مقدمة :
1 ـ ( العُهر الأزهرى ) ، يعنى أن يجمع بعض ( الرعاع ) الأزهريين بين الجهل والفساد ، ويخدم جهات الأمن فيترقى حتى يكون شيخ الأزهر أو وزير الأوقاف أو مفتى الديار المصرية أو رئيس الجامعة الأزهرية . من هذه المواشى من أفتى بجواز التعذيب للنظام العسكرى من عهد عبد الناصر الى عصر مبارك والسيسى ، ومنهم من سرق ونهب وفضحته الصحف وبقى بعيدا عن المُساءلة حفظا لمقام الأزهر (الشريف جدا) . ومنهم من إشتهر بشذوذه الجنسى فتكتموا أمره واستخدموا علته فى الضغط عليه وفتحوا أبواب الاعلام لينشر السلفية بتفسيره ، ومنهم من وصل به جهله الى عجزه عن قراءة المكتوب له ليقرأه ، وكان يخطىء فى قراءة الآيات القرآنية المكتوبة له ، ومنهم من سرق الأبحاث العلمية ليحصل بها على درجة الدكتوراة ، ليصل بها الى رئاسة الجامعة الأزهرية أو وزارة الأوقاف . ومنهم من كان حاصلا على ثانوية عامة لم يؤهله مجموعه لدخول كلية محترمة فدخل معهد الاعداد والتوجيه الأزهرى ، وبعده دخل كلية أزهرية ، ثم أصبح موظفا بائسا فى جريدة أزهرية لا يقرؤها أحد ، ثم حصل بالنصب على دكتوراه ، ثم بقى مفتيا ، يتقيأ كلاما عجيبا ليثير ضجة حوله فى الاعلام . هذه بعض مضحكات (العُهر الأزهرى )!.
2 ـ فى وجود هذا ( العهر الأزهرى ) يقود الأزهر يستحيل على شيخ أزهرى مثلى أن يترقى لأنه (غير عاهر ) ولأنه ( نابغ علميا وثائر على مناهج الأزهر ولا يمكن أن خادما لأمن الدولة ) ، ولأنه كان مشاكسا عنيدا معتدا بعلمه ونبوغه شجاعا لا يخشى أحدا ، فقد عاش التحدى من نشأته.
3 ـ أساس الموضوع هنا هو النشأة فى ظل أب أزهرى فقير. لقد جئت الى هذا العالم لأدفع فاتورة ظلم تحملها أبى ومات وتركنى أكبر أولاده لأبدأ من تحت الصفر . لنعطى مختصرا لما حدث .
أولا : الجد :
1 ـ جدى ( محمد على ابراهيم ) كان كبير عائلة ( هل) على أو( آل على ) والمشهورة وقتها بعائلة الخليفة نسبة الى توارثها ( الخلافة ) فى الطريقة الرفاعية . كان جدى هو الشيخ الرسمى للطريقة الصوفية الرفاعية ، توارثها عن آبائه ، وقد أصهر الى عائلة النسور فى منطقة فاقوس والاسماعيلية ، وهم عرب وافدون من الأردن ، أخت جدى تزوجت كبيرهم ، ثم تزوجت بنته ( شقيقة والدى ) ابن عمتها ، واستمرت المصاهرة الى أن تزوج أبى (والدتى ) منهم ، وتزوج أخى ( محمد ) منهم أيضا . تزوج جدى أربعة من النساء ، من الكبرى أنجب إبنه الأكبر ( الحاج أحمد ) عام 1898 ، ثم أنجبت له خمس بنات ، ثم ختمت بوالدى ( الشيخ منصور ) عام 1917 . وتزوج جدى أرملة أخيه فأنجب منها بنتا ، وولدا هو ( الحاج على ) جد :( عثمان محمد على محمد على )، وتزوج بنت عمه فأنجب منها بنتا وولدا هو ( الشيخ محمد محمد على ) الذى كان نابغة الأزهر، والأول على دفعته فى كلية اللغة العربية ، نفس الدفعة التى كان فيها الشيخ أحمد حسن الباقورى . وقبيل موته تزوج جدى الرابعة فأنجب منها التوأم ( رزق وكامل ) وبنتين .
