أولا : توصيف الفساد
1 ـ يأتى الفساد مصاحبا للظلم والاستبداد .
الاستبداد فى المصطلح القرآنى يعنى ( العلو ) لأن المستبد ( يعلو ) على بقية الشعب بالمخالفة لشرع الله جل وعلا. لقد خلق الله جل وعلا البشر متساوين ينتمون لنفس الأب ونفس الأم مهما إختلفت ألسنتهم وألوانهم وشعوبهم وقبائلهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات ) . وجعل ( العلو ) و ( التعالى ) له وحده ، فهو وحده سبحانه ( وتعالى ). ولكن المستبد يعلو برأسه على بقية الناس ، ويكون (علوه ) هذا طريقا لزعمه الألوهية . ولو كان الشعب موحدا أبيا عزيزا فلا يمكن أن يسمح لفرد أن (يعلو ) عليه ، ولكن هذا الفرد يستخدم وسائل مختلفة ليرفع بها نفسه فوق الشعب ، ولكى يستمر فى سلطته و( تعاليه ) يحتاج الى بثّ التفرقة بين الشعب ، ومن السهل عليه أن يضطهد الأقلية ليخيفها ويضمن ولاءها ، ويضمن أيضا ولاء الأغلبية . وهذا ما فعله فرعون موسى الذى علا فى أرض مصر وجعل أهلها المصريين شيعا وطوائف يستضعف طائفة منهم ، يقول جل وعلا عن إقتران الاستبداد والظلم والفساد :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ) . فرعون وقومه هو نظام حكم متكامل . يوجد الآن فى دول العرب و ( المسلمين )
2 ـ و( الدين الأرضى ) بكهنوته أو ( رجال الدين ) من أهم وسائل المستبد فى خداع الشعب ، ومن خصائص رجال الدين الأرضى أنهم يخدعون الناس بحلاوة اللسان وإستخدام إسم الله جل وعلا فى هذا الخداع ، فإذا ووجه بالحق صار ألد الخصام ، وإذا وُعظ بتقوى الله أخذته العزة بالإثم لأنه يرى نفسه هو الذى يعظ ولا يوعظ ، ثم إذا تولى سلطة سعى بالفساد ، يقول جل وعلا عن هذا الصنف من الناس : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة ) . هذا الصنف من الناس موجود فى كل مجتمع ، وهو يسعى الى السلطة يتزلف اليها ، ويحتاج اليه المستبد الفاسد ليركبه ويركب به الشعب ، وبهما يتسيد الفساد . المستبد يفسد فى الأرض ورجل الدين الكهنوتى يبرر ويبارك هذا الفساد فى الأرض ويشارك فيه .
3 ـ ولأنه إحتكر السُّلطة فهو يحتكر الثروة صراحة أو ضمنا ، ولقد زعم فرعون مصر ملكيته لمصر كلها بأرضها وأنهارها ، يقول جل وعلا : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) وأعلن هذا مستخفا بقومه فأيده قومه ، يقول جل وعلا : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) الزخرف )
4 ـ المشكلة الحقيقية أن المستبد برجال دينه الأرضى وبسيطرته على عقول الناس يزرع فيها ثقافة الاستعباد والرضى بالظلم ، وتحريم وتجريم الثورة عليه ، ويصبح الظلم سائدا بين الناس العاديين ، القوى منهم يظلم الضعيف والغنى فيهم يأكل حق الفقير ، وفى هذا المناخ الفاسد تعلو نغمة التدين السطحى المنافق المُرائى ، ويتسيد الاحتراف الدينى ، ويدفع المستضعفون الثمن ، خصوصا النساء واليتامى والأطفال الفقراء وذويهم الفقراء .
5 ـ وطالما يظل المستبد فى سلطانه فهو يرفض الاصلاح ، بل يعتقد أنه هو الاصلاح نفسه ، وما عداه فساد ، وقالها فرعون ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)غافر) هذا الفرعون المستبد القاتل الفاسد يرى أن رأيه هو سبيل الرشاد ، بل إنه يرى أن قتل موسى فرض لأن موسى يريد أن يغير الدين الأرضى لقوم فرعون وأن ينشر فى ارض مصر الفساد : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَدِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26)غافر ) .
