أولا : لكل منا قبران :
ليس فى القرآن الكريم مصطلح ( دفن ) . البديل هو ( قبر ) بمعنى دفن وأخفى . يقول جل وعلا عن مراحل الانسان : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) (21) عبس ) : هى نطفة تتحول الى انسان يخرج الى الحياة ، يختار طريقه ، ثم يموت ويتم (قبره ودفنه ) ثم فى الموعد الذى شاءه رب العزة يكون البعث والنشور . هنا نفهم معنى ( قبر ) فى قوله جل وعلا (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) . ( أقبره ) أى أخفاه ودفنه، وجعل فوقه قبرا يحجبه عن الرؤية . هذا واضح بالنسبة لجسد الميت الذى نقبره ونخفيه حتى لا نتقزز بمنظره وبرائحته . ولكن هناك قبرا آخر برزخيايتتم فيه (قبر ) النفس . ويالتالى فلدينا قبران : مادى زائل للجسد المادى للميت ، وبرزخى لنفس الميت الخالدة حين ترجع الى برزخها الذى أتت منه من قبل .
ثانيا : القبر المادى
1 ـ بدأت القصة مع أول قبر لأول جثة فى تاريخ الانسانية ، حين قتل ابن آدم أخاه فى حياة أبيه ، ولم يعرف كيف يوارى (سوأة) أى جثة أخيه ، وتعلم هذا من الغراب ، قال جل وعلا: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ (31) المائدة )
2 ـ من أعظم التكريم لبنى آدم هو ( دفن ) جثته أو ( سوأته ) فى التراب فيما يعرف بالقبر ، وهذا لا يحدث للحيوانات الأخرى ، وخصوصا ما نأكله منها ، حين تتحول بطوننا الى قبور لجثث هذه الحيوانات. يقول جل وعلا فى تكريم بنى آدم :( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) الاسراء )
3 ـ ونعطى أمثلة قرآنية ورد فيها مصطلح (القبر ) المادى :
3 / 1 : فى التشريع الاسلامى يمكن الصلاة على الميت بالدعاء على قبره. الميت لا يستفيد من هذا شيئا ، فقد تم قفل كتاب أعماله ، هو مجرد تكريم لذكراه . وتكريم ذكرى الميت، أو ( تأبينه ) عادة بشرية فى كل الثقافات . ولقد حرم رب العزة بعض من مات من المنافقين من هذا التكريم ، فقال جل وعلا للنبى عليه السلام :( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) (84) التوبة ). الشاهد هنا الحديث عن قبر مادى .
3 / 2 : والموتى فى قبورهم لا يتكلمون ولا يسمعون ، ومثلهم فى هذا ـ على سبيل المجاز ــ الكافرون الذين على قلوبهم أكنّة فلا يسمعون الهداية ، يقول جل وعلا :( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) فاطر ).
ثالثا : أصل القبر البرزخى :
1 ـ قال جل وعلا عن إنشغالهم بالتكاثر فى المال طيلة حياتهم حتى يصل الى الموت : (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ (2) التكاثر ). التعبير بالزيارة هنا رائع . نفهم روعته من قوله جل وعلا عن البعث والحشر: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) ق ). وندخل بهذا على القبر البرزخى :
2 ـ الأرض المادية التى نعيش فيها حياتنا الدنيا تتخللها ست أرضين ويتخلل الست أرضين سبع سماوات ، ويتخلل هذا كله أوامر الله جل وعلا الذى أحاط بكل شىء علما ، يقول جل وعلا (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً )(12) الطلاق). وبالتالى فهنا أرض مادية نعرفها ، وهناك عوالم ( البرزخ ) ومستوياته الأرضية والسماوية التى لا نعرفها. وفى البرزخ الأرضى ( الست أرضين ) تعيش الشياطين والجن والملائكة ذات العلاقة بالبش كملائكة تسجيل الأعمال وملائكة الموت . وهذه المخلوقات ترانا ولا نراها ، تتخللنا ولا نشعر بها .
3 ـ وفى مستوى من البرزخ الأرضى توجد جنة المأوى التى كان فيها آدم وزوجه يريان الشيطان ويتعاملان معه . كان جسدهما الأرضى الذى ينتمى الى أرضنا المادية تغلفه أنوار المستوى البرزخى فى هذه الجنة . ووسوس لهما الشيطان لكى يكشف لها حقيقتهما الأرضية المخبأة ( السوأة ) تحت أنوار المستوى البرزخى ، والتى لا يريانها ، يقول جل وعلا : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا )(20)الاعراف) ، وبجرد أكلهما من الشجرة المحرمة ظهرت لهما سواءتهما أو جسدهما الأرضى ، والذى لا يصلحان به للبقاء فى هذه الجنة الأرضية، بل عليهما الهبوط الى المستوى المادى من الأرض ، وحاولا تغطية جسدهما المادى ( السوأة ) بورق الجنة النورانى ـ دون جدوى : ( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ )(22) الاعراف ) (فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) (121) طه)، بل كان الشيطان يتشفى فيهما ينزع عنهما لباسهما النورانى الذى يغطى سواءاتهما ليريهما سواءاتهما ،أو جسدهما المادى:( يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا )(27) الاعراف ). وبالجسد المادى ( السواة ) هبطا الى الأرض المادية . وقال ابن آدم القاتل عن جثة أخيه :( يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي )(31) المائدة ).