2 ـ كانت هناك عائلة أخرى فى بلدة ( ابوحريز ) يزعم كبيرها الولاية الصوفية ، ولم يكن تابعا لطريقة صوفية رسمية ، ولكنه كان الأكثر شهرة ونفوذا وثروة ، وعلى العكس من جدى الذى خصص قاعة كبرى فى بيته للضيوف والبائعين المتجولين ( أبناء السبيل ) وينفق من جيبه كان الشيخ الصوفى الآخر ثم خليفته يجمع ثروة هائلة من المريدين . كان جدى يملك 25 فدانا تجاور الأرض التى يملكها أثرى رجل فى المنطقة ، وهو ( الحاج حبيب ) من بلدة بنى حسن المجاورة ، وكان رجلا مرابيا جمع ألف فدان بالتحايل بالربا وبالتقاضى وفساد المحامين . ووصل الى الايقاع بجدى حين ضمن جدى قرضا بربا لأحد شيوخ بلدتنا ، وعجز عن السداد ، فتولى جدى السداد ، وصار يسدد فى الموعد ، وفوجىء مرة واحدة بالحجز على أرضه الزراعية بالتزوير ، ودخل فى القضايا مع هذا المرابى المتخصص فى الموضوع ، والذى يجعل أعوانه المحامين يدافعون عن خصومه فى القضية ، وبهذا فقد جدى معظم أملاكه مرة واحدة ، ومات إبنه الشيخ الأزهرى ( محمد ) فجأة مسموما ، واضطروا ابى الى قطع دراسته فى الأزهر، واصبح يعمل فلاحا فيما تبقى من أرض العائلة . وأعتقد أنها كانت مؤامرة محبوكة من عائلة الشيخ الصوفى الآخر .
ثانيا : العم الأكبر والأب :
1 ـ وبدأت العائلة بزعامة عمى الأكبر ( الحاج أحمد ) تتفاوض مع الحاج عيد فى جدولة الديون ، وإسترداد ما يمكن إسترداده من الأرض ، وخلال بضع سنوات تمكن (الحاج أحمد ) من إسترداد ما يزيد عن عشرة أفدنة ، وكانت المفاجأة أنه كتب ثمانية منها باسم زوجته التى كانت مسيطرة عليه . وضاع نصيب أبى وأخواته الشقيقات ، ونال غير الأشقاء من الذكور والاناث بعض الفتات .
2 ـ وسقط أبى فريسة المرض وهو يقترب من الثلاثين بلا زواج ، فترك الفلاحة ، وصار مأذونا شرعيا وإفتتح مكتبا لتحفيظ القرآن ، وذهب الى أسرة النسور فرأى هناك فتاة رائعة الجمال ، تحفظ بعض القرآن وتقرأ وتكتب ، فتزوجها .
3 ـ ورث ابى من بيت العائلة ( قاعة الضيوف ) فهدمها وأقام عليها بيت الزوجية . وكنت أول الأبناء . جئت لأب فقير مشهور بالكرم والتقوى ، كانت أخواته البنات اللتى يكرهن زوجة الأخ الأكبر يجدن الراحة فى بيتنا مع والدتى ، فأتخذت زوجة عمى من ( أمى ) عدوة لها ، مع أن أمى كانت أصغر من بنتها الكبرى . زاد فى حقدها أن ( أمى ) أنجبتت أربعة من الأولاد وبنتا واحده بينما هى أنجبت العكس أربع بنات وإبنا واحدا هو ( عبد الحميد أحمد محمد على ) .
