الانغلاق العربي بين التأمل والواقعية

سامح عسكر في الإثنين ٠٤ - يوليو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مشكلتنا الحضارية هي في (العزلة والانغلاق) قبل كل شئ

العرب أكثر شعوب العالم انغلاقا، وهي حالة (مَرَضية) في علم النفس، أي أن المنغلق والمعزول هو مريض أصلا، ويخلق هذا الواقع لديه هلاوس وأوهام غير حقيقية

العُزلة يمكنها تدمير العقل البشري، وبالتجربة ثبت أن المعزول (جبراً) يتألم ..لذلك صنعوا له الحبس الانفرادي كنوع من التعذيب..أما المعزول (اختياراً) فهو مستمتع..والسبب أنه يخلق واقع يُرضيه هو عبارة عن أوهام في الحقيقة..وفي الحالتين يتم تدمير العقل بإفقاده مَلَكتي..( التأمل والواقعية)..وهما مَلَكتان لابد منهما للإنسان كي يُصبح بشرا طبيعيا..

نموذج ابن تيمية-مثلا- كان في أواخر حياته معزول في السجن، ونتيجة هذه العزلة فقد الحس بالواقع وتدمر عقله وأتى بأشياء مفجعة وكتاباته تنضح بالكراهية كتعبير انتقامي للألم الذي تعرض له..هو شخص (ذكي جدا) لكن بعزلته فقد مَلَكة الواقع وعاش بتأمّله الذي لا يكفي..

أما نموذج العرب الآن فهما خير مثال للحالة الثانية التي عزلت نفسها بإرادتها، وهذا الصنف المعزول فوق أنه يفقد مَلَكة الواقع-كابن تيمية-يفقد أيضا مَلَكة التأمّل..والسبب أن تأمله لهدف واحد يرضيه، فهو يعلم جيدا أنه معزول وهو سعيد بذلك..بل سعيد أيضاً بالنتيجة..وإذا وصل الإنسان لهذه الحالة فقد وصل لقمة تخلفه وانحطاطه الآدمي..وتوقع منه أي شئ..وقد حذر الله من ذلك في القرآن بقوله.." وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا".. [الإسراء : 46]..وقال أيضا.." وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون"..[فصلت : 5]

أي أن الحالة العربية الآن-بعُزلتها الاختيارية- شبيهة بما كانت عليه الأمم الطاغية في زمان الأنبياء

ونموذج داعش الآن هو تعبير عن تلك العزلة العربية والإسلامية، لاحظ أن مَلَكة التأمل تُكسِب صاحبها طاقة وعي وتنظير عقلي..والدواعش فقراء جدا في هذا الجانب بحيث إذا أردت التحدث مع أحدهم لا تجد عقلية محترمة تتناقش معك وترد عليك كما هي طبيعة العقل البشري، وإذا لم يُقدّر لك الحديث مع أحدهم فتحدث مع أي سلفي فهو نسخة بالكربون من داعش..ولكن تظل نسخة مؤجلة إلى أن يمتلك الشجاعة للتعبير عن رأيه..أو يرتقي فوق ذلك ويُترجم هذا الرأي لواقع مُعاش..

قلت أن عزلة ابن تيمية هي عزلة (واقعية) وليست (تأمّلية) بينما داعش معزولة واقعياً وتأمّلياً معا..وهذا يعني أن ابن تيمية متفوق على الدواعش في التأمّل..وكتاباته في بعض الجوانب راقية تكاد تلمس فيها حساً فلسفيا رائعا..ومع ذلك فهو ابن تيمية الإرهابي والسبب أنه فقد الحس بالواقع فتحولت أفكاره وتأملاته إلى طاقة عدوان، وفي دراسة سابقة حصرنا كمّ الألفاظ التكفيرية والعدوانية والإجرامية في كتابه.."مجموع الفتاوى"..خرجت بالمئات، والسبب أن العزلة دائما تفقد أصحابها قدرة الشعور بالآخرين..فتحوّلهم إلى مُسُوخ مؤذية وبشعة..

