جدل دائر الآن في الشارع المصري والقنوات التليفزيونية، وعلى صفحات الإنترنت الافتراضية، حول أسلمة فتيات من أقباط مصر، والذي يتلخص في أن بعض أو كثير من الأقباط يوصفون القضية بأنها "خطف للفتيات الأقباط وإجبارهن على دخول الإسلام"، والبعض الآخر منهم يقول "إغوائهن بالجنس والمال"، فيما يقول بعض من المسلمين "أن الأمر اعتناق طوعي وحر لهن، وأن ومحاولة منعهن من اعتناق الإسلام بمثابة اعتداء على الإسلام والمسلمين"، وبين الطرفين المتناقضين المتنازعين يقف البعض ممن يحاولون إعمال العقل، في مجتمع لم يعرف العقلانية في أي فترة من تاريخه السحيق في القدم!!
لا ندعي ولا نكشف سراً أن المجتمع المصري محشور - ومنذ عقود على الأقل- في نفق مظلم، يعاني من تهالك جميع جوانب حياته، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، كما أننا لا ندعي ولا نكشف سراً أيضاً أن الجماهير تكتفي إزاء تلك الحالة المتردية حضارياً بالأنين والتذمر السلبي، بل والتأقلم مع نوعية الحياة التي تحياها، والقبول بها كقدر أحمق الخطى كما يقول الشاعر، لكنها في موضوعنا هذا تنتفض من سلبيتها لتتنمر وتستأسد، وتتظاهر وتدمر، بما يدفعنا للتساؤل: هل هذا دليل صحة وصحوة، أم هو مظهر من مظاهر التردي الثقافي والحضاري الذي نرزح فيه؟!
لا نرى أن الأمر بكامله دليل صحوة، كما لا نراه مجرد عرض من أعراض حياتنا الممروضة، ذلك أنه في رأينا يشكل افتضاحاً لداء وبيل من الأدواء التي تضرب جذور الشجرة العامرة بالحشرات والأمراض، لتثمر بعد ذلك أعراضاً شتى، منها ما نحن بصدده الآن.
الصورة البنورامية واضحة لا لبس فيها، مجتمع تسوده الثقافة البدوية الذكورية القبلية، لا ينظر للمرأة باعتبارها كياناً إنسانياً له إرادته الخاصة، ويمتلك ذاته المستقلة، لكنه يعتبرها مجرد الأنثى التي يمتلكها الذكر، وتمتلكها القبيلة، باعتبارها متاع يتحول إلى غنيمة في حالة الغزو – المشروعة في الثقافة البدوية- فيسبيها المنتصر، ويوزعها مع باقي الغنائم المنهوبة، من أبقار وإبل وذهب إن وجد!!
القبيلة المسلمة –في نظر هؤلاء وأولئك- تقوم بغزوات للقبيلة المسيحية، مستعينة بالقوة في الخطف، أو بالجنس والمال في الإغواء، الأمر سيان لأن النتيجة واحدة هي سبي بعض الإناث، وفي هذا اعتداء وهزيمة للقبيلة المسيحية كلها، وليس فقط من يعنيهم الأمر، من أولي أمرها أو أمرهن، ومما يزيد الطين بلة –في نظر القبيلة المسيحية- أن القوانين في مصر تسمح بالغزو في اتجاه واحد، ولا تسمح بالعكس، لهذا لا نعدم مطالبات من الطرف المسيحي بتشريع الانتقال من الإسلام للمسيحية، لتتاح لهم شن غزوات عكسية، يسبون فيها إناثاً من القبيلة المسلمة، فهم لا ينطلقون في دعوتهم من حقوق الإنسان وحرية العقيدة، وإلا لما انزعجوا بالأساس من ممارسة المرأة المسيحية لحرية العقيدة، علاوة على أن المطالبة بحرية المسلم في الانتقال إلى أي عقيدة يشاء أمر لا يخص الأقباط ليطالبوا به، فواقع حال هؤلاء المطالبين أنهم يفضلون تعديل التشريعات لتساوي في تحريم حرية تغيير العقيدة بين المسلمين والمسيحيين، وهي بحق عدالة مفتقدة، ولو من باب "المساواة في الظلم عدل".