ثالثا : الطفولة :
1 ـ لم أعش طفولتى . لآ أتذكر الوقت الذى علمنى فيه أبى القراءة والكتابة أو حفظ القرآن أو الصلاة . أتذكر أننى كتبت لوحة فيها حديث ( علموا أولادكم الصلاة لسبع ...) ثم مللت من تذكير ابى لى ( هل صليت ) فكنت ـ عنادا ـ أذهب الى مصلاة على الترعة فاضع الماء على وجهى وشعرى ، ثم أضع جبهتى على قش المصلاة ليعلق بجبهتى بعض القش ، واعود فيرانى ابى فلا يكرر نفس الكلام . ثم سألت نفسى : ما الذى يمنع أن اصلى فعلا ؟ فأصبحت أصلى عن رغبة وإقتناع ، وأحمد ربى جل وعلا أنه ما فاتنى فرض صلاة حتى اليوم . كنت أخرج من المدرسة الابتدائية لأساعد أبى فى تحفيظ الأطفال ، وبعضهم من نفس سنى . وأتذكر أننى أتممت ختم القرآن وأنا فى الثانية إبتدائى، واقيمت حفلة الختم على (أرز بلبن) ، وقد رجعت مسرعا من المدرسة ووضعت يدى فى ( طشت الأرز باللبن ) وصرخت فقد كان ساخنا جدا . بالطبع لم يكن حفظا جيدا ، فكانت مراجعته فيما بعد الى أن نجحت فى القبول فى معهدابو كبير ، وانتقلت من الصف الخامس من مدرسة أبو حريز الابتدائية لأكون فى هذا المعهد.
2 ـ فى السنة الثالثة فى هذا المعهد فوجئت بشيخ المعهد يستدعينى ، وركبت سيارة تنتظرنى ، وفوجئت فيها بابن عمى الشقيق عبد الحميد جالسا يبكى ، ومعه آخرون ، كان منهم زعماء الطلبة فى معهد الزقازيق ( أحمد عمر هاشم ، وعلى العزونى ) و (منصور محمد منصور ) ابن بلدتنا وتلميذ أبى ، وعرفت بوفاة أبى ، وأن وفدا من المعهد الثانوى بالزقازيق جاء للعزاء ، لأن الكثيرين من هذا المعهد كانوا تلامذة لأبى وهو الذى أهلهم وقدّم لهم فدخلوا هذا المعهد .
3 ـ مات أبى فقيرا ، وأتذكر جنازته الحافلة وظللت طيلة الشباب أسمع الثناء والترحم عليه . كنت فى التعليم وأخوتى صغار ولا دخل لدينا . شعر العم الأكبر بتأنيب الضمير فأعلن تكفله باستمرار تعليمى . وانتقلت من معهد أبوكبير الى معهد الزقازيق ، واقمت مع ابن عمى عبد الحميد هناك . جاء خالى الأكبر لأعمامى وأنذرهم بأن يتزوج أحدهم من (أمى ) وإلا سيأخذها ويترك أولادها لهم ، وأعطاهم مهلة ، قبيل إنتهاء المهلة تزوج ابن عمتى ( أمى )، وكان يتيما رباه أبى ، وخشى أن يضيع أولاد خاله فتطوع بهذا الزواج . فوجئت بهذا الزواج ، وشعرت بالاهانة ، ثم قبلت الأمر الواقع بسبب صدق ابن عمتى فى حبه لنا ، ثم أنجبت أمى ثلاثة منه فصاروا ـ ولا يزالون ــ قُرة عين لى .
