( إستقر ) من ( القرار ) أى صار موجودا . وقد يكون وجوده مؤقتا ، وقد يكون دائما . وقبل وجوده ربما يكون موجودا فى مكان آخر ، وربما يكون ( مستودعا ) فى ( مستوى ) آخر من ( الوجود) . ونعطى بعض التفاصيل :
أولا : المستقر النسبى الوقتى
1 ـ يقول جل وعلا فى قصة ملكة سبأ : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) النمل )، أى لما رأى عرش ملكة سبأ مستقرا أمامه . إنتقل عرش ملكة سبأ بأسرع من الضوء ( بتحييد الجاذبية ) فأصبح مستقرا أمام سليمان ، موجودا ماثلا أمامه . كان مستقرا من قبل فى مكان فأصبح مستقرا فى مكان آخر
2 ـ ويقول جل وعلا فى قصة إهلاك قوم لوط : ( وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) القمر) ، أى من الصباح ( إستقرّ ) بهم العذاب فأهلكهم . ( مستقر ) هنا بمعنى موجود . لم يكن العذاب موجودا قبل هذا ، ثم إستقرّ وحلّ بهم ، ثم انتهى وزال .
3 ـ ويقول جل وعلا عن إقتراب الساعة : ( اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) القمر ) ، مهما كانت اهواؤهم فكل أمر الاهى فى هذه الحياة الدنيا مستقر ، يأتى له وقته ، ويزول بإنتهاء وقته ، ومنه علامات الساعة ، ومظاهرها ، ومن مظاهرها تدمير الكون وتفتت وإنشقاق القمر .
4 ـ يستقر الجنين فى ( قرار مكين ) فى بطن الأم . يقول جل وعلا : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) المؤمنون ) ، وهو إستقرار مؤقت يخرج بعد قدر معلوم يتنفس هواء الدنيا ، يقول جل وعلا يخاطبنا : ( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) المرسلات )
5 ـ فى علمه جل وعلا بالغيب ، هناك أنباء وأخبار ستحدث فى المستقبل ، وقد أنبأ بها جل وعلا مقدما . وهى تحدث بناءا على مقدمات واسباب يفعلها البشر . وقد أخبر جل وعلا مقدما عن عقاب الاهى هو ( الفتنة الكبرى ) التى ستحل بالعرب بسبب تكذيبهم بالقرآن الكريم ، قال جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الانعام ). كان هذا فى سورة مكية نزلت وقت إشتداد التكذيب للقرآن قلبيا وسلوكيا . ثم آمن العرب ظاهريا ودخلوا ظاهريا فى الاسلام السلوكى الظاهرى بمعنى ( السلام ) : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر )، ثم مالبث أن إرتدوا وتحاربوا ثم قاموا بالفتوحات ، وهذا تكذيب سلوكى وكفر سلوكى بالقرآن الكريم ، وادت الفتوحات الى الفتنة الكبرى أو الحرب الأهلية ، ومنذ أن دخل المسلمون نفقها وهم قد تحولوا الى شيع وأديان أرضية متحاربة متقاتلة يذيق بعضهم بأس بعض . قال جل جل وعلا : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، وجاء الوقت الذى تحقق فيه هذا ، وحتى الآن نحن نرى هذا .!!.
وكل ما أخبر به رب العزة من غيوب تحققت أو ستتحقق بعد حين ، يقول جل وعلا :( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) ص )، يدخل فى ذلك علامات الساعة ومظاهرها ، وما سيحدث يوم القيامة . كما يدخل فى ذلك أيضا ( إستقرارنا ) المؤقت فى هذا الكوكب الأرضى .
الأرض مستقر مؤقت :
1 ـ بعصيان آدم وحواء أهبطهما رب العزة الى الأرض وفيهما الذرية ( أبناء آدم ) وجعل لنا فى الأرض مستقرا ومتاعا الى حين ، يقول جل وعلا : ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) البقرة ) ( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) الاعراف )
2 ـ لذا فهذه الأرض هى ( قرار ) بمعنى ( مستقر ) لنا ، يقول جل وعلا عنها : ( أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) النمل ) ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) غافر )، وفى مثل عن الكلمة الخبيثة يقول جل وعلا : ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) ابراهيم ).
