ßÊÇÈ الصيام ورمضان : دراسة اصولية تاريخية
مجاعة فى مصر فى رمضان سنة 595هـ

في الخميس ١٩ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

مجاعة فى رمضان سنة 595هـ في مصر الأيوبية!!

هذه مقالة تبعث على التألم لأنها تصف تاريخاً وقع، ولكن في التألم عبرة وعظة . ولذا نكتب التاريخ .
في هذه السنة يئس الناس من زيادة النيل فارتفعت الأسعار وانتشر القحط فهرب الفلاحون للمدن ، وهرب كثيرون إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن وتفرقوا في البلاد ، ودخل القاهرة كثيرون اشتد بهم الجوع حتى إذا جاء رمضان سنة 595هـ كانت المجاعة على أشدها والمآسي التي تحدث بسببها لايصدقها عقل،ولولا أن فيلسوفاً حكيماً كان في القاهرة في ذ&aacutute;ك الوقت وقص ما شاهده وهو معروف بصدقه واتزانه ــ لولا ذلك ــ ما صدق القارئ ما كان يحدث في رمضان 595هـ وما بعده ..
*تصادف أن كان في القاهرة الفيلسوف الطبيب / عبد اللطيف البغدادي وشهد تلك المجاعة ،فكتب عنها وعن مشاهداته في مصر كتابه القيم "الإفادة والإعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر" وكما يدل العنوان فقد استقى الحوادث مما رأى ومما سمع فكان كتابه وثيقة حية تنبض بالصدق المر والواقعية المفجعة..
*يقول " واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث ،ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل ، ورأيت صغيراً مشوياً في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وإمرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما .."

*ثم يأخذ عبد اللطيف البغدادي في وصف مشاهداته المروعة فيقول " ووجد في رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم فأكل وبقى قفصاً كما يفعل الطباخون بالغنم.. ولقد رأيت إمراة يسحبها الرعاع في السوق ظفروا معها بصغير مشوي تأكل منه ،وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره ، فعاد تعجبي منهم أشد وما ذلك إلا لكثرة تكرره على إحساسهم حتى صار في حكم المألوف الذي لا يستحق أن يتعجب منه، ورأيت قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً وقد أخذ به شابان أقرَا بقتله وشيِّه وأكل ْ بعضه .." .

*ويحكي عبد اللطيف البغدادي أقاصيص مزعجة في هذا السياق وكلها تدور حول فقراء جوعى من رجال ونساء وقد انتشروا في شوارع القاهرة يخطفون الصغار ويأكلونهم ، وقد أصابهم الجوع بالسعاروالجنون، وأنه إذا عوقب أحدهم بالحرق ما لبث أن يأكله الآخرون..!! .
ويقول تلك العبارة المؤلمة " ثم فشا فيهم أكل بعضهم بعضاً حتى تفانى أكثرهم ، ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير، منهم من يفعله احتياجاً ومنه من يفعله استطابة".
ثم يحكي عن الحيل التي كان يخترعها بعضهم للإيقاع بالناس وأكلهم .. ويقول أن الوالي حكي له أن إمراة دعيت إلى وليمة فوجدت لحماً كثيراً فاسترابت في الأمر وسألت بنتاً صغيرة من المنزل سراً عن ذلك اللحم فقالت:إنها فلانة السمينة دخلت لتزورنا فذبحها أبي وها هي معلقة.. فهربت السيدة إلى الوالي فهجم على المنزل ولكن هرب صاحب البيت . ويروي من الغرائب أن إحدى النسوة الأثرياء كانت حاملاً وكان جيرانها من الصعاليك فكانت تشم عندهم رائحة طبيخ فاشتهت منه كما هي عادة الحبالى فأكلت منه وأحبته وعرفت منهم أنه لحم آدمي فأدمنته وصاروا يتصيدون لها وغلبها السعار ، واكتشف أمرها في النهاية فحبست وأرجئ قتلها احتراماً لزوجها الغائب حتى تضع حملها..

*ويقول عبد اللطيف البغدادي أنه يحكي ما يشاهده دون قصد، وأن ما رآه أكثر مما يحكيه وأنه كثيراً ما كان يفر مما يرى من بشاعته.
ويقول إن المضبوطات في بيت الوالي كانت تشتمل على كوارع ورءوس آدمية وأطراف مطبوخة في القمح وغيره، ويقول وكثيراً ما يدعي بعضهم أنه يأكل ولده او زوجه أو حفيده ولئن يأكله هو خير من أن يأكله غيره !! .
ويقول ومما شاع أيضا نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم، وهذه البلية وجدت في جميع بلاد مصر من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والاسكندرية ودمياط وسائر النواحي .
وتحدث عن قطع الطريق وقتل المسافرين وعن موت الفقراء في الطرقات والجثث العائمة في النيل ، وخلو القرى والمدن من السكان ، وتحدث عن بيع الأولاد والبنات بدراهم معدودة ،حتى تباع الفتاة الحسناء بدراهم ، ويقول أنهم عرضوا عليه فتاتين مراهقتين بدينار واحد ، وأنه رأى فتاتين إحداهما بكر يُنادى عليهما باحدى عشر درهماً ، وقد سألته إمرأة ان يشتري إبنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فقال لهم إن ذلك حرام فقالت له: خذها هدية .!! ويقول إن كثيراً من النساء والولدان أصحاب الجمال كانوا يترامون على الميسورين ليشتروهم أو يبيعوهم .. ووصل بعضهم إلى إيران..
وفي هذه المحنة برز بعض الفجرة الأغنياء اشتروا الأحرار الجوعى واسترقوا النساء الحرائر بأقل الأثمان ويحكي البغدادي أن بعضهم كان يفتخر بأنه اشترى خمسين بكراً أو سبعين..

*ومن الطبيعي أن القارئ قد يغضب إذا قرأ هذا التاريخ الذي وقع بأرض مصر ، ولكن لابد من معرفته لنتأكد إلى أي حد كنا في حاجة للتحكم في الفيضان حتى لا يأتى الجفاف وتحدث المجاعات التي كانت تتكرر في دورات متتابعة في تاريخ مصر القديم والوسيط..!! .
ولكن ـ وآه من لكن هذه ـ فبعد بناء السد العالى واختفاء دورة المجاعات والأوبئة التى كانت تحدث بسبب جفاف او طغيان الفيضان ، فان العسكر الذى استبد بمصر طيلة اكثر من نصف قرن قد وصل بها الان فى رمضان 1429 الى حافة المجاعة ، فالأخبار تاتى بالاقتتال حول رغيف الخبز وشهداء الكفاح من أجل الحصول على رغيف من الخبز لا يخلو من المسامير و الحشرات الميتة .. هذا فى الوقت الذى يلعب فيه أبناء المترفين بالملايين ينفقونها فى المخدرات والمجون ..
نحن هنا أمام كارثة يصنعها عن عمد واصرار حكام خانوا الأمانة ، ونسوا قوله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ) ( ابراهيم 42 ).
اللهم جنّب مصر الكارثة القادمة .. فيكفى ما عانته فى تاريخها القديم والمتوسط ..