الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا :
إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية: علم إجتماع المدن والصراع الطبقى

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٣ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

( ق2 ف3 ) : د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية: علم إجتماع المدن والصراع الطبقى  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا :

د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية : علم إجتماع المدن والصراع الطبقى  

   في علم إجتماع المدن :

 ( إذا صحت هذه التسمية ) ، أو في القوانين العامة للعمران : توقف إبن خلدون مع عدة قواعد استنبطها ، منها :

1 ـ  أن الدول أقدم من المدن ، حيث أن الدولة هي التي تبني المدينة ، وهذا يتفق أكثر مع موطن إبن خلدون ، وإن كان قد أشار إلى رأي متناقص  في نشأة المدن من إقامة واستقرار البدو في مكان وتسويره ثم إقامة سلطة لحمايته ، أي أن المدينة سبقت قيام الدولة . وهذه إحدى تناقضان ابن خلدون فى المقدمة .

2 ـ    أن السلطنة تستدعي الإقامة في المدن ، وهو هنا أيضا متأثر بالدول الصحراوية ، أو القبائل المسلحة التي تقهر مدينة ثم تقيم دولتها على ما تبقى من تلك المدينة .

3 ـ : أن الدولة العظيمة تقيم المدن العظيمة.

4 ـ الآثار العظيمة من هياكل ومشروعات لا تستقل ببنائها دولة واحدة ، بل تتعاقب الأجيال على بنائها ، واستشهد بالأهرامات .

5 ـ   كما وضع شروطا في بناء المدن مثل إمكانات الحماية ووجود المنافع الإقتصادية وتسهيل المرافق ، وذلك بالقرب من المياه والمزارع والمراعي ، والقرب من البحر ليسهل الإتصال بالعالم الخارجي .

 واشترط في المدن الساحلية أن تكون في منطقة جبلية أو قريبة من العمران ووسائل الحماية ليسهل الدفاع عنها .

6 ـ    وقال إن المدن قليلة بشمال أفريقيا والمغرب لأن البربر قبائل تهتم بالإنتماء للنسب دون المكان وتتجمع في الصحراء ، ولا تهتم بالسكن في الحواضر . والعرب كذلك لم يهتموا بعد الفتوحات بإنشاء المدن الكبرى ، واكتفوا بالمدن القائمة ، خصوصا مع إبتعادهم وقتها عن الترف ، فلما دخلوا في الترف إستعانوا بأبناء الأمم المفتوحة في إقامة العمائر والمدن . والمدن التي أنشأها العرب لم يراعوا فيها إلا القرب من الصحراء ورعاية الإبل ، ولذلك كانت بعيدة عن المرافق والمياه ، ولذلك كان يسرع إليها الخراب ، واستشهد بالكوفة والبصرة . وقال إن تونس اختلفت عن بقية المنطقة بسبب سهولة الإتصال البحري بينها وبين مصر والتوافد المستمر بينهما ، فتشابهت أحوالها بمصر .

7 ــ  وقال إن المدينة تبدأ بسيطة ثم تتطور وتتأنق ، ثم تعود إلى الإنكماش والتقلص ، ثم الخراب والبساطة الأولى . وهذا ينطبق أكثر على موطنه.

8 ـ وقال أن المال والحضارة أساس في العاصمة . وتفتقر المدن القاصية للحضارة حتى لو كانت كثيرة السكان ، وذلك بخلاف المدن ذات الموقع المتوسط [1].

 الصراع الطبقى فى الرؤية الخلدونية :

1 ـكان إبن خلدون سابقا في رصد ( الصراع الطبقي ) الذى تم تأطيره وتنظيره وتطبيقه فى إقامة نُظم شيوعية فى القرن فى القرن العشرين . ، وإن كان ذلك المفهوم لم يكن واضحا لديه . إلا أنه سبقت الإشارة في موضوع العلاقة بين الجاه والنفوذ إلى كل طبقة تكتسب نفوذا من الطبقة الأعلى وتمارسه على الطبقة الأدنى ، مما يفيد وجود نوع من ( الإحتكاك الطبقي ) ، أدركته الرؤية الخلدونية الثاقبة .

2 ـ    وقد أفاض  إبن خلدون في الحديث عن مجتمع البدو وقيامه على العصبية والنسب والقوة المسلحة كما أشار إلى المترفين وظهور المنافقين السفلة في أواخر الدولة يتحكمون مع المترفين في شئونها .