رابعا : فترة القهر فى التعليم الثانوى
1 ـ عانيت القهر يتيما وشابا من وقت وفاة أبى الى أن إستقللت بنفسى وبإخوتى عن عمى وزوجته . كان إذلالا حاجتى اليهم كل شهر. وعندما حان تقديم أخى محمد علاء الدين الى التعليم الأعدادى فى مدينة كفر صقر رفضت زوجة عمّى الحاج أحمد الانفاق عليه ، وكان مجرد إشتراك شهرى فى القطار لا يتجاوز 80 قرشا ، فتكفل زوج أمى بهذا ، والتحق محمد علاء الدين منصور بالاعدادى . وحين جاء الدور على أخى سيد رفعت أعلنت زوجة أبى بكل حسم أنه لو ساعده أحد فى الالتحاق بالاعدادى فسيخرجوننى أنا من التعليم . فاضطررنا الى ان يعمل أخى سيد رفعت فلاحا عندهم . فى هذا القهر دخلت إمتحان الاعدادية الأزهرية ، وكانت من البداية لا تعجبنى مناهج الأزهر ، خصوصا فى الفقه والتفسير والحديث ، فإعتدت أن أكتب إجابتين ، إجابة من الكتاب المقرر ، ثم رأيى الشخصى . عوقبت على هذا بعدم الحصول على المركز الأول فى الاعدادية الأزهرية على مستوى الجمهورية ، وصرت الثانى . وتكرر نفس الأمر فى الثانوية الأزهرية عام 1969 ، فكان ترتيبى الرابع على مستوى الجمهورية .
2 ـ قبيل إمتحان الثانوية الأزهرية وفى شهر أبريل مات فجأة عمى الحاج أحمد ، وأفضى لى وهو يحتضر بحقوقنا لديه، وبموته دخلت فى دوامة ضياع خوفا من رفض زوجة عمى الانفاق علىّ فى فترة الامتحان ، ظللت لا أفتح كتابا من القلق ، ثم بدأت أسترجع المذاكرة ليالى الامتحان . ونجحت بتفوق وتحررت من سيطرتهم وإذلالهم ، فقد اصبحت لى مكافأة للتفوق (120 ) جنيها فى العام ، وحافظت على التفوق فى قسم التاريخ بكلية اللغة العربية بالحصول على ( جيد جدا ) فاستمرت نفس المكافأة ، ثم تخرجت بمرتبة الشرف عام 1973 ، فتم تعيينى معيدا .
3 ـ لم أستفد من مكافأة التفوق فى الاعدادية ، كانت 28 جنيها أخذها منى عمى الحاج أحمد ، واشترى بها ( جاموسة ) ولم اعترض، وقد باعها ابنه عبد الحميد فيما بعد وتجهز بها للزواج . كنت أعمل فى فترة الصيف فى مقاومة دودة القطن ، وكان عمى الحاج أحمد يقبض ــ أحيانا ـ مكافأتى ، ولم أعترض . إختلف الحال بعد حصولى على الثانوية متفوقا فيها. قضيت العام الأول متفرغا للكلية اعيش فى القاهرة ففوجئت بجهل الأساتذة ، ورأيت أن من السفاهة أن أتفرغ من أجلهم ، ولذا قررت أن ابحث عن عمل ، واكتفى بزيارة الكلية كل حين لأقبض مكافأة التفوق واشترى المذكرات الهزيلة التى يؤلفها الأساتذة ، وبعضها كنت أشتريه ليلة الامتحان ، حيث أضطر للسكن فى القاهرة وقت الامتحانات ، ثم أكون الأول على قسم التاريخ . فى السنة الثانية عملت مدرسا فى مدرسة خاصة فى مدينة ههيا ، وفى السنة الثالثة والرابعة تفرغت فى بلدتنا أبوحريز وأصبحت القائم بالنظارة على المعهد الأزهرى المُنشأ فيها حديثا. وقتها أخرجت أخى سيد رفعت من العمل فى الأرض ، وذاكرت له الاعدادية الأزهرية نظام ثلاث سنوات ، وبعد عدة أشهر نجح وأصبح طالبا فى الثانوى الأزهرى ، وفى إمتحان الشهادة الثانوية علمى كان الأول على مستوى الجمهورية . وهو الآن طبيب على المعاش .وأدخلت شقيقى الأصغر عبد الرزاق الى التعليم الاعدادى ، وكان ترتيبه الأول على الاعدادية الأزهرية على مستوى الجمهورية ، ثم كان ترتيبه الأول أيضا على الثانوية الأزهرية علمى ، وتخرج فى كلية الطب بمرتبة الشرف ، وأصبح أستاذا فى طب الأطفال . أما أخى التالى محمد علاء الدين فقد توفى من عدة سنوات وهو رئيس قسم اللغات الشرقية بآداب القاهرة . بالمناسبة : عبد الحميد ابن عمى كان الأول على الثانوية الأزهرية ، والأول على كلية اللغة العربية ، وتعين فيها معيدا ، وحصل على الدكتوراة فيها ، وهو الذى أدخلنى هذا الكلية ورضيت لأدخل قسم التاريخ ، حبا فى التاريخ .
