولى العهد وأقنعه بالخروج على ( كافور ) حقدا على ( كافور ) إلا إن أم ولى العهد وقفت ضد ابنها ومنعته من الاستمرار فى ثورته على ( كافور ) . كافور كان قريبًا من قلوب المصريين لكونه سخيًا كريمًا؛ وينظر بنفسه في قضاء حوائج الناس والفصل في مظالمهم .
2 ـ قال عنه المؤرخ الذهبى فى كتابه ( تاريخ الإسلام ) : ( كافور الإخشيدي الحبشي الأستاذ السلطان أبو المسك ، اشتراه الإخشيد من بعض رؤساء مصر. كان أسود بصاصًا..وتقدم عند الإخشيد صاحب مصر لعقله ورأيه وسعده إلى أن صار من كبار القواد . وجهزه الإخشيد في جيش لحرب سيف الدولة بن حمدان. ثم إنه لما مات أستاذه ( الاخشيد ) صار أتابك ولده أبي القاسم أنوجور ( أى قائد جسشه ) وكان صبيًا ، فغلب كافور على الأمر ، وبقى الاسم لأبي القاسم والدست لكافور ).... وكان كافور يدني الشعراء ويجيزهم ( أى يعطيهم الأموال ) ،وكان تُقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولة الأموية والعباسية ، وله ندماء . وكان عظيم الحُرمة ( الهيبة ) وله حجاب ، يمتنع عن الأمراء ، وله جوار مغنيات ، وله من الغلمان الروم والسود ما يتجاوز الوصف . زاد ملكه على ملك مولاه الإخشيد، وكان كريمًا كثير الخُلع ( الهدايا من الملبوسات) والهبات، خبيرًا بالسياسة فطنًا ذكيًا جيد العقل داهية. كان يهادي المعز صاحب المغرب ( الفاطمى ) ويظهر ميله إليه ، وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس ، ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء. وتم له الأمر. وكان وزيره أبو الفضل جعفر بن الفرات راغبًا في الخير وأهله. ولم يبلغ أحد من الخدام ما بلغ كافور . وكان له نظر في العربية والأدب والعلم.. وكان يداوم الجلوس غدوة وعشية لقضاء حوائج الناس . وكان يتهجد ويمرغ وجهه ساجدًا ويقول: اللهم لا تسلط علي مخلوقًا. )
3 ـ قال أبو المظفر في تاريخه مرآة الزمان: ( كان كافور شجاعًا مقدامًا جوادًا يفضل على الفحول. ( أى الأحرار الذكور) . وقال أبو جعفر مسلم بن عبيد الله بن طاهر العلوي النسابة: ما رأيت أكرم من كافور! كنت أسايره يومًا وهو في موكب خفيف يريد التنزه، وبين يديه عدة جنائب بمراكب ذهب وفضة وخلفه بغال المراكب ، فسقطت مقرعته من يده، ولم يرها ركابيته ، فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض ودفعتها إليه. فقال:" أيها الشريف أعوذ بالله من بلوغ الغاية ما ظننت أن الزمان يبلغني حتى تفعل بي أنت هذا ". ! وكاد يبكي فقلت: " أنا صنيعة الأستاذ ووليه. " . فلما بلغ باب داره ودعني . فلما سرت التفت فإذا بالجنائب والبغال كلها خلفي فقلت: "ما هذا ؟ قالوا: " أمر الأستاذ أن يحمل مركبه كله إليك . " فأدخلته داري ، وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار. ) .
4 ـ قال ابن زولاق عنه فى تاريخه : ( وكان كافور دينًا كريمًا.وسماطه على ما ذكره صاحب كنز الدرر في اليوم مائتا خروف كبار ومائة خروف رميس ومائتان وخمسون إوزة وخمسمائة دجاجة وألف طير من الحمام ومائة صحن حلوى كل صحن عشرة أرطال ومائتان وخمسون قرابة أقسما. وأما وفاة كافور المذكور فإنه توفي بمصر في جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وقيل: سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وقيل: سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة والأصح سنة سبع وخمسين وثلاثمائة قبل دخول القائد جوهر المعزي إلى مصر. وعاش كافور بضعًا وستين سنة . وكانت إمارته على مصر اثنتين وعشرين سنة ، منها استقلالًا بالملك سنتان وأربعة أشهر . خطب له فيها على منابر مصر والشام والحجاز والثغور مثل طرسوس والمصيصة وغيرهما. وحمل تابوته إلى القدس فدفن به. وكتب على قبره:
ما بال قبرك يا كافور منفردًا بالصحصح الموت بعد العسكر اللجب
يدوس قبرك آحاد الرجال وقد كانت أسود الشرى تخشاك في الكتب. )
ثالثا :
وأقول عن ( الاستاذ ) أبى المسك كافور :
1 ـ تخيل صبيا صغيرا مشوه الشكل ، يخطفه مجرمون من بلده فى الحبشة ، ثم بعد رحلة مضنية يبيعونه الى أسواق النخاسة فى صعيد مصر، وفيها يقوم مجرمون آخرون بخصيه ، وينجو من الموت بينما يموت بعض رفاقه . ثم يحملونه الى القاهرة ، فلا يجد من يشتريه إلا بائع زيت يستغله خادما ، ويصبر كافور ، ثم يأتيه الفرج حين يشتريه كاتب صاحب نفوذ . ويتغير حاله ، فيتعلم القراءة والكتابة وتظهر ملامح نبوغه بحيث يتقرب مالكه الكاتب فيقدمه الى الإخشيد ، الذى يلفت نظره نبوغ هذا العبد الخصى السود فيأمنه على تهذيب ابنه ولى عهده ، وينال المزيد من الاعجاب فيصبح هذا العبد السابق الخصى متقدما فى بلاط الاخشيد ، يحوز إحترام الجميع فى عصر يحتقر العبيد عموما والخصيان خصوصا ، ويصل إحترامهم له الى تلقيبه بالاستاذ ، ثم يرضونه به حاكما متغلبا على صاحب الحق الشرعى ابن الاخشيد . حاز هذا كله أبو المسك الاستاذ كافور .
2 ـ كان ممكنا لصبى قاسى الاسترقاق والإخصاء أن يتحول الى بركان حقد على العالم ، ينفجر فى وجه الجميع عندوصوله الى السلطة . ولكن لم يكن الاستاذ كافور من هذا النوع. جمع بين كونه مُهابا وكونه متواضعا حليما . تقرب اليه المتنبى مادحا منافقا فأعطاءه ، وكان المتنبى يريد المزيد ، يريد مركزا سياسيا ، فأعرض عنه كافور ، وخاف المتنبى من كافور وهرب منه ثم هجا كافور هجاءا مقذعا ، وكان بإمكان كافور أن ينتقم منه ويسلط عليه من يقتله ، ولكن لم يفعل . وذهب المتنبى الى عضد الدولة ومدحه ونافقه ، ثم قيل لعضد الدولة أن المتنبى يقول كذا ، فدسّ عضد الدولة من هجم على المتنبى فقتله . هذا هو الفارق بين كافور وعضد الدولة . ولكن الفارق الأكبر هو بين كافور والمتنبى . هذا يستحق أن نتوقف معه . !