المقصود هو الإيمان بجدوى الدين وسلامته من أي خلل عقلي وروحي ومادي، فالدين إن لم يعالج مسائل العقل والروح والمادة فهو .."فكرة ناقصة".. بينما الدين يجب أن يكون.."فكرة تامة".
مبدئياً يجب أن نفرق بين القيم العامة والقيم الخاصة
يعني إيه؟
القيم العامة هي التي يشترك فيها كل البشر، فلا يوجد بشر يؤمن بجواز السرقة أو القتل أو الكذب أو الظلم..إنما الاختلاف في صور هذه القيم في أذهان البشر، والمُسلّم به أن الصور في الأذهان مختلفة.
أما القيم الخاصة فهي التي تؤمن بها جماعة ويشكلوا بها دين أو طائفة أو حزب، فوجود الله-مثلا_ قيمة مشتركة بين كل الأديان، ولكن توحيده وأنبياءه ورسالته هي القيمة الأخص التي افترقت عليها نفس الأديان..نبوة محمد-مثلاً- قيمة مشتركة بين المسلمين، لكن رسالته وصحابته وآل بيته هي القيمة الأخص..وهكذا حتى تصل للأخص الأخص إلى أن تصل لمستوى اعتقادي للفرد الواحد..كل هذه قيم خاصة في الأخير..
ببيان الفَرق بين القِيم العامة والخاصة يظهر لنا أن حقيقة الدين عند البشر ليست واحدة ويستحيل جمعهم على دين واحد ببدهية تنوع القيم، وبالتالي فالمقصود بحقيقة الدين هو تمامه عند صاحبه وسلامته من الاضطراب..
عندما أكون متدينا يلزمني ثلاثة أشياء:
أولا: الجانب العقلي وهو الذي يكشف التناقض داخل الإنسان، ويخلق توافقاً وجدانيا يؤمن بضرورة الدين، فبهذا الجانب يتم استخدام الدليل العقلي والفلسفي لتحقيق العدالة التي –في تقديري- هي أصل الأصول، وعن طريقها تقوم الأديان وبها فهم الإنسان القديم معنى التدين.
هذا الجانب يلزمه التخلي عن أي نزعة تقليدية، لأن الصواب عند الإنسان ليس بالضرورة أن يكون حقاً، وهنا معضلة الحق والصواب التي تشبه قاعدة.."الكلي والجزئي"..فالحق هو كلي بالضرورة أما الصواب فهو جزئي، كمثال أن نبوة محمد حقيقة إسلامية(حق كلي) أما خلافة أبو بكر أو علي فهي حقيقة طائفية (صواب جزئي) فكل من يؤمن بصوابية خلافة علي هو مؤمن بنبوة محمد، لكن العكس غير صحيح.
التقليد لا ينتبه لهذه المعضلة ويُكرّس التفرق ويخلط بين الحق والصواب ، والحقائق الجزئية عامة تأتي من المحيط الاجتماعي وأسلوب التربية والتعليم، أي أن التفرّق في ذاته هو شأن اجتماعي، وباستخدام العقل تنخفض مساحة الاجتماع في الدين وتعلو النظرة العقلية الكاشفة لأصول وطُرق العدالة، أما التقليدي فسيظل دينه اجتماعياً محليا إلى أن يموت..!
ثانياً: الجانب الروحي وأًصله في الاعتقاد بالوجود، وما دام الإنسان موجود فهو يفكر ويشعر، حاصل نتيجة تفكيره وشعوره يخرج الجانب الروحاني الذي هو قمة الإيمان بالشئ، لكن كثيراً ما يخلط أصحاب هذا الجانب ما بين الروح والخيال فيتضخم عندهم الجانب الأدبي فتظهر الخرافات ، وهي مشكلة صوفية كون أديانهم قامت على الجانب الروحاني بمفرده دون استخدام العقل.
هنا معضلة الدمج بين الخيال والعقل، فالخيال صفة أدبية قد تحكي الأساطير وتؤلف القصص، لكن العقل يحكم أحياناً على هذه القصص بالخرافة ويُظهر عدم معقوليتها، وهنا تأتي ضرورة المنطق وعدم الاستسلام للجانب الأدبي الأصيل لدى الإنسان، وبالمناسبة فالأدب صفة عزيزة وممتعة عند كل البشر، جميعهم يعشقون القصص ، وتُلهب حواسهم الأحداث ، لذلك كانت وظيفة القصّاص ضرورية لكل مجتمع بشري..قديماً كانت هذه الوظيفة مِلك خاص إما لرجال الدين أو السياسة، الآن اختلفت وصارت وظيفة للجميع بل أحياناً صارت وظيفة من لا وظيفة له.
الجانب الروحاني خطير جداً فهو قد يكلف صاحبه الوقوع في.."الطوباوية"..أي العُزلة الشعورية والكمون في قفص معزول عن المجتمع، لكن مع خطورته فهو مهم للتهذيب وضبط السلوك وسلامة القلب، ونرى هذه الأشياء في الغنوصية المسيحية-مثلاً- ونظيرتها في الإسلام الصوفية، وضرورة هذا الجانب تأتي كونه ركن أصيل في التدين، فالمتدين بلا روح يصير ماديا..والروحاني بلا دين يصير كائن خرافي موهوم.
ثالثاً: جانب المنفعة..وهو ما يسميه البعض.."بالمادية أو البراجماتية"..وهو جانب مهم في التدين، وأصل هذا الجانب في أن الأديان ظهرت لمنفعة البشر، فأول متدين في التاريخ رأى حاجة له في الدنيا لن يحصل عليها إلا بالدين، كالحياة مثلا..فالدين لم ينزل كي يموت الإنسان بل ليعيش.
