رحلتي من الإخوان إلى العلمانية (5)

سامح عسكر في الأربعاء ١٦ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

في الأجزاء السابقة شرحنا الوضع داخل مجتمع الإخوان، وكيف أدى هذا الوضع للتمرد على فكرة الإسلام السياسي ولواحقها من الأيدلوجيا والخرافة، لكن لم نتطرق بعد لتصور الفكرة العلمانية بشكل مجرد، حيث أن الانتقال من حال إلى الضد يتطلب فهماً للسياق ولطبيعة المفاهيم..وإلا أصبحت رؤيتنا عاطفية ضعيفة تسقط مع أول اختبار..

مبدئياً أؤمن أن أكثر من يتكلم في العلمانية عند العرب يراها بشكل مستنسخ، أي غير مبدع ..يحرص صاحبه على عدم إضافة شئ عن الأصل الغربي للمفهوم، حيث أن مفهوم العلمانية غربي بامتياز، بدأت جذوره عند اليونان وأعيد إحياؤه في عصر التنوير..لكن هنا لن نتعامل مع المفهوم كلفظ، ولكن كمعني..لأن معالجته كلفظ سيفضي بنا إلى متاهة بين اللغات.

في سنواتي مع الإخوان كنا من أنصار فصل الدعوة عن السياسة، والأصل في هذا الادعاء حصر العمل الديني والدعوي والإرشادي للجماعة، لكن حين ممارسة السياسة لابد من وجه للجماعة سياسي يكون متبرئ تماماً ومنفصل عن التنظيم..هذا الوجه هو الحزب، وقد تم تشكيله بعد ذلك وسمي بحزب.." الحرية والعدالة".. امتناناً لفضل التجربة التركية على عقل الإخوان، حيث كشف إسم الحزب الإخواني تأثراً بحزب أردوجان.."العدالة والتنمية"..من حيث الإسمين والعطف، لكن إضافة إخوان مصر للحرية تعني تقربا منهم للتيار الليبرالي ورسالة لمؤيديهم في الخارج.

فكرة فصل الدعوة عن السياسة بالأصل هي فكرة علمانية تعني فصل العمل السياسي عن الدعوة، والدعوة هنا تعني الدين..وهي ترجمة حرفية لاعتقاد الإخوان بمعنى التعلمن وإيمانهم به ، لكن ولسمعة العلمانية السيئة في بلاد العرب كتموا المعنى الحقيقي..وشرعوا في التنظير لمعنى آخر مزيف ملئ بالتكلف والشَطَح.

هذا يعني أن العلمانية-كمعنى-لم تكن غريبة عني، بل اعتقدتها داخل الإخوان، لكن تجريد الفكرة من مصادرها دائماً يحتاج .."لمُخيّلة"..بلغة الأدباء، وتعني تصورها حادثا يقع، أو صورة مرئية، لأن حصر المفاهيم بالمعنى النظري يخلق من الإنسان كائن.."ثرثار"..و.."غير منتج"..وفي الأعم الأغلب يكون جبان، أما تصوير المفهوم –ولو بعمل درامي- يسرّع من الفهم، ويجعل من تطبيقه شئ سهل-نوعاً ما.

الأصل في العلمانية هي تحييد رجال الدين عن ممارسة أي نشاط سياسي يُقصد به الحكم أو إدارة الدولة، وهذا معنى متفق عليه بين كل من تبنى هذا المفهوم، أو دونه في دستوره واتفقت عليه الشعوب، لذلك فالنقاش في هذا المعنى غير وارد لأن المعنى نفسه بديهي، وعزز من بداهته أنه ارتبط بعصر كانت المواجهة قائمة فيه بين رجال الكنيسة/الدين وبين الثوار أو المفكرين ، وهذا يعني أن أي فصل بين الدين والسياسة هو علمانية، ولكن ما يختلط على البعض هو مسألة الدولة..خصوصاً مؤسساتها الدينية وجمعياتها الإنسانية، هل هذه المؤسسات تُدار بطريقة دينية؟..لو الإجابة (نعم) فما دور هذه المؤسسة أو الجمعية.

