لماذا لم نلحظ أن تعاملنا مع "القضية الفلسطينية" بذات التوجه لقرابة قرن كامل، كان دوماً وبالاً على الشعب الذي ندعي أو نتصور أننا نرعى حقوقه، أم أن مصالح هذا الشعب هي فقط ستار، نعبر من خلفه عن أحقادنا ومخزون كراهيتنا للحياة ولأنفسنا، ووجدنا في هذه القضية متنفساً نموذجياً له؟!!
من لدية ذرة من إنسانية، وذرة تعاطف وعطف على الشعب الفلسطيني البائس، عليه أن يتوقف لحظة أو لحظات مع نفسه، ويحاول التفكير خارج ذلك القفص الحديدي المقدس الذي وضعنا فيه أنفسنا، ويغرق بنا يوماً فيوماً، إلى حضيض الهزيمة والدماء والتخلف. عليه أن يركل كل الشعارات والمفاهيم التي تسجن تفكيرنا، وتأخذ برؤوسنا لتدفنها في الرمال. "الأرض السليبة"- "البيت الفلسطيني المسروق"- "الكيان الصهيوني المزعوم"- "المقدسات الدينية المهددة بالتهويد"- "تحرير فلسطين من النهر إلى البحر"- "الحق التاريخي للعرب في كامل فلسطين"- . . . . . . . . . "قتال وقتل اليهود أحفاد القردة والخنازير". . علينا أن نغلق الصندوق الذي يحوي أمثال هذه القوالب الفكرية والشعارات، ونلقي به إلى الجحيم، ونبدأ في النظر إلى الواقع الراهن هنا والآن. إن كنا باحثين عن الحياة وليس الموت، علينا أن نفكر "كيف نحقق للشعب الفلسطيني حياة أفضل"، بعيداً عن حلم "إلقاء اليهود في البحر"!!
إلى الجحيم ما يسميه اليهود والعرب بالحقوق الإلهية أو التاريخية في فلسطين، سواء كنا نتحدث عن التاريخ البعيد أو القريب. الحقوق في الأرض والحياة هي لجميع الموجودين على هذه الأرض "هنا والآن". قد تكون فلسطين أرض مقدسات، لكنها من قبل ومن بعد أرض الإنسان، ولا ينبغي لأي مقدسات أن تنزع أو تنتقص من حق الإنسان في الحياة، أياً كانت عقيدته أو جنسه.
إن كان ثمة ظلم للشعب الفلسطيني، فإنه يقع على عاتق نشطائه والمتحدثين باسمه من كافة الاتجاهات. هؤلاء هم الذين يصورون لنا وللعالم أجمع، كما لو كان هذا الشعب قطعان من الذئاب، التي لا تعيش إلا بسفك الدماء، دماء اليهود أحفاد القردة والخنازير، وكل من يقف معهم أو يشتبه في ذلك. هم الذين يصورون الفلسطيني بأنه إما أن يكون قاتلاً أو مقتولاً.
ماذا لو قامت مظاهرات حاشدة في سائر أنحاء الضفة الغربية وغزة، تطالب بالسلام مع الشعب والدولة الإسرائيلية. ماذا لو حملت الجماهير أغصان الزيتون، وهتفوا ضد الإرهاب بكافة صوره، وكلما رفض الإسرائيليون التوافق، كلما ازدادت حشود المنادين بالسلام؟!!
هل عندها سيستطيع أي سياسي إسرائيلي مهما بلغ غلوه الشخصي معاندة مسيرة السلام؟
لم تكن "الحركة الصهيونية" تستهدف الفلسطينيين، فقد كانت مثل سائر الحركات التحررية العالمية المماثلة، تهدف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، التي كانت يومها أرضاً خربة.
وهذا هو نص وعد بلفور الذي نلقبه بالمشؤوم، يظهر بجلاء سلمية التحرك الصهيوني، وبراءته من العنصرية التي ألصقناها به، وأخذناها كحقيقة مسلمة:
"وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور"
لكن رد الفعل الفلسطيني الأول لم يكن التشبث بالأرض كما يليق بالرجال، وإنما اتجه الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى إلى التحالف مع النازية. والظن أن هذا لم يكن خطأ شخصياً منه، وإنما كان توجهاً طبيعياً متسقاً مع الروح النازية السائدة في البيئة التي نشأ فيها، وإلا لكانت هزيمة النازي كفيلة بارتداد التوجه العربي إلى جادة الصواب، بنفس الطريقة التي ارتد بها الشعب الألماني والإيطالي عن النازية والفاشية.
كان هناك انتهازية الأفراد الفلسطينيين الملاك للأراضي من جانب، إزاء إغراء المال اليهودي الوفير المعروض لشراء الأراضي. ومن جانب آخر هناك تلك الروح العدائية تجاه الآخر اليهودي تحديداً، في مرحلة مفصلية بالنسبة لتاريخ المنطقة، التي كانت تتعرض لواحدة مما عرفته البشرية من انسياحات تاريخية للشعوب، وكانت تتطلب البرجماتية وروح التوافق والتوائم، وليس التصميم المطلق على الصدام والكراهية الأبدية.
النتيجة كانت أن تم للفسطينيين ذات ما يريدون اليوم من "خيار المقاومة المسلحة"، بأن كان الصدام هو منهج التفاهم بين القادمين والقاطنين، وكانت النتيجة ما رأينا في حرب 1948، وما نراه اليوم وسنراه غداً وبعد غد. . هي ثقافة الموت التي تسوقنا إلى الانتحار أو الاستشهاد!!