4 ـ فى فترة القهر ـ فى التعليم الثانوى ـ مرّت على أوقات كنت أدعو الله جل وعلا أن يُريحنى بالموت . واذكر فى مرة منها كنت اركب الاتوبيس فاصطدم الاتوبيس بالكوبرى ، ولم يمت أحد .! . وهربت مرة الى القاهرة وذهبت الى مقر جريدة الأخبار لأقابل الاستاذ محمد زكى عبد القادر ، ونصحنى واحد هناك بالعودة وإتمام تعليمى . وفكرت فى الالتحاق بالكُتّاب العسكرى لأستقل وأستريح من الإذلال . ونظرا لطول فترة التعليم الأزهرى الثانوى وقتها ( خمس سنوات ) فقد قررت عام 1967 ، وأنا فى الثالثة ثانوى أزهر أن أذاكر الثانوية العامة نظام ثلاث سنوات . ورفض هذا ابن عمى عبد الحميد ، خشية أن أرسب فيها وأرسب فى الامتحان الأزهرى ايضا ، فكنت أذاكر ـ خلسة ـ مواد الأولى والثانية والثالثة الثانوى العام . وبعد نجاحى فى الامتحان الأزهرى ( ثالثة ثانوى ) سمح لى عبد الحميد بمذاكرة الثانوية العامة فى ثلاثة أسابيع متبقية . ونجحت فيها وحصلت على مجموع 152 ونصف ، وحُرمت من القبول بكلية دار العلوم بسبب نصف درجة ، وتعرضت الى اللوم من ابن عمى.!. واضطررت الى إكمال التعليم الثانوى الأزهرى حتى الخامسة ثانوى . وأستفدت من هذه الثانوية العامة بالتعيين مدرسا فى التعليم الأزهرى فى المعهد الذى بقريتنا . وفى فترة إقامتى فى البلد جمعت أولاد العائلة وآخرين ، وقمت برعايتهم علميا ، وأدخلتهم التعليم الأزهرى كما كان يفعل أبى .