مستقر ومستودع :
من ( نفس واحدة ) هى ( نفس آدم ) تم خلق كل الأنفس البشرية قبل وجود آدم الحسى ، يقول جل وعلا : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )(6)الزمر )(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا )( 189) الاعراف) ومن نفس آدم جاءت نفس الزوج ( حواء ) وبعد كان تناسلهما : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) النساء ). والبعث هو نفس الحال ، يقول جل وعلا عن خلق الأنفس من نفس واحدة وتسلسلها ، ثم بعثها (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان )
إلا أن لكل نفس موعدا تلبس فيه جسدها الأرض ، حين يتم نفخها فى الجنين تخرج الى مستقر مؤقت لها فى هذه الأرض . كل نفس تأتى من البرزخ ( حيث كانت ميتة مستودعة فيه ) فتدخل جسد جنينها فتدب فيه حياة النفس ويصبح إنسانا ، ثم يخرج من بطن أمه طفلا ثم يعيش العمر المقدر له سلفا ، ثم يموت تاركا جسده الأرضى يذوب ويتحلل فى الأرض ، وتعود نفسه الى البرزخ الذى كانت فيه الى أن يأتى موعد البعث . وبعد أن تدخل كل نفس مرحلة إختبارها فى هذه الحياة تأتى الساعة بتدمير الأرض والسماوات وكل هذا الكون ، ويخلق الله جل وعلا أرضا أزلية وسموات أزلية فى ( اليوم الآخر ) بعد إنقضاء هذا اليوم الدنيوى ( اليوم الأول ). وفى اليوم ( الآخر ) يتم حساب كل نفس بشرية على ما أسلفت فى حياتها المؤقتة فى (اليوم الأول ) ، ونتيجة الحساب إما خلود فى الجنة أو خلود فى النار .
يهمنا هنا : أن الأنفس كلها كانت مخلوقة ومستودعة فى البرزخ ، وهو مستوى لا نراه فى الدنيا ، هو أرض من الأرضين الست ، فالأرض سبع أرضين ، أسفلها هو الأرض المادية التى نعيش فيها ، وتتخللها ست أرضين اخرى بست مستويات من الوجود يعلو بعضها بعضا ثم تتخللها سبع سماوات بنفس العلو المتدرج . كل نفس لها مستودع فى هذا البرزخ ، تأتى منه الى الحياة فى جسدها الأرضى المؤقت ، تغادره مؤقتا بالنوم ، وتغادره نهائيا بالموت . وبالموت تعود الى مستودعها البرزخى تموت فيه الى أن تستيقظ مع كل الأنفس عند البعث . يقول جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) (98) الانعام ). المستقر المؤقت فى هذه الأرض ، والمستودع هو البرزخ الذى أتت منه النفس ، والذى اليه تعود النفس .
وكل نفس تحمل فى داخلها ذكرى من مصدرها الأول ( النفس الواحدة ) التى كانت لآدم . وهى الفطرة أو العهد الذى أخذه رب العزة علينا فى البرزخ ، والذى سيذكرنا به يوم القيامة : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) الاعراف ) ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) يس ).
وكل دابة على الأرض لها أيضا مستقر ومستودع لا يعلمه إلا رب العزة جل وعلا :( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) هود ).
ثانيا : المستقر الخالد
1 ـ هذه الحياة الدنيا مجرد متاع مؤقت وزائل ، أما الآخرة فهى الخلود الذى فيه القرار والمستقر الأزلى ، وقالها مؤمن آل فرعون يعظ قومه : ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) غافر ). وفيها سينتهى كل منا إما الى جنة فيها إستقرار خالد ، أو نار فيها بقاء خالد . عن الجنة مستقرا خالدا يقول جل وعلا : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) )(خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (76) الفرقان )، اما جهنم فهى : ( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) ابراهيم )( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) ص )( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) الفرقان )
أخيرا :
1 ـ هل أعددنا العُدّة للمستقر الأبدى القادم حتما والذى لا مهرب منه ؟ إذا كنت مسافرا الى مكان فأنت تقوم بإعداد كل شىء وتتزود لرحتلك بما تحتاجه تحمله فى حقائب سفرك . فهل تزودت للمستقر القادم وأنت فى رحلة اليه فى هذه الحياة ؟
2 ــ كل منا يركب قطار الحياة فى محطة الولادة ، ثم يغادره فى محطة الموت . له مستقر مؤقت فى قطار الحياة هذا .
3 ــ ومطلوب منه فى رحلته هذه الى حيث الاستقرار النهائى والخالد أن يتزود لاستقراره النهائى . بعضنا يتزود بالعصيان وسيلقاه نارا فى جهنم خالدا مستقرا فيها . والمفلح من يتزود بالتقوى والعمل الصالح ليكون بعمله الصالح صالحا للنعيم فى مستقر الجنة .
3 ــ إن خير الزاد التقوى ، يقول جل وعلا : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) الحج )
ودائما : صدق الله العظيم