بسم الله الرحمن الرحيم
*******
كذبتا الدهــر
كان يا ما كان، في زمان غير قديم، ولم يكن أبدا في سالف العصروالأوان، بل كان في عهد الخمسينيات، من القرن المنصرم، أن حدث ما يلي:
روى لنا، ذلك المعني، أنه كان يومئذ طالبا، وحاضرا في إحدى الحلقات التي كانت تفتخر بها جامعة أو جامع الزيتونة العريقة، مثل ما كان يفتخر به الأزهر الشريف، تلك الجامعة التونسية الزيتونية المزهوة بكونها تخرج سنويا تلك الجحافل من حاملي تلك الشهادات وما أدراك ما هي.
وكان – المعني- طالبنا هذا، مثل أقرانه من الطلاب، كان كله اهتماما، وكانوا جميعهم مهطعي الأعناق ومشدودين لما يعلمهم ذلك الأستاذ الجليل، الذي كان بدوره، كله حماسة في تبيـين مناقب الإمام البخاري وما تحتويه دفتا المجلد من أسراره، وكنوزه، ونفائسه، وكان الأستاذ البارع، الغواص في أحشاء المجلد، جادا – حسب الظاهر– وهو يهدي لطلاب حلقته ما جاء به، أو جاد به له بحر الإمام من لآلئ، حيث قال لهم :
- ويكفيأن نعرف، أن : من كرامات مجلد الإمام البخاري وما يحتويه، أن مجرد وضع الكتاب فوق بطن المرأة الحامل، يساهم وبسرعة في إبعاد آلام المخاض وفي تيسير الولادة.
وهنا، روى لنا طالبنا، مفاجأته لهول ما سمع ، قائلا لنا: إن منطقي، وعقلي، لم يستطيعا معي صبراً، وحاولتُ الصمود أمامهما لكن سرعان ما سقطتُ، ولم يكن مني إلا أن جمعتُ كل ما تبقى لي من شجاعة وقوة، وجرأة، وتحد، فرفعتُ يدي، فأذن لي الأستاذ وقلت :
يا حضرة الأستاذ، أيمكن أن يفعل مجلدُ صحيح البخاري كلّ هذا؟ ألِـثِـقـل وزنه ؟
وبعد تأوه، زاد الطالب قائلا لنا :
في الحقيقة، إني بسؤالي هذا، لم أكن أدري أني قد دُسْتُ مقدسات عديدة، لم أكن أدري أني تجاوزت بسؤالي حدوداً لم أكن أتصورها ولم أكن أتصور مداها، حيث ظهرت بوادر المفاجأة المريرة على وجه الأستاذ الزيتوني، وهو يقول :
ـ خسارة عليك يا هذا!خسارة أن يصدر منك مثل هذا السؤال، ومثل هذه الهفوة !أيمكن أن يكون لي طلبة مثلك ؟ !بل أيمكن أن تراود طلبة جامع الزيتونة مثل هذه الشكوك؟ !
هذه هي القصة التي عاشها هذا الطالب الزيتوني الراحل إلى رحمة الله.
وهنا تبادرت إلى ذهني تساؤلاتٌ، لا حصر لها، لأنها كانت متزاحمة، ومنها :
ـ يا ترى؟ كم هـي مثل هذه المفارقات، أو الحكايات، أو النوادر، التي تضحك الحزين؟ كم تكون حصلت لتلك الجحافل من الطلبة ؟ طلبة جامع الزيتونة، وطلبة الأزهر الشريف، ولمَ لا؟، لطلبة جامع القرويين العريق ؟
ـ أما عن التساؤل الذي أسمح لنفسي وصفه بأم الساؤلات فهو :
1) إن تقديس مرويات واردة ( بصحيح البخاري) وإخوانه، من الصحاح والمجلدات، إلى هذه الدرجة، بما فيها تلك التي تحدق تحديقا وقحا، وتتصدى بكل جرأة، لما هو وارد في أحسن الحديث المنزل من لدنه - سبحانه وتعالى- ألا يكون هذا ظلما سافرا مفضوحا؟ يدرس؟ ووقوعا ضحية لآخر كذبة ؟ ألا تكون بمثابة كذبة الدهر؟.
2) وإن تقديس ما ورد في دفتي المصحف الشريف المنزل من لدن الله العزيز الحكيم، المبشر للإنسانية جمعاء والمنذر لها، إن تقديسه إلى درجة أنه يفعل – هو أيضا- أفاعيل مجلد صحيح البخاري، ألا يكون هو الآخر ظلما سافرا مفضوحا يُدَرّس، ووقوعا ضحية لآخر كذبة، بل وأدهى كذبة؟ كذبة الدهر كله؟
*******