3 ــ وكان ينقصه أن يرصد تلك الفجوة الهائلة التي تعني تركز الثروة في أيدي فئة قليلة ، أو بتعبير عبدالناصر مجتمع الواحد في المائة . وهذا يعني الإنفجار من الداخل.

وجود طبقة مترفة يعنى تحول الأثرياء باستغلال النفوذ وإحتكار الثروة الى ( الملأ ) المساند للمستبد . وهذا الملأ المترف لو سيطر فستتعاظم الفجوة بينهم وبين الأغلبية الساحقة من الفقراء ، فيصبح المترفون أكثر ثراءا ويصبح الفقراء أشد فقرا ، وتزول الطبقة المتوسطة التى هى صمام أمن للمجتمع ، حين تكون سلما آمنا يصعد عليه المتعلمون من أبناء الطبقات الدنيا ، ويرحب بمن ساء حظه في الثروة أو السلطة من الطبقات العليا . وبذلك يزول الحاجز الحديدي بين الطبقتين المتناقضتين المترفة والجائعة ،وتخف الفجوة بين السرف والجوع  بين الجانبين . وينجو المجتمع من الانفجار الداخلى .

وقد أشار رب العزة جل وعلا الى إهلاك الأمم والمجتمعات الظالمة التى يتحكم فيها المترفون وتضيع فيها العدالة الاجتماعية ، وتنسدّ فيها اُفُق الآمال فى الاصلاح وفى أحلام المستقبل : يقول جل وعلا : (  وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) الاسراء ) (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الحج ).

ومن مميزات عصر عبد الناصر أنه جعل التعليم مجانيا وإلزاميا ومتاحا لأبناء الفقراء والعمال والفلاحين ، وأصبح دخول كليات الجامعة بالمجموع  فى الثانوية العامة بلا مجاملة ، وكان التعيين فى سلك الجامعة بالتقدير الأعلى ، وكذلك إلتزام الدولة بتعيين جميع الخريجين ، وبغض النظر عن المستوى الاجتماعى . وبهذا وصل أبناء الفقراء لأعلى المناصب ، وصار التعليم سُلّما يصعد عليه أبناء الفقراء الى الطبقة الوسطى والمثقفة بل والعليا حين يتم تعيينهم فى مناصب عليا .

إنتهى هذا جزئيا فى عصر السادات بإنشاء الجامعات الخاصة لأبناء الطبقات التى أثرت من الانفتاح والفساد . وانتهى كليا فى عصر مبارك إذ إنسحبت الدولة من مجال الخدمات بينما شددت قبضتها الأمنية. زالت المعادلة الناصرية التى تقايض الحرية برغيف الخبز ، فقد ضمن عبد الناصر رغيف الخبز والعدالة الاجتماعية مقابل مصادرة الحرية ، جاء مبارك فألغى العدالة الاجتماعية واستمر فى مصادرة الحرية .  ولم تعد الدولة ملتزمة بتعيين الخريجين ، وأصبح دخول الكليات العسكرية والشرطة بالمحسوبية ، كما أصبح التعيين فى المؤسسات ( السيادية ) مقصورا على أبناء الأكابر المترفين غير المحتاجين أصلا للمرتب ، وصار محرما على أبناء الفقراء المتفوقين بل والطبقات الوسطى التعيين فى رئاسة الجمهورية وديوان الوزارات والخارجية والنيابة والبورصة والبنوك.  ومع فساد التعليم وفشل السياسات الاقتصادية وانتشار البطالة بين الشباب ضاع المفهوم الثقافى للطبقة المتوسطة ، فأصبح الميسورون ماليا أبرز شرائح الطبقة المتوسطة ، ومعظمهم من الحرفيين والمقاولين والعاملين فى الخارج ، وهم أغنياء ماليا وفقراء فى المعرفة والثقافة ، وهذا أدى الى تراجع المستوى الاعلامى والفنى الذى يسعى لارضاء الجمهور ، وأغلبه يتمتعون بالجهل وبالقدرة على الشراء ، بينما إنزوى المثقفون الحقيقيون فى نفق البحث عن لقمة العيش ، وتركوا المجال واسعا لمدعى الثقافة المنافقين ليتصدروا المشهد الثقافى والاعلامى يطبلون فى مواكب السلطان .   ومقارنة بين حفلات أم كلثوم والحفلات الغنائية اليوم تُظهر الفارق بين الطبقة الوسطى المثقفة المحترمة فى عصر عبد الناصر والطبقة الوسطى الغوغائية فى عصر مبارك .