لكن الخلاف في هذا الجانب كبير..فمن الذي يُقيم معيار النفع والضرر؟..وما هو؟..ربما يعالج هذا الجانب مسألة الشقاء وأن الدين يهدف لسعادة الإنسان وإلا ما أعجَب به ونزع إلى التدين..وهنا يتدخل الجانب الأول وهو العقل..لذا من الضروري أن تجتمع كل هذه الجوانب في تحديد هوية الدين، فعندما يتكامل الإنسان عقله وروحه ومنفعته تكن الحقيقة العليا لديه ويتشرف دينه بالتوافق والاتساق النفسي، ويبدأ بالدفاع عنه ضد خصومه عن قناعة تامة وتمكّن في مسائل الدين والدنيا..
توجد جوانب أخرى يهتم بها الشيوخ والرهبان في إثبات دينهم كالجانب الغيبي ومحاولة إثبات الجنة والنار والقيامة والحساب والخلاص والدينونة..إلخ..لكن هذه الجوانب ليست ثمة عملية للتأكد منها ، والانخراط فيها دون تحقيق الجوانب الثلاثة عاليه يعني مزيد من العُزلة وهو حال أغلب الشيوخ والرهبان الآن..الذين عاشوا عملياً في كوكب خاص بهم لا يهتم بالحضارة ولا منجزات البشرية.
الأفضل كما ذهب كانط وبعض فقهاء الأشاعرة أن الحقائق الفلسفية (الماورائية) أو ما يسمونها.."بالأنطولوجيا"..لا يمكن التأكد منها بمعيار.."التطابق"..وهو أهم معيار عقلي تجريبي في تعيين الحقائق، فلا الإنسان قادر على الوصول لهذا العالم، ولا من مات عاد ليحكي تجاربه، وقد انتبه الأشاعرة لهذا الإشكال وكان الجواب لديهم أنا الحقيقة الدينية لديهم صنفين، الأولى: عقلية ومصدرها علم الكلام، الثانية : شرعية ومصدرها النص المتواتر، وبذلك عالجوا مشكلة الأنطولوجيا واكتفوا بالإيمان بالنص دون إخضاعه للعقل.
أستطيع أن أفهم دوافع الأشاعرة بهذا الحل، لكن ما لا أفهمه من الذي يحكم هذا نص أم لا؟..وما حقيقة المتشابه والمحكم ودور كلٍ منهم في الحقيقة الدينية؟..الأشاعرة أنفسهم لديهم عقيدة.."الناسخ والمنسوخ"..وهي عقيدة يخالفهم فيهم المعتزلة وبعض الشيعة، كذلك إيمانهم بقدسية البخاري ومسلم ..كل هذه مسائل مختلف عليها..فما النص الذي يقصدونه؟..وكيف ظهر لديهم الناسخ والمنسوخ في الحقيقة الدينية ولم يصرح بها.."النص المتواتر"..بشكل قطعي لا لبس فيه ولا جدال؟؟
الإجابة في تقديري تكمن في .."دراسة التاريخ"..فعن طريقه نفهم لماذا نحى الأشاعرة هذا المنحى، وسنرى أن هذا الاتجاه كان سياسياً بأمر الخليفة المتوكل وكان صفة ملازمة للعصر العباسي الثاني، بيد أن هناك تناقضات وتساؤلات دون أجوبة لا زال الأشاعرة منذ -عصر المتوكل- لم يجدوا لها حلا ، وحتى الآن عندما تُرفع لهم هذه الأسئلة والإشكالات يردوا عليها بنفس الطريقة القديمة..ولنا أن نتساءل، لو كانت هذه الطريقة مُجدية وعقلانية هل كان الإشكال سيبقى 1000 عام ويزيد؟!
فرضنا أن المتسائلين الآن أغبياء أو لديهم أغراض شريرة أو أنهم لا يُخلصون للحقيقة الدينية كما ينبغي..فما الذي يحملهم على تكرار أساليبهم القديمة وقد علموا أنها عاجزة عن الحل أو القضاء على هذه المجاميع الشريرة كما قضوا على فرق أخرى بائدة..!
الجواب عندي: أن الحقيقة الدينية يلزمها فرضية.."الثابت والمتحول"..بتعبير أدونيس، وتعني أن لكل عصر مفاهيمه وثقافته الخاصة التي ربما لا تتفق مع العصور الأخرى، وهي تعني –بالنسبة للأشاعرة-أن أسلوبهم قد يتفق مع أهالي القرن الثالث ونظام هذا العصر ومقدار العلم فيه، أما الآن فلا..وعلى تعبير أحد الأذكياء أن الشيوخ يريدون تشغيل سيارة موديل 2016 بوقود من الثلاثينات..!
فالحقيقة الدينية مع احتياجها للعقل والروح والمادة هي تحتاج أكثر لرؤية متبصرة تكشف أهليتها (زمكانياً) وهو علم قد لا يملكه رجال الدين كونهم مقلدون والزمكان عندهم واحد، ومحاولة البعض مؤخراً لتكييف النص الديني مع الواقع- لتحقيق رؤية دينية -هي جيدة ولكنها تخصع لفهم واحد للنص قد يكون نسبيا، لذا من الضروري أن نسأل..هل الحقيقة الدينية ثابتة مع النص تدور وتنتهي معه أم هي موجودة في الزمكان وفي أعين ومصالح الناس..وبها نفهم النص ؟
هذا سؤال جرئ على كل متدين أن يسأله لنفسه..