كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
تابع الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق
الفصل الخامس
في علوم القرآن من التفسير والقراءات
ماهية القرآن
القرآن كلام الله تعالى المنزل على النبي ، المكتوب بين دفتي المصحف ، وهو متواتر بين الأمة .
ماهية القراءات السبع
وقد روى الصحابة القرآن على طرق مختلفة في بعض الألفاظ وكيفيات الحروف في آدائها . وأشهر هذه الطرق ما يعرف بالقراءات السبع التي صارت أصولا لقراءة القرآن . وربما زادوا بعد ذلك قراءات أخرى أضعف ألحقوها بالسبع .
في تواتر القراءات
قال بعضهم بأن القراءات متواترة كلها سمعيا ولفظيا ، وقال بعضهم أنها متواترة فيما لا يتوقف على السمع فقط . وقال بعضهم أن القراءات كلها غير متواترة لأنها طرق لكيفية القراءة ، وذلك لايمكن ضبطه . وقالوا إن عدم التواتر في القراءات لا يقدح في تواتر القرآن نفسه.
تدوين القراءات
مثل باقي العلوم مرت القراءات بفترة الرواية الشفهية ، ثم تم تدوينها وصارت صناعة مخصوصة يتداولها الناس جيلا بعد جيل في المشرق والمغرب .
دور مجاهد العامري في علم القراءات
أخذ مجاهد العامري القراءات عن سيده المنصور بن أبي عامر، وتفوق في بلاط المنصور بن أبي عامر في علم القراءات، ثم تولى مجاهد إمارة دانية والجزائر الشرقية بالأندلس فاهتم في حكمه بالقراءات. . أبوعمرو الداني
ثم ظهر في عهده أبو عمرو الداني الذي تخصص في هذا الموضوع وانتهت إليه روايات القراءات وأسانيدها ، وتعددت مؤلفاته في هذا العلم ، ومنها كتابه التيسير .
أبو القاسم بن فيره
ثم ظهر أبو القاسم بن فيره من مدينة شاطبه فقام بتهذيب وتلخيص ما كتبه أبو عمرو الداني في قصيدة استوعب فيها هذا العلم ، وكان الناس يحفظونها ويلقنونها للمتعلمين من الأولاد في المغرب والأندلس.
علم رسم الكتابة القرآنية
أضيف إلى علم القراءات علم رسم الحروف القرآنية ، نظرا لاختلاف الكتابة القرآنية عن القواعد المعروفة للكتابة العربية ، لذلك احتاجوا إلى حصر الإختلافات بين نوعي الكتابة من خلال ماجاء في كتابة القرآن . وكتب في ذلك أبو عمرو الداني مجموعة من الكتب أشهرها كتاب " المقنع" ثم قام أبو القاسم بن فيره الشاطبي بتلخيصه في قصيدة إهتم الناس بحفظها وتلقينها . ثم كثر الخلاف في علم الرسم في كلمات وحروف أخرى من الكتابة القرآنية ، ذكرها إبن نجاح وهو من تلاميذ أبي عمرو الداني ، ثم نظم الخراز قصيدة أخرى زاد فيها على ما كتبه أبوعمرو الداني، واشتهرت قصيدة الخراز واقتصر الناس في المغرب على حفظها .
التفسير
نزل القرآن بلغة العرب وبأساليب البلاغة العربية ، فكانوا يفهمونه ، وكان ينزل حسب الوقائع . وينزل في العقائد وفي الفرائض ، ومنه ما يتقدم في النزول ومنه ما يتأخر. وقد تابع ابن خلدون ما قاله السابقون فى ( النسخ ) فقال أن من آيات القرآن ماتينسخ أيتيبطل حكم آيات أخرى ، وأن دور النبي في تبيين المجمل وتمييز الناسخ من المنسوخ ، ويعرف الصحابة ذلك ، كما عرفوا أسباب النزول ، وأخذ التابعون كل ذلك عن الصحابة ، وتداولته الروايات الشفهية حتى تم تدوينها ، وظهر الطبري والواقدي والثعالبي وغيرهم فكتبوا التفسير على أساس المرويات المنقولة عن الصحابة والتابعين .
