مقدمة :
نشرنا هنا مقالا بعنوان ( وضاع شادى ) بتاريخ الإثنين 13 ديسمبر 2010 . نعيد نشره ، ونعلق عليه ونحن نعيش مع العالم ( عصر داعش ) . قلت فى المقال :
( اولا
1 ـ منذ الفتنة الكبرى وقتل عثمان وقد عرف المسلمون الحروب الأهلية والاقتتال تحت دعاوى مختلفة، وكان أخرها ما حدث في لبنان وعبرت عنه أغنية "شــادي" التي شدت بها فيروز والتي تصور أثر الحروب الأهلية في قتل البراءة واغتيال الطفولة والمعاني الجميلة ، ثم تبعها حروب العراق التى تكرر ما حدث فى خلافة على بن أبى طالب والأمويين.
2 ـ والحقيقة أن أفظع ضحايا الحروب الأهلية هم أولئك الشباب الذين تخدعهم الشعارات فيتحولون من أمل للمستقبل إلى قنابل تنفجر في وجه الحاضر والمستقبل معا .
3 ـ ولعلنا نشهد بعض نماذج لهذا الشباب ، ونحاول بالهدى القرآنى أن تنجلى هذه المحنة ، وأن يعود الشباب المخدوع إلى صوابه ، ويعلم أن الإسلام دين السلام وأن الإيمان قرين الأمن ، وأن أفظع الجرائم بعد الكفر هو استحلال دم الأبرياء إفتراء على الله جل وعلا ورسوله الكريم.
4 ـ والعادة أن المؤرخين لا يهتمون إلا بتسجيل تاريخ الأبطال والقادة في السلم والحرب، وقلما يهتم مؤرخ بحكاية شاب أو امرأة من غمار الناس خصوصا في أوقات المحن والحروب الأهلية..
5 ـ والطبري هو أكثر المؤرخين اهتماما بالأحداث العامة ، ولذلك يندر أن نجد فيه ذكراً للأشخاص العاديين ، ولذلك فإن من الأهمية أن نتوقف مع ما ذكرة الطبري عن قصة تلك المرأة أثناء روايته لمأساة حرب القرامطة..
6 ـ وقد بدأت حرب القرامطة سنة 286هـ وقت أن كان الطبري حياً يسجل أحداثها من واقع المشاهدة والمعاصرة، وظل الطبري يتابعها بالتسجيل والتأريخ إلى أن سجل مقتل قائدها أبي سعيد الجنابي في البحرين سنة 301هـ وأنهى الطبري تاريخه سنة 302هـ ثم توفى الطبري سنة 310هـ ثم بينما استمرت الحرب الأهلية التي أشعلها القرامطة في الجزيرة العربية والشام والعراق حتى سنة 378هـ وبعدها تحول القرامطة إلى مجرد سطور دامية في تاريخنا تدعون لأن نعتبر.. إذا كان هناك من يعتبر..
7 ـ ويذكر الطبري في أحداث سنة 290هـ أن قائد القرامطة الحسين بن زكرويه أباد سكان مدن بأكملها في الشام مثل معرة النعمان وبعلبك وسلمية ، وكان يقتل عامة اهلها حتى من الأطفال والنساء والشيوخ و ( صبيان الكتاتيب ) بل و الكلاب والحيوانات . إلا أن ضحاياه لم يكونوا فقط من أبناء تلك المدن ، وإنما كانوا أيضا من الشباب الذين انخدعوا به وبدعوته فاعتقدوا أنها الاسلام فتحولوا على يديه إلى قتله وسفاكي دماء يقتلون أهلهم بزعم أنهم كفار خارجون عن الملة.!!
8 ـ وقد ذكر النويري في كتابه "نهاية الأرب"أن زعيم القرامطة أبا سعيد الجنابي كان يجمع الصبيان في معاهد يقيمون فيها ويحفر على وجوههم وشماً ويعلمهم الأساتذة فيها فنون القتال والطاعة المطلقة للدعوة القرمطية، ويتخرج الصبيان في تلك المعاهد وقد تحولوا إلى قتله وسفاكين لا يعرفون الرحمة..
9 ـ والطبري روى تلك القصة الواقعية من خلال معايشته للقرامطة عن امرأة دخلت معسكرهم تبحث عن ابنها الذي أغوته الدعاية القرمطية فانضم إليها وترك أمه وأخوته البنات..