6 ـ من هنا فالمستبد المفسد قد يتكلم عن الاصلاح من وجهة نظره ، والاصلاح من وجهة نظره هو المزيد من سيطرته وتحكمه وفساده . ولهذا فإن رب العزة جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين ، وقد قالها موسى عليه السلام لسحرة فرعون : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) يونس ).
7 ـ وفى نفس الوقت يرفض الاصلاح الحقيقى ، وهى قاعدة عامة فى المستبدين الذين وصفهم رب العزة بأكابر المجرمين . المجرم العادى قد يسرق شخصا ، أما المستبد فهو يسرق شعبا . المجرم العادى قد يقتل شخصا أما المستبد فيقتل مئات الألوف . المجرم العادى يوصف بالاجرام ويدخل السجن مُحاطا بالاحتقار ، أما المستبد فيسير فى المواكب وتحيط به هالات الفخار . ولأنهم أكابر المجرمين فهم يرفضون الحق الذى تأتى به الرسالات السماوية وبستخدمون أفظع أساليب التآمر والمكر ، وفى النهاية يحيق بهم مكرهم ، يقول جل وعلا : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) الانعام ).
ثانيا : العظة والاعتبار من عاقبة المفسدين
1 ـ حين يقول رب العزة (أَلَمْ تَرَ ) فهو عن الرؤية العقلية ، أى دعوة للتفكر والعظة والاعتبار ، يقول جل وعلا عن المفسدين الطٌّغاة القدامى وإهلاكهم ، وهو نفس المصر الذى يتربص بمن يأتى بعدهم : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر ) . يكفى هنا قوله جل وعلا بصيغة التأكيد الثقيلة : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) الفجر ).
ونفس الحال عن فرعون وملئه يقول جل وعلا : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) الاعراف ) ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل ). وعن جعل فرعون وقومه سلفا ومثلا للمستبدين اللاحقين ، يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ (56) الزخرف ) .
2 ـ والله جل وعلا لم يقص قصص المفسدين السابقين للتسلية ، حاش لله رب العالمين ، إنما هو للعظة ، يقول جل وعلا : (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120 ) هود ) .
ثالثا : كيف ننجح فى الاختبار وننجو من الهلاك
1 ـ والله جل وعلا جعلنا خلفا لهذا السلف الهالك ، وأدخلنا نفس الاختبار ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يونس ) .
2 ـ ولكى ننجح فى هذا الاختبار ، ولكى ننجو من هذا الهلاك لا بد من قيام فئة بالدعوة الى الاصلاح : (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)هود ).
3 ـ واساس الاصلاح عدم الركون الى الظالمين وعدم الوثوق بهم وبأعوانهم ، يقول جل وعلا : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)هود ) .
4 ـ والله جل وعلا كان ينجى المؤمنين فقط بينما يحل الهلاك بالمجرمين المفسدين ، يقول جل وعلا عن قوم ثمود : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) النمل ).
وهو نفس الحال مع تلك القرية الفاسدة على ساحل البحر ، والتى نصحها الناصحون ، فأعرضوا ، وكانت النتيجة هلاك المعاندين ونجاة المصلحين ، يقول جل وعلا : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) الاعراف ) .
رابعا : العلاج الشامل للفساد
1 ـ شأن الفساد إذا تأسس على دين أرضى وثقافة دينية أن يستشرى ، ويتشعب ، ويُسمّم البيئة نفسها ، وبتلوث البيئة تضمحل الصحة العامة وتنتشر الأمراض والأوبئة تفتك بالجميع لا فارق بين غنى أو فقير ، لأن الجراثيم فى الهواء لا تعرف الفقير من الغنى. وما أروع قول رب العزة جل وعلا : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)الروم ).
هذه الاية القرآنية العظيمة نراها متجسدة بالايجاب والسلب فى عصرنا . فى الدول التى تسود فيها الديمقراطية وحقوق الانسان والشفافية ترى البيئة صحية ونظيفة . وفى دول العرب و ( المسلمين ) حيث الاستبداد والفساد يتوغّل الفساد وباءا منتشرا من الانسان الى الهواء والتربة والماء ، وتنتشر معه الأوبئة ، لتحمل إهلاكا لهم بالتقسيط ( غير المريح ) . وبالتالى فإن هذا الاهلاك الذى يتحرك بثبات وهدوء سيصل الى الجميع ، لا فارق بين غنى أو فقير . يعنى من لم يمت بسيف المستبد مات بفساد المستبد .