الإنسان كائن اجتماعي..وليس صحيحا ما ذكره ابن طفيل في حي بن يقظان..أن الإنسان يولد إنسانا ويعيش إنسان حتى لو عاش بين الحيوانات، هذا غير صحيح، فالبيئة تفرض عاداتها وأسلوبها دائما، وهذا نلمسه بين البشر أنفسهم بالتجربة..فلو عاش عربي في بيئة أوروبية لاكتسب عادة وثقافة وأساليب الأوربيين مع أنه عربي..وقد يكون مسلم، كذلك البنغالي والباكستاني..حتى السعودي الذي عاش بأمريكا ولو بضع سنوات تتغير أفكاره ولو بشكل طفيف عن مجتمعه الموسوم بأعظم مجتمعات العالَم انغلاقا..

توجد مفارقة بين نوعي العُزلة المذكورين-التأملية والواقعية- وهي في رياضة (اليوجا) والتي تهتم بالتأمل على حساب الواقع..ومع ذلك لم يتحول أصحابها-على الأرجح-لمسوخ كابن تيمية، والجواب في تقديري يعود لطبيعة هذه الرياضة نفسها، وكونها تحض على ممارسة اليوجا في العراء وليست في الغرف المغلقة، أي أنها تربط بين التأمل والواقع معا بالاندماج مع المجتمع، فأصل التأمل هو الخيال وأصل الواقع هو الحِسّ، واجتماع الخيال مع الحس هو قمة الفلسفة..وهي اتحاد المثال والواقع معا..وأظن أن ذلك هو هدف اليوجا ..أن توحد بين البشر..وتنشر السلام والتسامح..لذلك عدّها البعض طقس ديني روحاني متعلق بالهندوسية والبوذية..وهي كذلك بالفعل..ولكن بالنظر لمعناها فهي رياضة روحية في الأخير..

ما النتيجة التي يمكن استخلاصها من هذا العرض؟

أن عزلة العرب هي السبب الأصيل في ما يعانوا منه الآن، فبسبب هذه العزلة أهملوا التعليم حتى خرجت أجيال كافرة بمعنى الدولة والمجتمع، وبسبب عزلتهم أيضاً نشروا التشدد وهو الحالة المرافقة دائما للجهل وفقدان مصادر المعرفة، وبسبب تلك العزلة أيضا يعاني العرب من الهلوسات أبرزها (الاعتقاد بالمؤامرة) العالم كله متآمر على العرب وحاقدين عليهم لنجاحهم..!..شر البلية ما يُضحك.

كذلك من آثار تلك العزلة عدم قدرة العرب التحرك كمجموعة وما يتبعها من الافتراق والتشتت، فالعُزلة تصنع ضغطا نفسياً عاليا على المعزول، وعن طريق هذا الضغط تتولد مشاعر ارتدادية عدوانية تخرج في الأقربين..وهذا يفسر عداء العرب لأنفسهم الآن أكثر من عدائهم لغيرهم، كذلك وبالجهل لا يتعظون من قصص الآخرين مع العُزلة فيحدث ما أسميه.."الاستمتاع بالانغلاق"..حتى يتكيفوا مع هذا الواقع ويصبح عادة يكون الخروج عليها أمراً عسيرا..

إن أزمات العرب الآن من فقر وفوضى وحروب مذهبية وقبلية سببها الرئيسي هو (العزلة) والبقاء على تلك الحالة مدة أطول من ذلك يخلق من العربي كائن همجي ومتوحش، وبجهله يجمع بين الحماقة وسوء التصرف حتى إذا أراد حل مشكلاته بعد ذلك لن يستطيع، وفشله في الحل يجعله أقرب إلى الجنون..

اجمالي القراءات 5965