الباب الثانى الفصل 12
ßÊÇÈ الصيام ورمضان : دراسة اصولية تاريخية
الغلاء في أسعـــار رمضان !!

في الخميس ١٩ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
* في رمضان سنة 755هـ كان الرخاء كثيراً بمكة المكرمة، فثمن غرارة القمح 80درهماً، والغرارة سبع ويبات مصرية، وهىّ قريبة من (الشوال) أو الكيس المستعمل في الريف المصري الآن، وكان ثمن غرارة الشعير 50 درهماً ، إلا أن الماء كان قليلاً بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جدبان فأغاثهم الله تعالى بمطر عظيم .. هذا ما ينقله المقريزي عن أحوال مكة في رمضان سنة 755هـ ضمن أحداث أخرى منها رجوع إمام الزيدية اليمني عن مذهب الزيدية، وتفاصيل تلك الأخبار يوحي بأن المقريزي ينقل عن شاهد كان حاضراً في مكة في ذلك الوقت.
* والغلاء في مصر المملوكية كان مرتبطاً بفيضان النيل كما كان مرتبطاً بالسياسة الاقتصادية المملوكية، وحين يتناقص الفيضان يرتفع ترمومتر الأسعار ويبدأ التخزين في الحبوب تحسباً لمجاعة قادمة محتملة، وينقطع ورود الغلال من الصعيد،ويقوم تجار الغلال في ساحل بولاق بإخفاء ما لديهم، وتثور الإشاعات وتبلغ القلوب الحناجر، كان ذلك يحدث في رمضان وفي غير رمضان، وفي رمضان سنة 827هـ في سلطنة الأشرف برسباي حدث أن زاد النيل إصبعين، وكان قياس النيل يتم يومياً في ذلك الوقت من السنة القبطيةـ ثم قاسوه في اليوم التالي فوجدوه قد نقص، يقول المقريزي وكان يعيش ذلك الوقت " زاد النيل إصبعين ثم نقص، فأصبح الناس في قلق وطلبوا القمح ليشتروه وبدأ بعضهم في تخزينه خوف الغلاء إلا أن النيل زاد الأحد 18رمضان في الليل ونودي يوم الاثنين 19رمضان بتلك الزيادة فسُرِّ الناس.." .
وقد يأتي الفيضان بالمطلوب ولكن تأتي المشكلة من تقصير الدولة المملوكية في إصلاحات الجسور والكباري، والمماليك البرجية انهمكوا في امتصاص دم الشعب دون رعاية للمرافق النيلية، ولهذا كان يحدث الغلاء أحيانا مع وفرة المياه في الفضيان، وكان يحدث ذلك في رمضان،يقول المقريزي في حوادث يوم11 رمضان سنة 825هـ أن النيل بلغ 19 ذراعاً و6 أصابع وأن النفع عم بهذه الزيادة في الفيضان وكان منتظراً أن يعم الرخاء إلا أن الذي كان يتولى صيانة الجسور لم يعتن بها مما أدى لأن غمر ماء النيل الزراعات الصيفية وأفسدها، وضاع محصول السمسم ومحصول البطيخ، وكان زيت السيرج يستخرج من السمسم لذا ارتفعت أسعار السيرج في أسواق القاهرة يوم 28 رمضان من ذلك العام حتى وصل الرطل منه إلى 18درهماً من الفلوس لأن محصول السمسم غرق فقلَّ المحصول، يقول المقريزي "ولم يعهد مثل هذا... !!
* وعموماً كان الغلاء أرحم في دولة المماليك البحرية منه في دولة المماليك البرجية، و المقريزي سجل أحوال مصر في الدولة المملوكية البحرية نقلاً عما سبقه المؤرخون السابقون الذين عاشوا وقت هذه الدولة أمثال النويري وابن الفرات وبيبرس الداودار، ثم سجل أحوال الدولة المملوكية البرجية التي عاشها من مواقع المشاهدة والمعاصرة، وكان أحيانا ينقل أحوال الناس في الدولة البحرية ثم يعلق عليها بالحسرة من أحوال الناس في عصره.
وكانت سنة 783هـ هي آخر سنة في الحكم الرسمي للدولة المملوكية البحرية إذ أسس السلطان برقوق الدولة المملوكية البرجية بدءاً من سنة 874هـ بعد سنوات من التحكم في ذرية بني قلاوون بوصفه الأمير الكبير.