التفسير النقلي والتفسير اللغوي
وبعد أن تأثر اللسان العربي باللحن نشأت علوم اللغة من نحو وبلاغة واحتاجوا في ذلك إلى تفسير لغوي للقرآن ، وبذلك انقسم التفسير إلى تفسير نقلي يقوم على الروايات والناسخ والمنسوخ و أسباب النزول ومقاصد الآيات وما نقلوه عن أهل الكتاب من روايات بدء الخليقة والأمم السابقة والملاحم وكلها بعيدة عن الأحكام الفقهية ، فكان سهلا تصديقها ، وكان مرغوبا معرفتها فامتلأ بها التفسير المنقول دون محاولة للتحقق من صدق هذه المنقولات عن أهل الكتاب . إلى أن قام إبن عطية بتلخيص تلك التفاسير وتحري الأقرب للصحة منها وتبعه القرطبي . أما التفسير اللغوي فقد ظهر بعد ازدهار علوم اللغة ، ومع ذلك فقلما ينفرد التفسير اللغوي عن التفسير النقلي لأن النقلي هو الأصل . وأبرز هذا النوع من التفسير اللغوي الكشاف للزمخشري ، إلا أنه يدافع عن مذهب الإعتزال ، وهذا ما يأخذه عليه إبن خلدون ، وإن كان يعترف بعبقرية الزمخشري في علوم اللغة . وقد قام شرف الدين الطيبي بشرح تفسير الزمخشري ولكن رد عليه من وجهة نظر أهل السنة المضادة للمعتزلة.
الفصل السادس
علوم الحديث
أنواع علوم الحديث
أنواعها كثيرة :
منها : النظر في الناسخ والمنسوخ : حيث يأتي النسخ للتخفيف ورعاية للمصلحة والمتأخر ينسخ المتقدم الذي يتعارض معه ، والناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها .
ومنها معرفة الأسانيد: لمعرفة الحديث الذي يجب العمل به . حيث يجب العمل بما يترجح صدقه من الأحاديث ، وذلك عن طريق الظن بمعرفة رواة الحديث من حيث العدالة والضبط والجرح والغفلة ، أي هل الراوي ثقة أو غير ثقة ، وكذلك مراتب الرواة من الصحابة والتابعين وتفاوت بعضهم وتميز البعض الآخر . وكذلك تفاوت وتميز الأسانيد أو سلسلة الرواة . باتصالها أو بانقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الآخر الذي يروي عنه . ولهم في ذلك مصطلحات على مراتب الحديث مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمتقطع والمعضل والشاذ والغريب وغيرها .
وقاموا بتبويب ذلك كله وما فيه من الخلاف وكيفية التوفيق ، ثم كيفية النظر في أخذ رواية البعض عن البعض ، وما يقع في متن الحديث نفسه من ألفاظ قد تكون غريبة أو غير مفهومة أو لحقها التصحيف في كتابتها.
أئمة الحديث
وكان رواة الأحاديث مشهورين في أوطانهم وعصورهم ، وكان أهل الحجاز أكثر ثقة في الحديث من غيرهم ، وإمامهم مالك وصاحبه الشافعي ثم ابن حنبل ، وكان علم الشريعة حينئذ بالنقل الصرف دون الرأي والاجتهاد ، لذا اهتموا بتحري الصحة في النقل ، وكتب مالك الموطأ في أصول الأحكام من الأحاديث الصحيحة المتفق عليها ورتبه على أبواب الفقه . ثم اهتم علماء الحديث بمعرفة طرق الأسانيد وروايات المختلفة .
وجاء البخاري فسجل أحاديث أهل السنة في أبوابها بجمع طرق الحجازين والعراقيين والشاميين ونظمها حسب الأبواب ، لذلك تكررت الأحاديث حتى وصلت 9200 منها ثلاثة آلاف مكررة ، وهي مختلفة الأسانيد والطرق .