10 ـ ولعلها القصة الواقعية الوحيدة التي ذكرها الطبري نقلا عن الشارع ،وكانت البطولة فيها لإحدى النسوة من عوام الناس ، ولذلك فإن تلك القصة التاريخية بكل ما فيها من نبض الواقع تجعل القارئ يحس انها تحدث الآن..
ثانيا:
يحكي الطبري أن امرأة جاءت إلى طبيب تعالج جرحا في كتفها ورآها الطبيب باكية مكروبة فسألها عن حالها ، فحكت له عن حكايتها ، قالت:
كان لي ابن غاب عني وطالت غيبته وتركني مع أخوات له دون رعاية، فضاق بي الحال واحتجت إلى التسول من الناس واشتقت لرؤياه فخرجت إلى الموصل والرقة أبحث عنه ، فرأيت عسكر القرامطة فأخذت أطوف به، فينما أنا أسير إذ رأيت ابني فتعلقت به ، وعرفني وسألني عن أخوته ، فشكوت له ما نالنا بعده من الفقر ، فأخذني إلى منزله وأخذ يستخبرني عن أحوالنا ، ثم قال لي : دعيني من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت : ولماذا تسألني عن ديني وأنت تعرفني وتعرف ديني؟ فقال : كل ما كنا فيه باطل والدين هو ما نحن فيه الآن . ففزعت من قوله ، فلما رآني كذلك خرج وتركني ، ثم أرسل لي بخبز ولحم وقال اطبخيه ، فتركته ولم ألمسه ، ثم عاد فطبخه ، وإذا بطارق يدق الباب فخرج إليه ودخل رجل من القرامطة يسأل ابني إذا كنت استطيع مساعدة امرأة في الولادة ، فأخذني الرجل معه إلى دار فرأيت امرأة تعاني طلق الولادة ، فقعدت بين يديها وأخذت أكلمها وأواسيها فلا تكلمني على ما فيها من شدة الألم والتعب ، فقال لي الرجل: ما عليك من كلامها ، أصلحي أمرها ولا تكلميها.
فأقمت معها حتى ولدت غلاماً ، وأخذت أتلطف بها ، وقلت لها : يا هذه لا تحتشمي مني فقد وجب حقك علىّ ، اخبريني بقصتك ومن والد هذا الغلام.فقالت : أتريدين معرفة أبيه حتى يعطيك هدية ؟ قلت: كلا ، ولكن أحب أن اعلم خبرك ، فقالت: " إني امرأة هاشمية " . ورفعت رأسها فرأيت أحسن الناس وجهاً ، وقالت : إن هؤلاء القوم أتونا فذبحوا أبي وأمي وأخوتي وأهلي جميعاً ، ثم أخذني رئيسهم فأقمت عنده خمسة أيام ، ثم أخرجني فدفعني إلى أصحابه فقال : طهروها ، فأرادوا قتلي فبكيت ، وكان بين يديه رجل من قواده فقال : هبها لي ، فقال : خذها ، فأخذني ، وكان بحضرته ثلاثة أنفس من أصحابه فقاموا وسلّوا سيوفهم وقالوا : لا نسلمها إليك ، إما أن تدفعها إلينا وإلا قتلناها ، وأرادوا قتلي وتشاجروا ، فدعاهم رئيسهم القرمطي فقال: تكون لكم أربعتكم ، فأخذوني فأقمت معهم أربعتهم ، والله ما أدري ممن هو هذا الولد منهم..!!
وتستمر المرأة في قصتها للطبيب ، فتحكي أنها هنأت كل رجل من الأربعة جاء يسأل عن المولود على أنه هو والد الطفل المولود، وأعطاها كل رجل سبيكة فضة هدية ، ثم اشتكت المرأة إلى تلك المرأة النفساء لتبحث لها عن طريقة تخرج بها من المعسكر وتعود إلى قريتها وبناتها ، فنصحتها أن تطلب معونة القائد فذهبت إليه وقبلت يده ورجله واستسمحته في أن يأذن لها بالعودة من حيث أتت لتحضر بناتها . وحيث كانوا يريدون المزيد من النساء لاشباع شهواتهم فقد أذن لها القائد بالعودة ، وأرسل معها جماعة من جنوده ليمضوا بها إلى موضع محدد ، فساروا بها . وبينما هم يسيرون إذ أدركهم ابن المرأة وقد رفع سيفه وقال لأمه : يا فاعلة زعمت أنك تذهبين وتأتين ببناتك ؟! وحاول أن يضرب أمه بالسيف، فدفعه الجند عنها ، ولكن لحق طرف السيف كتف أمه فجرحها ،وعاد الجنود بابن الأم وتركوها.وتحاملت الأم على نفسها إلى أن وصلت المدينة وجاءت لذلك الطبيب وحكت له قصتها..وذلك الطبيب بعد أن روى قصتها قال للطبري : وما أراها تبرأ من الجرح وقد ذهبت ولم تعد .. أي أنها ماتت من أثر الجرح.. ولكن ظلت تعيش بمأساتها داخل سطور تاريخ الطبري..