4 ـ هذه السوأة هى التى ندفنها فى القبر المادى . ولكن النفس التى تركت هذه السوأة بالموت يكون لها قبر آخر فى البرزخ ـ الذى أتت منه ـ وتكمن فيه ، أو تُدفن فيه ، الى أن تستيقظ يوم البعث . هنا يكون القبر الآخر فى البرزخ .
رابعا : حديث رب العزة عن القبر البرزخى
1 ـ قلنا أن الأرض المادية التى نعيش فيها تتخللها ست أرضين ، وبالتالى فالقبر المادى فى هذه الأرض المادية يتخلله قبر برزخى تكمن فيه نفس الميت . جسد الميت ( السواة ) تحلل وعاد الى عناصره الطبيعية ، ودخل فى دورة أخرى،سمادا للنبات ثم طعاما للحيوانات والانسان . بينما النفس فى قبرها الآخر غير المرئى لنا تظل فى برزخها الى يوم البعث والنشور . وعن القبر العادى والبرزخى (معا) يقول جل وعلا : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) طه ) . منها أى من هذه الأرض المادية والبرزخية يتم بعثنا ، وإخراجنا مرة أخرى ، كيف ؟
2 ـ هذا الكون وما يتخلله من برازخ يتدمر تماما ويصبح لا شىء . ولكن الأرض قبل تدميرها تُلقى بما فيها من قبور برزخية ، يقول جل وعلا : (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) الانشقاق ) الأرض تتمدد برازخها ، وقبيل تدميرها تُلقى بما فيها من قبور برزخية وتتخلى عنها ، وبذلك تكون قد حققت أمر ربها جل وعلا . فهذه القبور البرزخية تحوى الأنفس البشرية التى ستواجه لقاء الله جل وعلا يوم الحساب .!
3 ـ الحديث هنا عن الأرض المادية وبرازخها الست ، وزلزلة الساعة تحدث لها معا ، يقول جل وعلا :( إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه (8)الزلزلة) . الأرض ببرازخها تتزلزل ، ويخرج ما فى باطنها من أسرار وأخبار (الأنفس و كتب الأعمال ) وذلك بأمر الرحمن جل وعلا ووحيه ، وعند البعث تطير الأنفس أشتاتا ، وتطير معهم كتب أعمالهم ليروها ، وفى الحشر يحملون أعمالهم على ظهورهم (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) الانعام ). يطيرون من قبورالأرض البرزخية مثل الجراد المنتشر (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) القارعة).
وعليه فقوله جل وعلا : ( وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) الحج ) يعنى القبور البرزخية وليس تلك القبور المادية التى نصنعها والتى تدمرت .
4 ـ فى زلزلة الأرض ببرازخها تتبعثر تلك القبور البرزخية ، ومن السياق القرآنى عن تبعثر القبور نفهم أن لهذا الكون نظاما ، بقيام الساعة يسقط هذا النظام فيتدمر الكون بكل مستوياته من السماوات والأرض ، يقول جل وعلا : ( إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) الانفطار ). ويتم تسليم عمل البشر اليهم ، كل فرد يتعلق عمله بعنقه ، (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) الاسراء ) . وفى الحشر يتم التزاوج بين كل نفس وعملها ، يقول جل وعلا :( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) التكوير ). وكل ما فى النفس من أسرار وسرائر يتم تحصيلها ، يقول جل وعلا :(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَمَا فِي الصُّدُورِ (10) (11) العاديات ) ، إنه اليوم الذى يتم فيه فضح السرائر :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) الطارق ) أنت الآن لا يعلم بشر سريرتك،فى هذا اليوم ستكون سريرتك كتابا مفتوحا متاحا يراه الآخرون .
5 ـ بعض الناس لا تُدفن جثته فى قبر ، ربما يأكله أسد ، أو يلتقمه حوت . من القرآن نعلم أن كل دواب الأرض يتم حشرها ، يقول جل وعلا : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الانعام )، وعن الوحوش يقول جل وعلا:( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) التكوير ). ينتهى أمرها بالحشر ، ليس عليها حساب ولا ثواب ولا عقاب .
إذا إلتهم حيوان ما إنسانا ، وصار بطن هذا الحيوان قبرا ماديا لذلك الانسان فإن هذا الحيوان سيتم بعثه وفى بطنه قبر برزخى لنفس هذا الانسان المأكول . يقول جل وعلا: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) الصافات ). لو مات يونس فى الحوت كان سيظل فى ( بطن ) هذا الحوت الى يوم البعث . ( بطن الحوت ) هنا يعنى هيكله البرزخى . هذا الحوت مات جسده المادى وتحلل ، ولكن يبقى منه هيكله البرزخى بما فيه من هياكل برزخيه لكل ما إلتقمه هذا الحوت فى حياته .