لم نشهد من المناضلين والجهاديين الفلسطينيين يوماً مقاومة نبيلة شريفة، تلتحف بالقيم الإنسانية. بل شهدنا إرهاباً وإجراماً محضاً، بدأ بخطف الطائرات والسفن، وارتكاب مذبحة البعثة الأولومبية الإسرائيلية في ميونخ في سبتمر 1972، وجريمة لارناكا التي تم فيها اغتيال يوسف السباعي في فبراير 1978. وحين مكنت اتفاقية أوسلو النشطاء الفلسطينيين من التواجد على أرض فلسطين، لم يأتوا ليؤسسوا لسلام لشعبهم، وإنما بدأت عمليات القتل الجبانة الخسيسة، التي أطلقنا عليها عمليات استشهادية.
هذا بالطبع بخلاف ما ارتكبه "المناضلون" من بلطجة في كل دولة آوتهم، بدءاً من الأردن، ثم سوريا ولبنان، وأخيراً تغذيتهم للإرهاب على أرض سيناء، على حساب الشعب المصري، الذي تحمل في سبيل ما يسمى القضية الفلسطينية ما لم يتحمله أي شعب عربي أخر، بما فيهم الفلسطينيين ومزايديهم وتجار شعاراتهم.
دأبنا طويلاً على تشبيه إسرائيل بنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ولقد انتهت قضية الفصل العنصري، بعد أن وقف العالم أجمع مع السود، الذين لم يطالبوا بترحيل البيض إلى أوروبا من حيث أتوا، ولا سعوا لإلقائهم في البحر عند رأس الرجاء الصالح. كان سعي المواطنيين الأصليين السود هو للعيش بسلام مع المستوطنين القادمين من أوروبا. صارت جنوب أفريقيا الآن في عداد الدول المتقدمة، وهو ما لم تحققه أي من دول أفريقيا السوداء. هناك فرق بين شعب ومناضلي جنوب أفريقيا المحبين للحياة، والساعين إلى المساوة حتى لو كانت مع القادمين الغرباء، وبين شعب فلسطين ومناضلينه ومجاهدينه، محترفي الموت والخراب، والمصممين على مطاردة اليهود إلى يوم القيامة!!
لقد شاركنا جميعاً في صنع الإرهاب الفلسطيني وتدليله وتدعيمه وتمويله، وتسمية الإرهابيين استشهاديين. الآن نذوق طعم الإرهاب والذبح في كل أنحاء بلادنا.
إن لم نتراجع خطوات، وننأى بأنفسنا عن الإرهاب بكل أشكاله ومبرراته، بداية من الإرهاب الفلسطيني، نكون نسلك مع سبق الإصرار والترصد طريق الفناء!!
يجري الآن تحريض الشعب الفلسطيني على القيام بانتفاضة بالسكاكين، لطعن المدنيين الإسرائيليين. هي دعو بالغة الذكاء، وسوف تؤدي لنتائج إيجابية على كل الوجوه. فالأعداد التي سيتم قتلها من الإسرائيليين طعناً "خير وبركة"، فيما من ستقوم الشرطة الإسرائيلية باصطياده من الطاعنين أيضاً "خير وبركة"، فالإنسان الفلسطيني لا قيمة له عند السادة المناضلين والمجاهدين، الذين سوف ينشرون صور الفلسطينيين القتلى باعتبارهم ضحايا، ليتم التنديد على أوسع نطاق عالمي بوحشية الكيان الصهيوني. . أين ضمير الإنسانية من جيش الكيان الصهيوني العنصري، وهو يقتل الشباب الفلسطيني الذي يطعن المستوطنين بالسكاكين؟!!
إذا كان حقاً أن الشعب الفلسطيني يعبر عن نفسه من خلال طعن المدنيين الإسرائيليين بالسكاكين، فإنهم هكذا لابد وأن يجنوا الثمار التي يستحقونها. لن يجنوا سلاماً ولا وطناً مستقلاً، وسيعاملون معاملة الذئاب التي ينبغي أن تبقى دوماً تحت الحصار، ويلقي إليهم المحسنون والمحرضون بالخبز والسكاكين والأحزمة الناسفة.
"فلسطين" هي منذ البداية لعبة الصعاليك. فكل من لا قضية ولا مهنة له، غير التجارة بمخزون الكراهية والعداء للآخر، يجد فيها بضاعة مثالية له. فما أسهل التلاعب بخليط العداء الديني الأبدي لليهود، مع النزعات العروبية العمياء عن كل ما هو إنساني، والمماثلة أو المتطابقة مع النازية والفاشية، ممزوجة بالفكر اليساري الماركسي المعادي للعالم الحر، والذي يماثل الفكر الديني الظلامي، في رؤية الحياة لعبة صفرية، تدور بين القاتل والمقتول، أو بين الذابح والمذبوح.
"القضية الفلسطينية" كنز لا يفني، لكل الموتورين والأفاقين، في مستنقع الشرق الأوسط الرازح في ظلماته.
نقول هذا للشعب المصري، إن لم تنصت له كل ما يسمى شعوباً عربية: اتركوا هؤلاء الذين أصبح الذبح عقيدتهم، لمصيرهم الذي اختاروه لأنفسهم، وانفضوا أيديكم من هذه القضية اللعينة!!