والمقريزي ينقل أحوال الناس في رمضان 783هـ حين ارتفعت الأسعار ثم يقارن بين هذا الغلاء وسوء الأحوال في عصره بعد ذلك بثلاثين عاماً. يقول المقريزي عن رمضان 783هـ " وكانت الأسعار قد ارتفعت في شهر رمضان حتى بلغ الأردب القمح إلى أربعين درهماً وتزايد حتى بلغ في ذي القعدة ستين درهماً وعزَّ وجوده وارتفعت أسعار الحبوب كلها، وتعذر وجود الخبز بالأسواق، واختطفه الناس من الأفران !! ويقول المقريزي : ـ أن الناس في ذلك الوقت بدءوا في الشكوى من غلاء الأسعار، ولم يكن ذلك معروفاً من قبل، إذ كانت العادة أن يستنكف المستوردون من الشكوى من الغلاء، وإذا اضطر أحدهم للشكوى حسبوها عليه عيباً، يقول المقريزي عن أحوال الناس قبل شهور من قيام الدولة المملوكية البرجية "وكثرت الشكاية في الناس جميعهم، فكانت الشكاية مما تجدد ولم يكن يعرف بل أدركنا الناس إذا شكا أحد من الناس حاله عُدَّ عليه ذلك، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو، وتزايد أمرهم في ذلك حتى صار أمر الناس بمصر في أيام الناصر فرج (ابن برقوق) وما بعدها إلى فاقة وضعة " أي فقر ومذلة ...!!
* وفي عصر المقريزي كان الغلاء شيئاً عادياً، بل كانت المجاعات خبراً عادياً، يقول المقريزي في رمضان 818هـ " وفي هذه السنة حدث غلاء عظيم بديار مصر.." وفي رمضان 828هـ في سلطنة الأشرف برسباي يقول المقريزي "عَزَّ وجود اللحم بالأسواق.." وقد يحدث نوع من الفرج فيفرح به الناس وسط ذلك الضنك كما حدث في رمضان سنة 796هـ حين زاد محصول البطيخ العبدلاوي فرخص سعره حتى بيع المائة رطل منه بدرهم !!، وقد يحدث فرج أكبر فتهبط الأسعار في القمح والغلال، ففي سنة 828هـ التي أصبح العثور على اللحم فيها عسيراً هبطت أسعار الحبوب فيقول المقريزي عن رمضان 828هـ أن سعر الغلال انحل مع بداية رمضان وأنها كثرت في الشون وفي ساحل بولاق" من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولاً ثم في انحطاطها،إن الله على كل شيء قدير!! أي ارتفعت الأسعار ثم هبطت، وبدون سبب مفهوم، وقد عهدنا المقريزي خبيراً بالاقتصاد في تعليقاته، ولكنه يعجز عن حل هذه الفزورة، وربما كان هذا بداية فوازير رمضان ..
* وبسبب تدهور الأحوال في عصر المقريزي فإن الغلاء الذي كان يتضرر منه الناس قبل خمسين عاماً يكون رحمة ورفاهية بالنسبة للضنك الذي كان يعيشه أحفادهم في القرن التاسع.. ونتأمل ذلك الخبر، يقول المقريزي في أخبار يوم 11رمضان سنة 825هـ أن الأسعار للغلال نزلت فبلغ سعر أردب القمح 150درهماً، والشعير 85درهماً، والفول80درهماً.. كان ذلك يعد هبوطاً للأسعار، وإذا رجعنا إلى أسعار سنة 783هـ قبيل الدولة البرجية وجدنا الناس يتضررون من الغلاء لأن أردب القمح وصل أربعين درهماً ... وذلك يشبه عصرنا .. فقد كان أجدادنا في العشرينات يتضررون إذا وصل ثمن أردب القمح إلى جنيه واحد ، وإذا انخفض سعر الأردب في عصرنا إلى مائة جنية اعتبرنا ذلك رحمة ورفاهية ..
* ودخلت الأسعار في دوامة الغلاء والتضخم مع تردي الأحوال في الدولة الملوكية البرجية، ونلقي عليها نظرة سريعة فيما يخص شهر رمضان بالذات :
في رمضان سنة 825هـ كانت الأسعار كالآتي : أردب القمح 150 درهماً ، الشعير85درهماً.. وفي رمضان في سنة 831هـ، كان القمح 260درهماً، الشعير فوق200درهماً، والبطة من الدقيق 80درهماً (والبطة من الدقيق تساوي50رطلاً ) وفي رمضان 843هـ وصل القمح إلى 330 درهماً، والبطة من الدقيق إلى110درهماً . وأورد المقريزي تفصيلات أخرى عن أسعار هذا الشهر(رمضان843): فدان البرسيم أكثر من ألفي درهم، وتناقص لحم الضأن بالأسواق عدة أيام، ولم يكد يوجد السمن وعسل النحل هذا مع علو النيل، وطول مكثه، وحدث نقص في عدة زروع مثل اللفت والفجل والكزبرة. والسبب هو السياسة المملوكية وظلمها وعسفها وسوء تدبيرها .
