هذه الرسالة تؤكد أن الله جل وعلا يُمهل ولا يُهمل ، وأنه جل وعلا للظالمين بالمرصاد . أنقلها ، وأرد عليها فى هذا المقال :
( دكتور ... أنت زاوية حادة ، من يكرهك يكرهك بشدة ، ومن يحبك يحبك بشدة . تنطبق عليك المعادلة الصفرية التى تتردد فى كتاباتك ، إما أن يحبك من يعرفك وإما أن يكرهك ، ولا توسط . وأنا كنت من أكثر الكارهين لك . سمعتك لأول مرة ، فى تسجيل مباشر ، وأنت تتكلم فى مؤتمر أقامه نجاد البرعى وآخرون ، وكان فيه مجموعة من المحاميين والصحفيين والسياسيين ، وكان المؤتمر تحت سمعنا وبصرنا فى أمن الدولة . وسمعتك تقول إنك تؤمن بالاسلام دينا ودولة ، ولكن الاسلام ليس هو الذى نعرفه الآن ، وليست دولة الاسلام هى الدول الدينية القائمة الآن . واخذت فى الشرح .. وساعتها عرفت بخبرتى أنك أخطر الموجودين وأخطر المعارضين ، لأنك تعارض عن عقيدة دون طموح سياسى ، أى لا يمكن التفاوض معك ، ولأنك تقوم بتنوير الناس وتثويرهم على مهل ، ونحن مهمتنا تنويم الناس بالدين الذى حضرتك تنتقده وتقول انه ليس الاسلام . من يومها بدأ إهتمامى بك على المستوى الشخصى . قمت بالاطلاع على ملفاتك فى قسم النشاط الدينى ، واستغربت من تصميمك على رأيك وعدم المساومة فيه ، وبصراحة زادنى هذا عداءا لك . نسيت أن أقدم لك نفسى . كما يتضح مما سبق أنا كنت فى أمن الدولة . والدى ضغط علىّ لأدخل كلية الشرطة ، وكنت أتمنى أن اكون أديبا وكاتبا . وميولى الأدبية فرضت على بعد عملى فى الشرطة أن أكون صاحب شخصيتين ، فى الوظيفة ضابط شرطة لا تعرف الرحمة قلبه ، وفى الفراغ أقرأ وأتثقف ، وأحضر الندوات ، واتمتع بالبرامج الشعرية والأدبية . شخصيتى الأدبية المرهفة لا تؤثر على شخصيتى السادية فى عملى الأمنى . لم أكن فارسا فى غرفة النوم فأصبحت فارسا فى غرف التعذيب ، أنتقم من ضحاياى وأنفّس عن عجزى فيهم . بهذه الشخصية السادية تعرفت عليك . حضرت الرواق فى ابن خلدون خلسة ، وكنت أسمع لك ، وأتخيلك تحت يدى فى زنزانة معلق وأنهال عليك بالسياط بنفسى ووجهى مكشوف لك ليتم انتقامى منك . كانت العادة انى أحضر الندوات الأدبية بشخصيتى الأدبية الرقيقة ، ولكن فى حضورى ندواتك كانت شخصيتى الأمنية هى التى تسيطر علىّ لأنك وندواتك لم تكن فى ( الأدب ) بل هى عندى لا مؤاخذه فى (قلة الأدب ) بالمفهوم الأمنى ، فهى الخطر الأكبر على الدولة والنظام . أذكر مرة فى الرواق وقد إستضاف سعد الين ابراهيم وزير كويتى سابق للثقافة ، وأنت تكلمت عن القرآن وجريمة التغنى بالقرآن ، وأخذت تتلو من الذاكرة سورة ( طه ) ، وكانت تلاوتك تزلزلنى حتى تركت المكان وأنا أشد كراهية لك ورغبة فى الانتقام منك لو إستطعت . ثم حضرت لك بحكم شغلى بعض المؤتمرات العلنية لمشروع مركز ابن خلدون ( تعليم المصريين حقوقهم السياسية والانتخابية ) وكنت سعيدا أن هذا النشاط العلنى الذى يتجول بمؤتمراته فى القاهرة والأقاليم سيجعل مبارك يضيق صدره ويطيح فيكم . وهذا ما حدث . ولكن لم تتحقق أمنيتى فى القبض عليك . ثم سمعت بقرب