أما تفصيلات الصورة فتفضح أكثر وأكثر الداء وأعراضه، فحادثة السيدة وفاء قسطنطين الشهيرة، والتي كادت تشعل في مصر فتنة مدمرة، تروي لنا قصة سيدة تحولت حياتها الزوجية إلى جحيم لا يطاق، وفشلت الكنيسة ممثلة في أعلى رموزها من أساقفة ومطارنة، في الاكتراث بهذه السيدة وحل مشكلتها الإنسانية، فكان أن لجأت لتغيير حياتها جذرياً، بالانتقال إلى دين آخر وجماعة أخرى، ربما تكون أرحم عليها، وأكثر اهتماماً بها من جماعتها وكنيستها ورجالها، الذين لا يملون من الحديث عن الرحمة، فيما تخلوا تصرفاتهم من أي تطبيق عملي لها.
كيف نظرت الجماعة القبطية لهذه الحالة الإنسانية؟
هل احترموا حرية إرادتها في حل مشكلتها بالطريقة الوحيدة التي رأتها متاحة أمامها؟
هل توجهوا باللوم لمن أحال حياتها الأسرية إلى جحيم، ولمن لم يكترثوا بمعاناتها من أساقفة ومطارنة أجلاء ومقدسين؟
أم أنهم نظروا إليها كمجرد أنثى تم سبيها بواسطة القبيلة المنافسة؟
ما هو رد فعل الجماعة المسيحية بعد انتهاء الأحداث، ووضوح وثبوت الكذب على أساقفة ثلاثة، حين حرضوا الجماهير بدعوى أن السيدة تم اختطافها لإجبارها على الإسلام، هل قامت الكنيسة أو الجموع بمحاسبة هؤلاء الكذبة، وهل فعلت الدولة الحاضرة الغائبة ذلك؟
السيدة وفاء قسطنطين الآن سجينة في أحد الأديرة، لا هي بالمسيحية، ولا هي بالمسلمة، ولا هي حتى بإنسانة، بل مجرد أنثى تعرضت للسبي وتم استعادتها وحبسها رهن الإقامة الجبرية، بوصفها عاراً ينبغي إحكام الرتاج عليه!!
السيدة وفاء قسطنطين شهيدة حية، لمجتمع ذكوري قبائلي متخلف، وشهيدة دولة قوية في الاستبداد، ضعيفة في إقرار العدالة وحكم القانون، شهيدة مجتمع تجرد من الإنسانية بكل وأبسط معانيها!!
ملامح أخرى ربما أشد قبحاً، نراها في القصة الأخيرة للفتاتين القاصرتين ماريان وكريستين، اللتين تم اختفاؤهما من عامين ونصف، وتدور عليهما الآن معارك القبيلتين التعيستين:
· فتاتان مصريتان قاصرتان أبلغت والدتهما عن اختفائهما، ولم تحرك أجهزة الدولة ساكناً للعثور عليهما، هذا في أحسن الافتراضات وأكثرها حسن نية، أما في أسوأها فإن الأجهزة الأمنية تعرف عنهما كل شيء، أو تعرف عنهما الكثير، لكنها تؤدي دورها وفق ذات الثقافة الذكورية العشائرية المتخلفة، فكان أن انحازت لأحد الطرفين (القبيلة المسلمة)، أيضاً ربما بتأثير اختراقات لتلك الأجهزة من قبل جماعة زرع التعصب والفتنة في مصر (الإخوان المسلمون)، هذا ما يتداوله الناس، في غيبة الشفافية والمصارحة.
· أصوات قبطية تفشل في معالجة الأمر بصدق وعقلانية، وتلجأ إلى الزعيق بدعوات الخطف والإجبار على تغيير العقيدة، هو هاجس الغزو والسبي البدوي، وليس الدفاع عن إنسانية الإنسان، وحقوق أم فجعت باختفاء ابنتيها، وفشل الدولة في إقرار سيادة القانون، وتنفيذ العقد الاجتماعي الذي تهرأ ووجب اتخاذ عقد جديد، يحمي إنسانية الإنسان وحريته.