ونعود الى ابن خلدون :

4 ــ وبالتأكيد فإن مفهوم الطبقة الوسطى سياسيا وإجتماعيا لم يكن واضحا لدى ثقافة إبن خلدون وعصره ، وإن كان حديثه عن العلماء والمتعلمين والتجار يندرج  ضمن الملامح الأساسية للطبقة الوسطى سياسيا وإجتماعيا،  خصوصا وهو يصف الفلاحين بالضعف والذلة والخضوع للقهر ، ويصف التجار بالإنتهازية والمكر شأن حكام عصرهم ، ويجعل المثقفين والكتاب والعلماء من أصحاب القلم الذين يخدمون السلطة ، وكان منهم إبن خلدون ، بينما يتربع على القمة السلطان والأمراء وأصحاب العصبيات ومراكز القوى .

5 ـ  وحيث لا يصل من أولئك العلماء والكتبة إلى السلطان إلا من يجيد النفاق والولاء فإن جزءا من الطبقة الوسطى يلتحق بالطبقة العليا ، بينما يزداد فقرا من حافظ على كرامته وكفاءته ، ويكون مرشحا للسقوط إلى الطبقة الدنيا .

6 ــ ويضاف إلى ذلك الحالات التى تعترى الدولة ( السلطان )( أو الأسرة الحاكمة )  ما بين توطيد الحكم وإستبداد السلطان ،  إلى مجىء سلاطين عصر الدعة والسكون والقنوع والمسالمة ، ثم إلى ترف وضعف وشيخوخة وتحلل للدولة . وهذا التطور والصراع ينعكس بدوره على حركة الطبقات والإحتكاك بينها ، إذ تختفي العصبيات القديمة ، أو الطبقة العليا الأولى التي أسهمت في قيام الدولة ، ليحل محلها أتباع جدد منهم عسكر ومنهم مثقفون كتبة ، وأولئك قد يصعدون من أحقر طبقات المجتمع ( مماليك وخدم وجوارى ) أو من الطبقة الوسطى ( مثقفون ) بينما يقاسي أبناء العصبيات القديمة الزائلة من الفقر والإضطهاد والهجرة . ثم في نهاية الدولة ومجون السلطان وضعفه يقل عدد من حوله من الرجال المحترمين ويتكاثر الأسافل من المنافقين وتتكاثر دوائرهم حوله يحجبونه عن الشعب .

وذلك معروف في تاريخ الخلفاء  الضعاف في العصر العباسي وغيره ، حيث تحكم فى الخلفاء رعاع الفقهاء الحنابلة المسيطرين على الشارع العباسى ، ثم تلاهم رؤساء العصابات المعروفون بالعيارين .  وبالتالي ينعكس هذا على الإحتكاك الطبقي فيعلو قوم ويهبط آخرون من سائر الطبقات . وفى عصر آخر الخلفاء العباسيين فى بغداد كان  خدم الخليفة هم وجهاء القوم ومعهم رؤساء العيارين ، بينما كان كبار العلماء على حافة الجوع . 

7 ــ     كل ذلك يمكن فهمه من خلال المقدمة ، ومن بين سطورها ، إلا أن ثقافة إبن خلدون في عصره كانت لا تسمح بتجلية هذا الموضوع في عناوين مستقلة ، ليس فقط لأن ثقافة الصراع الطبقي  لم تكن قد ظهرت في العالم حينئذ ، ولكن لأن ( السلطان  ) كان مدار( الكون ) فى ثقافة العصور الوسطى ، وعنه يبدأ الحديث وإليه ينتهي ، وحوله يدور المجتمع في " طبقات " كالكواكب حول الشمس . وتقديس الحاكم كان عادة سيئة لدى الشرق والغرب على السواء ، ومن هنا فالحديث عن ( غير السلطان ) من طبقات وأحوال إنما يدور في إطار مدى علاقته بالسلطان .

وعلى هذا المنهج سارت الحوليات التاريخية وسار إبن خلدون في المقدمة وفي التاريخ . 

 



[1]
- المقدمة : الفصول 1، 2، 3، 4، 5 ، 7، 8، 9، 10، 17  من الباب الرابع ، والفصل 18 من الباب الخامس. 

اجمالي القراءات 9806