صدور الأوامر بالقبض عليك ، ثم هربك فى آخر لحظة الى أمريكا . ثم خرجت على المعاش . خروجى على المعاش أفقدنى كل ما كنت أملك من هيبة وإحترام ، وقلت أعوض هذا بمنصب مدنى كنت أنتظره ولكن ظهرت مرة واحدة عداوات لى من زملاء ومرءوسين وتقارير وشكاوى كيدية من معتقلين جعلتنى قعيد البيت ، لا عمل ولا سُلطة ولا صديق ولا زوجة ولا أولاد ولا أقارب ولا معارف ولا تليفون يدق ولا زيارة ، الكل نفض ايده منى كما لو كنت فأر ميت ، قلت أقرأ فى الكتب وأستعيد هوايتى الأدبية ولكن فقدت كل رغبة فى القراءة ومشاهدة التليفزيون .. قلت اقعد على القهوة وأتمشى فى الشارع ولكن خفت أن يتعرف على أحد من ضحاياى . دخلت فى دوامة إكتئاب بعدها دخلت فى دوامة من الأمراض المزمنة المؤلمة التى جعلتنى أسير الكرسى المتحرك ، أدخل به الحمام وأعانى وأنا أنظّف نفسى ، تعودت على المسكنات والمهدئات والمنومات حتى أصبحت لها مدمنا ، ولم تعد تنفع معى . أنا على هذا الحال من أكثر من عشرة سنوات . أتمنى الموت ولا ياتينى . الكوابيس تلازمنى فى نومى ، وأشباح ضحاياى تطاردنى ، وذكريات جبروتى تؤرقنى ، وأصبحت ألعن والدى الذى دمّر حياتى وحرمنى من دخول كلية الآداب أو كلية الاعلام وأجبرنى على كلية الشرطة ، وخلق منى هذا الانسان السادى الذى يعذب النلس ، ثم يدفع الثمن فى أرذل العمر . أصبحت ألعن الشيوخ الذين تعلمنا منهم ان عملنا واجب دينى لأن الواجب طاعة أولى الأمر ، وان طاعة حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم .
صدقنى إذا قلت لك انى تُبت فعلا ، واننى أكره نفسى وتاريخى المظلم ، وأتمنى لو كنت أى شىء سوى هذا الضابط الظالم المتوحش عديم الضمير . أنا الان لدى عقارات وأرصدة . ولكن كلها لا تحمينى من أمراضى والقهر الذى اعيش فيه والعذاب الذى لا يفارقنى والأشباح التى تطاردنى . قلت أقرأ لك فى موقع أهل القرآن فى وضعى الجديد فازداد ألمى لأنك تتكلم فى يوتوبيا وردية وتخاطب الناس الذين أصبحوا أكثر سوءا فى الأخلاق . ولكنك تنتمى الى طائفة المظلومين .. يا بختك .. ولا يمكن ان تحس بمعاناة الظالم الذى يفقد شبابه وسطوته ويدفع الثمن فى شيخوخته وفى أرذل العمر .
دكتور أحمد .. هل يمكن أن أتوب ؟ وهل يمكن أن يتقبل الله توبتى وأنا فى أرذل العمر؟ أرجو أن تسامحنى ، وأن تجيب على سؤالى . )
وأقول :
1 ـ أنا أسامحك ، فلم يصبنى منك أذى . مشاعرك السابقة ضدى تبدلت ، وأتمنى لك المغفرة .
2 ــ بالنسبة للتوبة فى هذه الدنيا فهى من حيث التوقيت :
2/ 1 : توبة مبكرة صادقى يقبلها الله جل وعلا ، وتوبة عند الاحتضار غير مقبولة من الله جل وعلا القائل سبحانه وتعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18 ) النساء ).
2 / 2 : توبة صادقة فى منتصف العمر عند الأربعين وحولها (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) ) الاحقاف )، وهى تستلزم صدقة وتطهرا وتزكية للنفس ، يقول جل وعلا : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) ) التوبة ) .