2 ـ والعلاج الشامل لهذا الفساد الشامل هو بالقضاء المعنوى الفكرى العقلى على الدين الأرضى الذى يتأسس عليه الاستبداد والفساد .
أتذكر مأساة عام 1987 حين وضعونى فى السجن عقابا على كتاب صغير الحجم : ( المسلم العاصى : هل يخرج من النار ليدخل الجنة ) ، وهو يؤكد قرآنيا أن من يزعم الايمان ويعيش على الفساد لا يمكن أن يخرج من النار ليدخل الجنة كما يزعم الدين الأرضى السنى : أفزعهم هذا الكتاب الى درجة أن طالب الشيخ الشعراوى فى فتوى شهيرة فى الجريدة الحكومية ( اللواء الاسلامى ) بتطبيق حد الحرابة علينا ، وكتب رئيس تحريرها ( أحمد زين ) مقالا فى جريدة ( الأخبار ) يهاجم الكتاب ويكفّر المؤلف ، وسارع مبارك بوضعنا فى السجن . والواضح لمن يدقق فى الأمر أن الكتاب مسّ عصبا حسّاسا فى ثقافة الاستبداد ، وهو دينه الذى يتحكم به فى الناس . وفى مناقشة مع كبار ( أمن الدولة ) قلت لهم : إننى لا أفرض نفسى على أحد ولا أفرض كلامى على أحد ، ولا أطلب أجرا من أحد ، ونصفح عمّن يؤذينا ما إستطعنا ، وأنّ منهجنا هو الذى ينقذ مصر من التطرف والارهاب الوهابى. وكان ردهم أننى أخطر عليهم من الارهابيين . وهم على صواب . فالارهابيون فى خانة الاتهام ، وللعسكر حُجّة قوية فى الهجوم عليهم ، وهم يحتاجون الى الوهابية والى الارهاب الوهابى ( فزّاعة ) لتخويف المصريين والغربيين . ولكن دعوتنا الاصلاحية السلمية تؤسّس وعيا فى الناس ، ينتهى بثورة عارمة تنشد العدل وتقضى على الاستبداد والفساد .
خامسا : لنتذكر أن :
1 ـ قول فرعون لقومه وهو يريد أن يقتل موسى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَدِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ). يخاف على دين القوم ، لآن دين القوم بكهنوته هو الذى يؤسّس ملكية فرعون لمصر وأرضها ونيلها وقومها ، ويجعله يستخف بهم فيصفقون له ــ كما يحدث الآن من هذا الجنرال القصير المتفرعن فى مصر ، والذى يتصرف فى أرض مصر كما لو كانت ضيعة ورثها عن أبائه .
2 ـ قول رب العزة فى قاعدة عامة عن المستبدين ( أكابر المجرمين ) فى كل زمان ومكان: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام ). ولنتذكر قولهم الرافض للرسالة السماوية الداعية للقسط :( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) (124) الانعام ). . هم يريدون دينا يبرر ويؤكد لهم إجرامهم وإستبدادهم وفسادهم .
3 ـ أن هؤلاء المجرمين المترفين محتكرى السلطة والثروة يتمسكون بثوابت دينهم الأرضى ، ومؤسساته الكهنوتية سنية أو شيعية أو ارثوذكسية ، وبرجال دينهم من عمائم سوداء أو بيضاء ، لأنه بهذه الثوابت أسّسوا ثرواتهم وسلطانهم ، يقول جل وعلا فى قاعدة عامة : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف )
4 ـ الفقهاء فى عصور الخلافة كانوا أساس الظلم ، وهم الذين شرّعوا الاحتلال القائم على الاعتداء الظالم وأسسوا له مشروعية فقهية تحت عنوان ( الفتح عنوة ) تجعل للباغى الغازى حق الامتلاك الكامل للأرض ومن عليها من شعوب ، وأنهم الذين سوّغوا للمستبد قتل ثلث الأمة لاصلاح الثاثين ــ بزعمهم.
