دين إلاهى واحد وإختلافات جزئية فى الشرائع
أولا :دين الاهى واحد وإختلاف فى بعض التشريعات
1 ـ الدين الالهى واحد ، هو الاسلام ، بمعنى الانقياد والطاعة لرب العزة بالايمان به وحده الاها وعبادته وحده وتقديسه وحده ، وبالسلام مع الناس . ونزلت بهذا الدين الالهى كل الرسالات السماوية (النساء: 163)، كل منها بلسان الرسول وقومه (ابراهيم : 4 )، ثم كانت الرسالة الخاتمة باللسان العربى ( القرآن ) رحمة للعالمين وإنذارا للعالمين ( الأنبياء 107 ) ( الفرقان 1 ) .
2 ـ الدين هو الأصل ، وتأتى منه الشريعة فرعا . يقول جل وعلا : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )(13) الشورى )، أى تتفق كل الشرائع فى إقامة ( الدين ) و (عدم التفرق فيه ). إقامة الدين هى نفسها عدم التفرق فيه . ونعطى مثالا : عقيدة الاسلام واحدة فى كل الرسالات السماوية وهى ( لا إله إلا الله ): (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)الأنبياء )، وكل نبى تم تحذيره من الوقوع فى الشرك ، ولو وقع فى الشرك لأحبط الله جل وعلا عمله الصالح وأصبح من الخاسرين فى الآخرة : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (66) الزمر ). إقامة ( لا إله إلا الله ) تعنى إخلاص العبادة للخالق جل وعلا . لو حدث تقديس للنبى فإن هذا سيفتح الباب لاضافة آخرين ، فيحدث التفرق فى الدين الذى يضيف تشريعات مخالفة فى تقديس الرسول وغيره . والمثال الواضح هو ما حدث من ( المسلمين ) الذين تحولوا الى ( محمديين ) وإنقسموا الى شيعة وسنة وصوفية ، مع إنقسامات فرعية داخلية فى كل منهم .
3 ـ الدين هو الأصل ، وتتفرع منه الشرائع . ومن طبيعة الشرائع الاتفاق فى الأصل ، فى المقاصد العليا والقيم العليا ، والوصايا الأساس ، ثم تكون هناك بعض إختلافات جزئية ظرفية . يقول جل وعلا : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ )(67) الحج )، المنسك يعنى ملامح الشريعة فى التعبد وفى طاعة أوامر الحلال والحرام . تختلف المناسك مع وجود أساسات الدين فى كل الرسالات السماوية . ومبعث هذا الاختلاف هو التنافس فى الخيرات ، وما أروع قول رب العزة جل وعلا : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة ). التنافس فى الخير بين ( اهل الكتاب ) و ( أهل القرآن ) يجعل العالم أفضل واجمل . وعكسه التعصب من هذا وذاك . هذا التعصب يحيل الدنيا الى ما يشبه الجحيم . ولا ننسى أن رب العزة جل وعلا يقول يؤكد على نفس المعنى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) المائدة ).
ثانيا : ونعطى أمثلة لأساسات الدين :
1 ـ التقوى بالاخلاص فى الدين عقيدة وشريعة وفى حُسن التعامل مع الناس . وجاء الأمر بالتقوى فى كل الرسالات السماوية . ويوم القيامة لن يدخل الجنة إلا المتقون . وأولئك المتقون هم الأنبياء ومن اتبعهم وصدّق بما أنزل الله جل وعلا اليهم ، يقول جل وعلا : (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) الزمر )
2 ـ كل الرسالات السماوية نزلت ليقوم الناس بالقسط ، فتحقيق القسط مقصد وهدف لكل الرسالات السماوية ، يقول جل وعلا :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ). القسط فى التعامل مع الخالق جل وعلا بعدم تقديس مخلوق معه ، لأن تقديس مخلوق معه يكون ظلما له جل وعلا ، ولهذا فإن الشرك ظلم عظيم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان) والأظلم بين البشر هم أئمة الأديان الأرضية الذين يفترون على الكذب ويكذبون بآيات الله جل وعلا ورسالاته (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) الزمر).
ثالثا : ما سبق ينطبق على ملة ابراهيم فى الأساسات :
1 ـ بعد الآية 25 من سورة الحديد والمُشار اليها آنفا ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)). تتابعت النبوة والكتب السماوية فى ذرية نوح ، وهم كل البشر من بعده : ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) الصافات )، كما تتابعت مؤخرا فى ذرية إبنه ابراهيم عليهما السلام ، يقول جل وعلا عن ابراهيم : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ )(27) العنكبوت ). وتوارثت ذرية ابراهيم ( ملة ابراهيم ) وقد تعلموا مناسك العبادة من هذه الملة الابراهيمية ، حين كان ابراهيم وابنه اسماعيل يرفعان قواعد البيت الحرام : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) البقرة ). أراهما الله جل وعلا المناسك ، ومنها الحج للبيت الحرام ، احد مناسك ملة ابراهيم ، والتى يجب أن تكون حنيفية خالصة مخلصة لرب العزة جل وعلا : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) الحج ).
2 ـ وتتابعت الرسل فى ذرية ابراهيم فى الفرع الاسحاقى اليعقوبى الاسرائيلى ، ثم كانت الرسالة الخاتمة فى الفرع الاسماعيلى إستجابة لدعوة ابراهيم واسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) البقرة ) . واخبر رب العزة جل وعلا فى الاية التالية أن من يرغب عن ملة ابراهيم يكون سفيها : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ )(130) البقرة )
3 ـ وأوصى ابراهيم بنيه وكذلك أوصى يعقوب بنيه بالتمسك بالدين الاسلامى حتى الموت : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) البقرة )، وكذلك أوصى اسماعيل بن ابراهيم أهله ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً (55) مريم ).