ثم حذا مسلم في صحيحه حذو البخاري فنقل المجمع عليه وحذف المتكرر وجمع الطرق والأسانيد ورتبها على أبواب الفقه ، ومع ذلك لم يستوعب البخاري ومسلم كل الأحاديث الصحيحة ، لذلك استدرك العلماء عليهما كما فعل أبو داود السجستاني والترمذي والنسائي ، ولكن التزموا بشروط العمل من الرتبة العالية في الإسناد الصحيح ،والذي يكون دونه من الحسن وغيره .وبذلك اكتملت المسانيد المشهورة في السنة ، ومعرفة شروط واصطلاحات الحديث ترجع في الأغلب إلى هذه المسانيد من أمهات كتب الحديث .
وهناك من كتب في غريب الحديث، ومن كتب في مؤتلف ومختلف الحديث .
والحاكم النيسابوري هو الذي هذب علم الحديث ، وإبن الصلاح أشهر المتأخرين في علم الحديث في أوائل القرن السابع وتلاه النووي . ثم انقطع في عهد إبن خلدون تخريج الأحاديث لأن المتقدمين من الأئمة المجتهدين لم يتركوا شيئا لللاحقين ، لذلك لم يبق لللاحقين إلا تصحيح أمهات الكتب وضبطها والنظر في أسانيدها لتكون محكمة .
أهم كتب الحديث
ويرى أن صحيح البخاري أعلاها رتبه ولكنه أصعبها ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر حيث تتكرر فيه الأحاديث حسب التراجم والموضوعات والمعاني ، ولذلك قيل أن " شرح البخاري دين على الأمة " يريدون أن العلماء لم يعطوا صحيح البخاري حقه من الشرح .
أما صحيح مسلم فقد اهتم به علماء المغرب وفضلوه على البخاري وأكثروا من شرحه ومنهم المارزي في كتابه المعلم بفوائد مسلم ، وأكمله القاضي عياض وسماه إكمال المعلم ، ثم شرح النووي وقد استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما .
وأما كتب الأحاديث الأخرى – وفيها معظم مآخذ الفقهاء – فأكثر شرحها في كتب الفقه ، إلا فيما يختص بعلم الحديث ، حيث استوفى الناس ما يحتاج إليه علم الحديث من موضوعات وأسانيد . وتميزت الأحاديث بين صحيح وحسن وضعيف، وعرفها الأئمة بطرقها وأسانيدها ، بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد تغير وضعه .
تفاوت الأئمة في رواية الحديث
وتفاوت الأئمة في رواية الأحاديث ، فأبو حنيفة بلغت روايته سبعة عشر حديثا فقط . وقد صح عند مالك في الموطأ ثلاثمائة حديث لا غير . وفي مسند أحمد بن حنبل خمسون الف حديث .ولكل منهم إجتهاده في ذلك .
رأي إبن خلدون في الحديث
ولا يتهم إبن خلدون بالجهل من قلت روايته للأحاديث خصوصا الأئمة ، ويقرر أن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ، ولكن قلل بعضهم الرواية خوف المطاعن والجرح والعلل التي في رواية الأحاديث فيؤديه الإجتهاد إلى ترك ما يشك فيه من الأحاديث فتقل روايته . هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية لأن الحجاز مأوى الصحابة . وفى تعليل قلة أبى حنيفة فى رواية الحديث يرى ابن خلدون أن ذلك يرجع الى تشدده في الشروط ( وليس لأنه ترك الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك بدليل اعتماد مذهبه بين العلماء.) ، وأما غيره من جمهور العلماء فقد توسعوا في الشروط وكثر رواياتهم في الحديث ، وقد توسع أصحاب أبي حنيفة بعده في الشروط وكثرت رواياتهم ، وكل منهم إجتهد . والمتأخرون كالطحاوي توسع في الشروط زيادة على شروط الصحيحين ، فلذلك فالصحيحان لهما التقديم . ويحسّ إبن خلدون بضعف حجته فيقول فيما يشبه التوسل للقارىء: " فلا تأخذك ريبة في ذلك ، فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم ." .!