5 ـ أنه لم يتخلف عن الركب بابوات المسيحية فى عصور الخلافة القرشية العربية والعثمانية . فمع الاختلاف بين دين المستبد ( سنيا أو شيعيا أو صوفيا ) ومع إضطهاده للمسيحيين فقد كان بابوات المسيحيين عصا فى يد الخليفة المستبد ضد المستضعفين المظلومين المسيحيين من أبناء قومهم . لا فارق هنا بين البابا ( يوساب ) ــ الذى أيد الخليفة المأمون وساعده فى القضاء على ثورة الأقباط البشموريين المصريين وأيده فى حكمه عليهم بالقتل وعلى ذريتهم بالاسترقاق ـ وبين البابا المصرى الحالى فى عهد الجنرال القصير الذى يشهد إذلالا للاقباط ويؤيده ولا يعترض عليه .
6 ــ لا يمكن لمن يسلّم عقله للكهنوت الكنسى أو الكهنوت السُّنّى أو الكهنوت الصوفى أو الكهنوت الشيعى أن يكون جنديا مخلصا فى مواجهة الاستبداد ، لأنه طالما رضى أن يركبه الكهنوت الدينى فإن هذا الكهنوت الدينى نفسه مركوب ، يركبه المستبد .!
7 ـ أنّهبالتوعية بالحقائق القرآنية ـ التى لا خلاف عليها ــ يمكن للشعب ـ أى شعب ـ أن يغير ما فى نفسه من ثقافة الخنوع والخضوع والذل ، ليكون الخنوع والخضوع والخشوع للخالق وحده ، وأنه بيد الخالق وحده جل وعلا حياتنا وموتنا ، وما ينزل علينا من مصائب ورزق ، وأنه لا تستطيع قوة بشرية أن تمنع الموت عن شخص أو أن تميت شخصا قبل موعد موته ، ولا تستطيع ان تتحكم فى الأرزاق أو المصائب من خير أو شر : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الحديد ) ، وإذا كان الموت حكما بالاعدام لا مفر منه وسيأتى لكل فرد فى موعده المقرر سلفا فلا خوف منه ، والموت فى عزة خير من حياة ذليلة خاضعة لمخلوق مستبد .
4 ـ لا بد من إصلاح النفوس وتغييرها من الخنوع لمخلوق الى العزة برب العزة جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) الرعد ).
5 ـ لا بد من قيام الناس جميعا يدا واحدة فى تأسيس العدل والقسط للجميع وليس ثورة لإحلال مستبد بمستبد آخر كما يحدث فى بلاد ( المسلمين ) . يقول جل وعلا عن المقصد من إنزال الرسالات السماوية وكل الرسل : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ) . إن لم يتيسر إقامة القسط سلميا بالدعوة القرآنية فلا مفر من إستخدام الحديد ( اى القوة المسلحة ) . والثائر الذى يضطر لاستخدام القوة المسلحة لإقامة القسط هو يقاتل فى سبيل رب العزة جل وعلا ، وهو ينصر دين رب العزة جل وعلا ، وهو بما يفعل يسجل إسمه فى لوحة الشرف عند ربّ العزة جل وعلا ، أو بالتعبير القرآنى البليغ الذى يسرى فوق الزمان والمكان : ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ) .
أخيرا
1 ـ بالطبع ستكون هناك أقلية تنتمى الى ثقافة العبيد مثل ( عبيد البيادة ) والبيادة هى حذاء العسكر ،. هؤلاء هم (عبيد أى بيادة ). وشعارهم ( مات الملك / عاش الملك ).
2 ـ لا مفر من التضحية ببعض الدم لمنع أنهار من الدم .. وفى النهاية فكلنا سيموت ..ولكن يظل الفارق بين يموت عزيزا ومن يعيش ذليلا ويموت ذليلا .
3 ـ انت تعيش فى هذه الدنيا وقتا قصيرا محددا ولا بد أن تموت فى موعدك . لماذا لا تعيش وقتك هذا حُرّا عزيزا ؟