2/ 3 : توبة فى أرذل العمر ، ومصير صاحبها بين يدى الرحمن إما أن يعذبه وإما أن يتوب عليه ، يقول جل وعلا (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) ( التوبة )
3 ـ التوبة من حيث الصدق تستلزم تصحيح الايمان ، وتكثير العمل الصالح ليغطى على الذنوب السابقة ، ورد المظالم وإرجاع الحقوق . يقول جل وعلا فى التوبة الصادقة : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82) طه ) . ويقول جل وعلا عن التوبة من كبائر الذنوب ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) ) الفرقان ) . بهذه التوبة الصادقة لا يصبح الزانى أو القاتل سابقا زانيا أو قاتلا بل تائبا حيث تم تبديل سيئاته حسنات ، وقامت الحسنات بتغطية أو ( التكفير ) عن السيئات ، والتكفير يعنى التغطية .
4 ـ من هنا ترتبط التوبة الصادقة بتوقيتها المبكر ، كى تتوفر للتائب فرصة كبيرة من الوقت يتفرّغ فيها للعمل الصالح ، وإرجاع الحقوق لأصحابها .
6 ـ وهنا تبدو مشكلتك الحقيقية ، وهى ذات وجهين فى منتهى السوء :
6 / 1 : أنه لا بد من أن يحل بك عقاب الاهى فى الدنيا ، من نفس نوعية الذنوب التى ارتكبتها ، وهى قاعدة عامة فى عذاب الدنيا للعُصاة الظالمين ، يقول جل وعلا : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123 ) النساء ) . وهذا العذاب الدنيوى هو فرصة للتذكر والتوبة ، يقول جل وعلا : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) ) السجدة ) .
6 / 2 : إن الوقت المتاح لك وانت فى أرذل العمر لا يكفى لمراضاة ضحاياك ، منهم من تعرف ومنهم من لا تعرف ، كما لا يسعفك ما تبقى من عمرك لكى تفعل ما يكفى من الأعمال الصالحة التى تجبر بها خطاياك . ولهذا فأمرك متعلق بقرار الاهى ، فالله جل وعلا هو الذى أحصى ذنوبك ، وهو الذى يعلم مدى الصدق فى توبتك ، ومدى إمكاناتك فى تفعيل توبتك سواء فى عمل الطاعات والعبادات أو فى إرجاع الحقوق لأصحابها.
7 ـ لذا أنصحك إذا كنت مخلصا فى توبتك لرب العزة جل وعلا :
7 / 1 : أن يكون قلبك خالصا من تقديس البشر والحجر ،وأن تعبد الله جل وعلا مخلصا له الدين ، وأن تتبرع لأى عمل خيرى، وأن تستعين بالصبر والصلاة عسى أن تنال مغفرة الرحمن الرحيم.هذا بالنسبة لعلاقتك برب العزة جل وعلا
7 / 2 : بالنسبة للناس : عليك أن تبادر فى نفس الوقت باعلان قصة حياتك داعيا للكفّ عن جريمة التعذيب ، وأن تعظ زملاء المهنة ممن لا يزالون يرتكبون هذه المهنة ، وأن تذكرهم بما تعانيه الآن ، وان مصيرهم الى فقدان السلطة ودفع ثمن جرائمهم ، وأن تطلب علنا الصفح من كل ضحاياك الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم .
بهذا ستفضح الجهاز الذى تنتمى اليه ، ولن يرحمك ضحاياك وزملاء المهنة ، وستواجه اللعنات والمؤامرات وتلفيق التهم ورفع القضايا ودخول السجن وربما تتعرض للتعذيب ، ولكن هذا هو التكفير عن ذنوبك ، وهذا هو الذى يجلب لك الشفاء من الاكتئاب وتعذيب الضمير ، ويكفى أنك ستكون أول محترف للتعذيب فى دول ( المحمديين ) يعلن توبته على الملآ ، يرجو راحة الضمير ويرجو رحمة رب العالمين .
أخيرا : يقول جل وعلا : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر )
ودائما صدق الله العظيم