وكم من ملايين الأبرياء تسيل دماؤهم ظلما وعدونا تطبيقا لتشريعات الديانات الأرضية للمسلمين و المسيحيين واليهود..) إنتهى المقال .
أخيرا :
1 ـ ملامح التشابه بين هؤلاء القرامطة فى العصر العباسى ودواعش عصرنا تكاد تبلغ التطابق . الدواعش الأن يتركزون فى الرقة والموصل ، وهو نفس المكان للقرامطة . كلاهما يذبح الأبرياء ويغتصب ويسترق النساء ، كلاهما يجيد فنّ الدعاية وتجنيد الشباب ، كلاهما يعتقد أن الجرائم التى يرتكبها هو الدين الحق ، وما عداه فهو باطل ، كلاهما يجعل الشاب يستبيح دم أهله لأنهم عندهم كفرة مستحقون للقتل ، العجيب أنهما ( القرامطة وداعش ) ظهرا فى عصر سادت فيه الحنبلية المتشددة وسيطرتها على الشارع . الحنابلة السنيون المتشددون فى سيطرتهم على الشارع حاصروا الطبرى أكبر فقيه سُنّى فى بيته حتى مات وكان فى شيخوخته ، وهدموا بيته عليه ومنعوا دفنه ، هذا لأنه خالفهم فى مسألة الاستواء على العرش ، ومن خوف الطبرى منهم ومن القرامطة أخذ يختصر فى تاريخه الى أن مات تحت أنقاض بيته ، وآخر ما كان يفعله ــ وهو مُخاصر فى بيته ـ أنه يكتب اليهم يستجدى عفوهم . داعش وهابية ، والوهابية مُنتج حنبلى . كلاهما ( القرامطة وداعش ) أصلهما من شمال الجزيرة العربية ( منطقة نجد وما حولها ) ، وكلاهما ظهر وسط محيط من الاستبداد والفساد فى منطقة الشرق الأوسط . لا يهم إن كانت داعش سنية والقرامطة شيعة ، لأنهما معا يقتلون الجميع ، القرامطة الشيعة كانوا يبدأون بقتل من ينتسب لآل البيت ، والدواعش السنة لا ينجو السنيون الوهابيون من وحشيتهم . الفارق بينهما هو فى السلاح المستعمل ، والأسماء وبعض القوى الاقليمية والدولية .
2 ـ مع هذا التشابه الذى يبلغ التطابق بين داعش اليوم وقرامطة الأمس تتأكد الفاجعة .
ما الذى جعل ( مسلمى اليوم ) يجترُّون الماضى ويجسدونه واقعا حيا يقتتلون به ويصبحون به الجانى والضحية ؟ بدلا من أن يتطور ( المسلمون ) ليلحقوا بركب الحضارة الانسانية ، ما هو السبب الذى جعلهم يستخدمون أدوات الحضارة فى التدمير والقتل ؟ ما الذى جعلهم يستعيدون العصر العباسى الثانى بتخلفه وانقساماته وصراعاته المذهبية وتخاذله مع الغزو الخارجى ؟
الاجابة هى : الوهابية السعودية ( محور الشّر ) التى حالت بين ( المسلمين ) والتحول الديمقراطى وإعتناق القيم الاسلامية الحقيقية فى الحرية السياسية والحرية المطلقة فى الدين والعدل والتسامح واحترام الانسان .
3 ـ إنتهى العصر العباسى الثانى بغزو خارجى مغولى حطّم الدولة العباسية . فهل ستنتهى داعش وقد تحطمت المنطقة بتدخل خارجى روسى / أمريكى ؟
4 ـ هذا ما نخشاه ، وهذا ما نحذر منه ..
ومن أسف أنه كم حذرنا ، وكم وقع ما نخشاه ، تكرر هذا خلال ثلاثين عاما ، نصرخ ولا مُجيب . ومع هذا لا نيأس .. وسنظل نصرخ نطلب الاصلاح الى آخر نفس ـ بفتح الفاء . حتى نقدم عذرنا للأجيال القادمة.