· جماعة متخلفة متعصبة، تمتد أذرعها الأخطبوطية في المجتمع المصري ومؤسساته، تشجع بالمال وبالحماية من يقومون بالغزوات على إناث القبيلة المسيحية، وتقوم بإذكاء الفتنة بتوزيع CD يدعي إسلام الفتاتين القاصرتين وزواجهما، وهو الأمر الذي يخرج عن إمكانية الشابين الأميين الذين قاما بالغزو، لو كان الأمر قصة غرام وعشق طبيعية، في مجتمع يعجز خريجو الجامعة فيه عن إقامة أسرة، وهذان الشابان المفترض أنهما مطاردان يقيمان حياتهما، وينفقان الألوف على طباعة CD، وتوزيعه لإشعال الفتنة.
· ليس من قبيل القفز في الفراغ أن نتهم جماعة متعصبة بعينها، فها هو أسلوب إشعال الفتنة عبر توزيع الشرائط المدمجة، على نمط ما حدث في موضوع مسرحية كنيسة محرم بك بالإسكندرية، وهو ما يشير إلى أمرين، أولهما أن ما يحدث ليس أمراً طبيعياً أو عفوياً، ولكنه مصنوع ومدبر، والثاني أن اليد المحركة للأحداث يد قوية وقادرة مادياً وبشرياً وتنظيمياَ.
لم أكتب تلك السطور اهتماماً بموضوع أسلمة بعض الفتيات في حد ذاته، فليس من الصحيح أنه قد تحول إلى ظاهرة ينبغي التعامل معها، فهي حتى الآن على الأقل في نطاق الحوادث الفردية رغم الضجيج الإعلامي، وليس فقط خوفاً على مصر من الفتن والقلاقل، لكن الأهم لأن ما يحدث نموذج فاضح لحالة التردي الحضاري الشامل الذي تعيشه مصرنا، وحالة اللا عقلانية في التعامل ومعالجة المشاكل، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، ونعيد إجمال أهم ملامح المأساة الحضارية فيما يلي:
· سيادة ثقافة القبيلة والتمركز حول الانتماء الديني، على حساب الانتماء الوطني والإنساني.
· الانشغال بالأنثى وقضايا الجنس، على حساب كافة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
· غياب العقلانية والصدق والمكاشفة في تناول المشاكل، سواء على المستوى الشعبي أو المؤسساتي.
· استفحال خطر جماعة غير شرعية (الإخوان المسلمين)، تعيث فساداً بين الجماهير، وداخل مؤسسات الدولة بالذات الإعلامية والتعليمية، وربما داخل مؤسسات أكثر خطورة.
· عجز الدولة عن إقرار سيادة القانون، وعن المواجهة القوية والشجاعة، في أغلب إن لم يكن كل ما يعترضنا من مشاكل، ولجوئها إلى سياسة المسكنات، ومنهج إطفاء ما يشب من حرائق، دون معالجة أسباب اشتعالها جذرياً.
· فشل الصفوة وجماعات المعارضة في العثور على بديل ثقافي جذري، يطرح طرقاً وآفاقاً جديدة، تخرج بالبلاد من حالة التردي الشامل على كل الأصعدة، لوقوعها في أسر أحلام الماضي ومفاهيمه التي تجاوزها الزمن، وإصرارها على مقارعة طواحين الهواء، وقد افتقدت هي الأخرى لشجاعة مواجهة الذات وللإخلاص، مستسهلة ومفضلة الشهرة والرواج الجماهيري، على مهمة استقراء حقائق الوضع العالمي والمحلي، لاكتشاف الممكن العملي، بدلاً من التعلق بالشعارات المستحيلة.
· عجز الجماهير نتيجة الأمية والسلبية عن القيام بدور الدافع والملهم لقوى الاستنارة والتحديث، بل وقيامها في أغلب الأحيان بدور عكسي، انجراراً خلف دعوات ظلامية، تزيد حالة البلاد المتردية صعوبة.
مع ذلك لا ينبغي لنا أن نتجاهل إيجابية المناقشة العلنية لأخطر المسائل المصرية حساسية، وفي جميع المجالات، ومنها ما تعرضنا له في هذه السطور، فالظروف العالمية والمحلية لم تعد تسمح باستمرار الأوضاع على ما هي عليه، ولقد بدأنا بإرادتنا أو رغماً عنا، نستجيب للحراك على جميع الأصعدة، ومن الطوباوية أن نتصور أن تأتي خطواتنا الأولى كاملة الرشاد، فمن الطبيعي أن نتخبط ونتعثر، حتى نتعلم المشي على أقدام ثابتة وقوية، لنتقدم بعدها في خط مستقيم، نحو حياة أفضل.