خامسا : كيف تغلبت على القهر فى التعليم الثانوى
1 ــ تغلبت على القهر فى التعليم الثانوى بالقراءة المتوسعة والاستماع الى الأغانى ، والاستغراق فى أحلام اليقظة ،لأنتقل الى عالم أصنعه بنفسى بعيدا عن القهر الذى أعيشه. ورثت من والدى مكتبة عامرة وقرأت معظمها فى فترة القهر هذه . وبهذه المحصلة الثقافية كنت أنظر بسخرية الى جهل الأساتذة فى التعليم الثانوى ثم الجامعى . براعتى فى السخرية من مؤلفات الأزهر كانت تخيف أساتذة معهد الزقازيق الثانوى ، كنت مشهورا بالتفوق وبالمشاغبة أيضا ، وعانى منى مدرسو الفقه والحديث والتفسير . أتذكر أن مدرس الأدب كان مُعجبا بنفسه ، ورأنى أتظاهر بالنوم فأمرنى بالانتباه ، فوقفت وقلت له إنك تقول كذا وكذا ، وهذا خطأ لأن الصحيح هو كذا وكذا ، وهذا مذكور فى كتاب كذا ، ثم أليس من ألفضل أن تتركنى أنام ، وزعقت : (هو الواحد ما يعرفش ينام فى الفصل ده يا عالم ؟ ) وضج الفصل بالضحك .!. كانت العادة أن أدخل المعهد متأخرا ، ومعى صديقاى ( حمدى الهنداوى وسعيد أبو العزم ) ، وفى مرة لقينا شيخ المعهد الشيخ مهدى محمود ، شقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، ونصحنا أن نتأسى بالرسول لأنه حسب قوله( كان ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا ) فقلت له:( يا مولانا ، عليه السلام ما كانش فى الثانوية ) .! لقى منى أبو هريرة سخرية تناقلها أصحابى ، وراجت ( الأحاديث ) التى أؤلفها على منوال الأحاديث المقررة علينا فى الأزهر ، منها مثلا ( سئل شيخ الأزهر سخمط الله وجهه عن أحب البنات اليه ، فقال : بنات الشرقية ، قيل ثم من ؟ قال : بنات القاهرة ، قيل ثم من ؟ قال بنات الغربية ، قيل ثم من ؟ وكان متكئا فجلس وقال : ألا وبنات المنصورة ، ألا وبنات المنصورة ، وما زال يكررها حتى أنزل ، وفى رواية : حتى أمنى ) . والغريب أننى لما ذهبت الى التعليم الجامعى وجدت هذه الأحاديث الفكاهية الى صنعتها رائجة . وحدث أن زرت قرية صديقى حمدى الهنداوى ( المناحريت ، ديرب نجم شرقية ) ففوجئت بنفسى مشهورا هناك بسبب تناقل الأقاصيص عنى ، وقد فوجئوا بأنى شاب عادى ، وقال أحدهم : كنا نتصورك رجلا ضخما له شوارب ..
2 ـ تغلبت على القهر فى التعليم الثانوى بالايمان برب العزة جل وعلا . فليس لى غيره عونا . الشدائد تدفع الانسان للإيمان . وقد يكون الايمان مغشوشا فيقع أحدهم ضحية لدين أرضى يتعلق بالأضرحة متوسلا بها . لم تكن هذه حالتى وقد أعلنت فى قريتى أن الأضرحة المقدسة فيها رجس من عمل الشيطان . ولم أكن أعتقد فى ( كل الأحاديث ) بالتالى كان إيمانى برب العزة وحده ، خصوصا وأن ولعى بالتاريخ وبالدراما وسخريتى بالشخصيات المقدسة فى الأزهر وغيره ـ كل ذلك حال بينى وبين تقديس البشر من البداية ، فأصبح تقديسى لرب العزة جل وعلا وحده ، استغيث به وقت أزماتى ، وكانت كثيرة متصلة . اليه وحده كنت أبث حزنى وقهرى من أقرب الناس الى . واليه وحده كنت ألجأ أطلب العون . وبهذا الايمان تصاغر أمامى شيوخ الأزهر فى التعليم الثانوى والجامعى ، خصوصا مع معرفتى بسقوطهم الأخلاقى وجهلهم ونفاقهم . وكان مستحيلا أن أخشاهم وأن اسمح لهم بتكبيل عقلى ومنعى من الاجتهاد ، لذا إنطلقت فى تحطيم أبقارهم المقدسة ، ومن بداية رسالتى للدكتوراة التى فضحت التصوف تحديت زعيم الصوفية شيخ الأزهر وقتها عبد الحليم محمود ، وعصابته المسيطرة على الأزهر وجامعته . هذا التحدى جعلهم يشيعون أنى ( مدفوع من جهات أجنبية ) لأنهم لا يتصورون شابا مدرسا مساعدا يتحداهم ، وهم يعرفون أنه من السهل عليهم تحطيمى بأن يكتب المشرف على الرسالة ( وهو من أعدى أعدائى ) سطرين فقط يقول فيهما بعدم صلاحيتى باحثا ، ويترتب على ذلك تحويلى من مدرس مساعد الى موظف فى إدراة الجامعة ، بل أكثر ، هو أن أفقد تأجيل التجنيد ، وأدخل الجيش ، وكنت وقتها متزوجا وأعول بالاضافة الى مسئولياتى الأخرى . جال هذه كله بخاطرى ، والايمان بالواحد القهار زادنى تمسكا بالحق ، وقد قلت لنفسى وقتها : انه ليست بينى وبينهم خصومة شخصية ، هى خصومة تتعلق برب العزة جل وعلا ، هم يرونه جل وعلا محتاجا لشركاء من أولياء التصوف ، وأنا أؤمن أنه جل وعلا لاشريك له . وبالتالى فأنا أدافع عن رب العزة ، ورب العزة يقول (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ) . لم يستطيعوا كتابة هذا التقرير الذى كانوا يهددننى به فقد صدقوا إشاعتهم بأننى مدفوع من جهات أجنبية ، فخافوا من تلك الجهات الأجنبية .. ! .