لو كان دور المؤسسة تكميلي لنُظُم الإدارة فهذا تدخل غير علماني، ولو كان دورها تنظيمي فهذا أيضاً تدخل غير علماني، لكن لو كان دورها إرشادي ضمن بنود دستورية توضح ذلك وتجعل جهة الفصل في الإرشاد لمؤسسة أو لجان أخرى..فهذه هي العلمانية..كذلك في التعليم لا يجوز لمؤسسة دينية رعاية النشء وتعليمهم تعليم ديني شامل يربط بين كل العلوم بصورة دينية واحدة..بالضبط كما يحدث في الأزهر، هذا يعني أن وجود الأزهر نفسه في بلد ما ..أو دار إفتاء هو ضد الفكرة العلمانية..كون الأزهر ودار الإفتاء مخوّل لهم الحديث باسم الدين، ولو لم يلتزم الأزهر بلوائح تجعل من دوره إرشادي غير ملزم..يعني أن الدولة أصبحت تدار برجال الدين..وهذا بالضبط ما يحدث في مصر.

شيخ الأزهر ودار الإفتاء المصرية يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوا من كل أمر-ولو كان تافهاً- له حكم في الدين، ناهيك عن الخرافات والأيدلوجيات التي ينشرها المشايخ وعلى المنابر والفضائيات..هنا تخطى رجل الدين حدوده في النظام العلماني من كونه رجل أخلاق وتهذيب صاحب دور إرشادي..إلى صاحب مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في النظام القائم، بينما تفسد الدول وتتخلف الشعوب بتحالف رجال الدين مع الساسة..

كذلك يتطلب تطبيق الفكرة العلمانية مجتمع يفهم معنى التعلمن وخطر رجال الدين على السياسة، وهذا يعني أن إيمان الشعب بدور الأزهر-مثلاً- في القيادة هو مضاد للعلمانية، غاية ما حدث أنه استبدل جماعة الإخوان بالأزهر، وفقهيا لجنة علماء الإخوان بمجمع البحوث..والمرشد العام ومفتي الجماعة بشيخ الأزهر ومفتي الديار..وبما أن الأزهر قائم ويدافع عن تراث مشترك بينه وبين جماعات الإسلام السياسي فيتطلب تحييده أولاً نقد هذا الموروث..من هنا يأتي محور آخر لفهم العلمانية وهو (نقد الموروث) ونشر طريقة التعامل مع التراث كحالة ثقافية تاريخية وليس كحالة دينية .

لذلك منذ اليوم الأول لتخيل العلمانية اعتقدت أن أولى مراحل تطبيقها نزع القداسة عن أفهام السابقين وحصرها في محلها الزمني والمكاني، أي لا يمكن لمن يقول بالخلافة أو بقتل المرتد أو بالرجم أن يكون علمانيا..كذلك كل من لديه موقفا دينيا من الآخر كالمسيحية والشيعة-مثلاً-هو ليس علماني، فقد جعل أفهام وظروف السابقين حكماً على حاضره، واستعاد الماضي بأجراره وأحزانه لتمثيل واقعاً لديه قد يكون غير موجود بالأساس.

العلمانية ليست فقط فصل الدين عن الدولة أو السياسة..هذا مجرد إجراء، بل هي ثقافة تحررية قائمة على فهم الإنسان لذاته..وكذلك فهمه للمجتمع وحركة التاريخ الذي يمكنه بعد ذلك لفهم دينه وتراثه وعدم خلطه بين تعاليم الرب وتعاليم البشر..بين القيم الروحية والأخلاقية وبين المصالح.

وإلى اللقاء في الجزء السادس من الرحلة

اجمالي القراءات 8798