ومع ذلك وقعت الذرية فى الشقاق بتقديس البشر وقيام أديان أرضية وطوائف تحمل إسم اليهود والنصارى وتترك إسم الاسلام والمسلمين وتتجاهل ملة ابراهيم : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الحج )، وكانوا يحسبون الهداية فى الدعوة الى هذا أو ذاك ، ونزل القرآن الكريم يدعوهم الى الرجوع الى الابراهيمية الحنيفية ، يقول جل وعلا : (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135) البقرة ) ويأمرهم بالايمان بكل الكتب وكل الرسل بلا تفرقة بين الرسل وبلا تمييز رسول على الآخر ، وأمرهم أن يعلنوا إسلامهم وإنقيادهم لرب العزة جل وعلا وحده ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة ) إن فعلوا ذلك فقد إهتدوا ، وإن رفضوا فهم فى شقاق ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة ) ،ونفس الدعوة وجهها رب العزة لأهل القرآن فقال : (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ (85) آل عمران ) (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ). ومع هذا فقد وقع المسلمون فيما وقع فيه المسيحيون فصار المسلمون ( محمديين )، واصبحوا يسمون أنفسهم ( أمة محمد ) فى مقابل ( أمة المسيح ).!
4 ــ الدعوة الى ملة ابراهيم نزلت فى القرآن الكريم موجهة لبنى إسرائيل :( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (95) آل عمران )، وموجهة الى خاتم النبيين عليهم جميعا السلام : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) (164) الانعام )، ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (123) النحل ). ولكل من يبحث عن الهداية ، يقول جل وعلا : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) النساء ).
المستفاد مما سبق أن ملة ابراهيم هى أساس الرسالات السماوية التى نزلت فى ذرية ابراهيم ، من اسماعيل ( وذريته العرب المستعربة ) ومن ذرية اسحاق ثم يعقوب الى المسيح عليهم السلام آخر رسول من بنى إسرائيل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ ) (27) الحديد )
5 ـ ومن الرسالات السماوية فى ذرية ابراهيم كانت الوصايا العشر ، وقد تعرضت للتحريف وجاءت محفوظة فى القرآن الكريم فى قوله جل وعلا : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الانعام ). وبعدها يذكّر رب العزة بالكتاب الذى نزل على موسى عليه السلام : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) ثم بالقرآن الكريم ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) الانعام ).
رابعا : ما سبق ينطبق على ملة ابراهيم فى الإختلافات الجزئية :
1 ـ قام بنو إسرائيل بتحريم بعض أنواع من الطعام فعوقبوا بأن صارت فعلا محرمة عليهم هم ، جاء هذا فى معرض التأكيد الالهى على المحرم فى الطعام : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) الانعام ) بعدها قال جل وعلا عن المحرمات الاضافية التى عوقب بها بنو إسرائيل لأنهم إعتدوا على حق الله جل وعلا فى التشريع :( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) الانعام ). هذا التحريم لبعض الأطعمة خاص ببنى إسرائيل . وبسبب أنواع النعم التى أنعم الله جل وعلا بها على بنى إسرائيل ( إنقاذهم من فرعون ، وإنزال المنّ والسلوى ) فرض الله جل وعلا عليهم تحريم يوم السبت ، واخذ عليهم العهد والميثاق بهذا : (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) النساء ). وإختلفوا فيه : (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) النحل ) وهناك قرية ساحلية إحتالت على تحريم السبت فعوقبوا ، يقول جل وعلا : (وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) الاعراف ) . تحريم يوم السبت خاص ببنى اسرائيل .
والله جل وعلا أمر بنى إسرائيل بالحكم بما أنزله فى التوراة : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44) المائدة ).
2 ــ وجاء عيسى عليه السلام بالأساس وهو ( لا إله إلا الله ) : (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) آل عمران )، ومع أنه كان مُصدقا لما سبقه من التوراة إلا أنه جاء بجزئية جديدة فى تحليل بعض الذى سبق تحريمه على بنى إسرائيل : ( وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) آل عمران ).
وابتدع أتباع المسيح الرهبانية فألزمهم بها رب العزة ، يقول جل وعلا :( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) الحديد ).
وامر الله جل وعلا أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزله جل وعلا فى الانجيل : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (47) المائدة ). من روعة إختيار اللفظ هنا أن الله جل وعلا لم يقل ( وليحكم أهل الانجيل بالانجيل ) ولكن قال : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ) لأن الانجيل الحقيقى قد إستبعده المسيحيون ووضعوا مكانه بعض ( السير النبوية المسيحية ) التى تحكى تاريخ المسيح بعد موت المسيح ، تماما مثلما فعل المحمديون فى ( السيرة النبوية المحمدية ).
3 ـ نزل القرآن الكريم فى إصلاح ملة ابراهيم التى أفسدها العرب واهل الكتاب ، وجعله رب العزة مرجعا فى تصحيح ما سبقه من رسالات سماوية لأهل الكتاب : (إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) النمل )، وطولب أهل الكتاب بالايمان به ، فقد نزل مصدقا لما معهم ودعوة إصلاح لهم ، يقول جل وعلا فى خطاب مباشر لهم : (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة ).
4 ـ ونزل القرآن الكريم بتخفيف فى بعض التشريعات ، فالصوم كان متوارثا من ملة ابراهيم ، وكان بلا أعذار ، ويستمر الصوم من بعد العشاء الى غروب الشمس فى اليوم التالى ، فنزل تخفيف وتيسير جاء تفصيله فى سورة البقرة ( 183 : 187 ) .
ونزل تشريع القصاص كاملا فى التوارة : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (45) المائدة ) ، ونزل فى القرآن تخفيف بالنسبة للقصاص فى القتلى فقط ، فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) البقرة ).