ثم إذا تركنا عصر المقريزي وجئنا إلى عصر قايتباي وجدنا غلاءاً باهظاً في أول رمضان 873هـ (الموافق 15مارس 1468م). ثم جاء غلاء آخر في رمضان التالي 874هـ حيث وصل ثمن أردب القمح إلى 1300درهماً، أي ارتفع ثمن أردب القمح في نصف قرن من 150 درهماً إلى 1300درهماً، وذلك من سنة 783هـ إلى سنة 874هـ، ولم يكن في طاقة الناس تحمل ذلك الغلاء في عصر قايتباي لذلك اشتكوا إلى المحتسب وهو الذي يراقب الأسواق والأوزان والتسعيرة، واشتكى المحتسب إلى السلطان فأمر قايتباي بأن ينخفض السعر إلى ألف درهم وأمر بفتح المخازن السلطانية وبيع ما فيها بسعر ألف درهم للأردب، فهرع الناس إلى مخازن السلطان واشتروا منها بهذا السعر وهم يدعون للسلطان، وترتب على ذلك انخفاض ثمن الخبز، وكان الخبز يباع وقتها بالرطل، وقد وصل ثمن الرطل إلى تسعة دراهم، وبعد انخفاض سعر القمح نزل سعره إلى ستة دراهم للرطل، وكان أردب الشعير قد بلغ 900 درهم للأردب فنزل سعره إلى أقل من 600 درهم .
وأخيرا :
من قال إن الدولة المملوكية قد انتهت ؟
انتهى اسمها ولكن بقيت فلسفة الحكم العسكرى الاستبدادى قائمة .. الحكم العسكرى الذى يجثم على قلب مصر من عام 1952 وحتى الان يكرر كل فظائع المماليك من استبداد وفساد وتعذيب وقهر للشعب ، واستخدام القوة المفرطة ضد الشعب الأعزل .
الفارق أن العسكر المماليك كانوا أجانب جىء بهم بالشراء ليكونوا جنودا ليدافعوا عن مصر الوطن والانسان فوجهوا سلاحهم ضد مصر الوطن والانسان مستبدين بالحكم ومستاثرين بالثروة ، ولكن العسكر المصرى (مصرى) ولكن بدلا من أن يترفق بأهله سامهم خسفا و ذلا وقهرا ..فاق ظلم المماليك .
والفارق أن العسكر المملوكى كانت ثقافته متسقة مع العصور الوسطى ، فالاستبداد الدينى و العسكرى كان هو السائد ، ولم يعرف العصر الوسيط وقتها معنى الديمقراطية وحقوق الانسان .. ولكن العسكر ( المصرى ) هو الذى صادر الديمقراطية و الليبرالية التى سبقت بها مصر كل العرب و المسلمين منذ أن أنشأ الخديوى اسماعيل أول مجلس نيابى فى مصر فى العقد السابع من القرن 19 ..ثم سارت مصر فى تطور ليبرالى ديمقراطى أسفر عن دستور 1923 ..صادر العسكر المصريون كل هذا التطور .. ووصلول باهلهم المصريين الى أحط درجات القهر.اين مصر الان من ديمقراطيات أفريقية وآسيوية ؟
الفارق إن المماليك العسكر أحرزوا انتصارات يحق لهم الفخر بها ، المماليك هم الذين اوقفوا الزحف المغولى فى عين جالوت ، وهم الذين دمروا الامارات الصليبية وطردوا الصليبيين من آخر معقل لهم فى عكا.. وفى عصر المقريزى غزا السلطان برسباى جزيرة قبرص وفتحها ،ووصل نفوذ مصر المملوكية الى جزر أخرى فى البحر المتوسط ، ولا ننسى أن الدولة المملوكية هى التى جعلت القاهرة عاصمة الخلافة العباسية وأهم عاصمة للمسلمين وقتها، وهى التى سيطرت على الشام واجزاء من العراق وآسيا الصغرى ، مع الحجاز ..اين هذا من هزائم العسكر المصريين فى اعوام 1956 ، و1967 ، وفى الثغرة 1973 .. إذا كان من حق المماليك الفخر بأنهم وصلوا بحدود مصر الى جنوب تركيا وغرب العراق وشمال اليمن فان من حق العسكر المصريين أن يشعروا بالخزى و العار وهم الذين أضاعوا سيناء واستعادوها منقوصة السيادة بعد حرب لم تسمن ولم تغن من جوع ..بل جاء بعدها الجوع ..
وبمناسبة الجوع فقد كانت الأوبئة و المجاعات قدرا متكررا لا حيلة للمماليك فيه بسبب قلة أو زيادة فيضان النيل فى العصر المملوكى ، فما هو العذر الذى يتحجج به العسكر المصريون فى الجوع الذى يعانى منه المصريون الان ؟ .. انه ليس مجرد غلاء ..بل هو اقتتال على رغيف الخبز فى وطن أصبح النيل فيه خادما وديعا للزراعة ..
أن كل ما سبق نشره فى موقعنا ( أهل القرآن ) من هذه الحلقات عن رمضان بين سطور التاريخ أصبح مؤلما لى ـ ليس فى إعدادها من بين سطور التاريخ ، وهو عمل بحثى متعب ومرهق ـ ولكن الألم الحقيقى حين أضطر لعقد المقارنة بين مصر الآن ومصر المملوكية ..
ولكن هذه المقارنة ضرورية لنتعرف على الوهدة التى أوصلنا اليها العسكر( المصرى ) ..والتى تجعلنا نترحم على العسكر المملوكى الغريب الذى كان ارحم بالمصريين والذى رفع اسم مصر عاليا فى وقته..
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..جل وعلا..