3ـ تغلبت على الخوف من أصحاب النفوذ ـ وحتى الآن ـ بقوله جل وعلا : (إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران ) . فى فترة المراهقة كنت أقول لنفسى إذا كنت أعصى الله جل وعلا ولا أخاف منه فكيف أخاف من بشر مثلى ؟ وكان يُخجلنى أن استخفى من الناس ولا أستخفى من الله جل وعلا مثل بعض الصحابة الذين قال عنهم رب العزة جل وعلا: ( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ )(108) النساء ) ، وارى الأمر لا يقتصر على الايمان وحده بل يشمل إحترام الذات ، فكيف ألتمس رضا الناس ، ومعظمهم أراه دونى فى النبوغ ـ بل إن المشاهير منهم والذين يتمتعون بتقدير أو تقديس الناس هم من حُثالة البشر ، فكيف أهتم بمراضاة أولئك البشر ونفاقهم ، بينما الواجب على السعى فى رضا رب العزة الذى يملك حياتى وموتى ورزقى ؟ وكيف أخاطبه فى صلاتى ( إهدنا الصراط المستقيم ) وأنا مستمر فى العصيان ؟ .
4 ــ أتذكر فى العام الجامعى الذى حضرته فى كلية اللغة العربية ( 1969 / 1970 ) أننى إرتديت قبعة ، أثارت الاستكار ، فكنت أقول : ما هو الدليل على أن إرتداءها حرام ؟ وما هو الدليل على أن إرتداء الزى الأزهرى فرض ؟ . وأتذكر أننى كنت الوحيد من أعضاء هيئة التدريس فى كلية اللغة العربية الذى يصلى فى مصلاة الكلية . وهذا قبل سيادة الوهابية وتدينها السطحى وانتشار الذقون . بعدها تسابق الأساتذة فى الصلاة وارتفع الأذان فى الكلية رياءا ونفاقا ..! كيف أخاف من هذه النوعية من البشر . بالعكس .. هم الذين كانوا يخافون منى ـ ولا يزالون .
7 ـ من أجل هذا ، كنت ولا أزال ـ ذا وجه واحد ، أمارس حريتى علنا فى الطاعة والمعصية ، وفى ممارسة المباح حتى لو كرهه الناس أجمعون . أقول ما أراه حقا ، لا أخشى ردود الفعل ، يكفينى أننى مقتنع بما أقول ، ولا أتحرج من الاعتراف بالخطأ فالباحث باحث عن الحق ، وهو يخطىء ويصيب ، ولا حرج فى هذا . يكفينى أننى أعلم أننى مسئول أمام رب العزة عما أقول وعما أكتب .
أخيرا :
وأعتقد أن معاناتى من القهر طفلا وشابا هى التى ألجأتنى الى رب العزة ، وأرجو أن أكون قد نجحت فى هذا الابتلاء ، وأنا أقترب من القبر . !