آحمد صبحي منصور
في
الخميس ١٥ - أغسطس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً
نص السؤال
آحمد صبحي منصور
1 ـ أهم مشكلة منهجية فى الدراسات الاسلامية هى التعامل مع المصادر.
أغلبية الباحثين يخلط بين الحقائق القرآنية المطلقة وبين روايات التراث وأحاديثه التى كانت تسميتها الأصلية : أخبار وروايات.
هذه التسمية: ( أخبار وروايات )هى فصل الخطاب فى موضوعنا.
فى عصر الازدهار العلمى لحضارة المسلمين كان علماء الحديث يطلقون على تلك الأحاديث مصطلح ( الخبر) والخبر عندهم هو الذى يحتمل الصدق والكذب، ولأن الأصل فيه الشك وليس اليقين فقد كانوا يجعلون له اسنادا عبر أجيال من الرواة ليحاول أن يؤكد صحته. وهذا الاسناد لا يعطى ذلك الحديث صفة اليقين لأن هناك مطاعن ضد الرواة واختلافات فى مدى صدقيتهم وحفظهم وأمانتهم فى النقل. ولا يوجد اتفاق عام على توثيق راو أو تضعيف راو آخر حسبما قال الامام الذهبى فى كتابه ( ميزان الاعتدال ). ولذلك كان علماء الحديث يقولون ان تلك الأحاديث تفيد الظنّ ولا تفيد اليقين. أى مجرد أخبار تحتمل الصدق والكذب ، وبالتالى ليست جزءا من الدين لأن الدين لا بد أن يكون يقينيا من عند الله تعالى ، وهذا لا يتأتى الا فى القرآن فقط . وقد قالوا ايضا ان العقائد أوالسمعيات لا تؤخذ الا من القرآن لأنها تدخل ضمن الايمان ولا بد للايمان أن يكون مصدره يقينيا.
وفى عصر الازدهار الفكرى بعد موت النبى محمد بقرنين وأكثر ـ اى فى العصر العباسى الأول ـ عاش أئمة الحديث والفقه. لم يكونوا يقولون مباشرة ( قال رسول الله ) وانما يقولون ( روى فلان عن فلان عن .. ان رسول الله قال .. ) أى يؤكدون انها رواية بشرية وليست قولا مباشرا مؤكدا قاله النبى بنفسه لمن كتب ذلك الحديث. وبعضهم كان يختصر فيقول بطريقة المبنى للمجهول ( روى أن رسول الله قال ..) هو يؤكد نفس المعنى من أنها مجرد رواية متناقلة عبر رواة متعددين مختلفين فى الزمان والمكان.
وفى عصر التقليد والجمود بدءا من القرن السابع الهجرى عكف اللاحقون على كتب السابقين يشرحونها ويلخصون الشرح ويجعلونه مختصرا موجزا ثم يحولون المختصر الى متن ثم يعيدون شرح المتن. وبذلك تقهقرت الحركة العلمية من تقليد الى جمود الى تأخر ، وذلك من بداية العصر المملوكى الى أواخرالعصر العثمانى. وبالتالى تحولت كتب العلماء السابقين الى أسفار مقدسة ـ مع اختلافها والشقاق بين مؤلفيها ـ وتحول أولئك الأئمة الى أنصاف آلهة لا يجوز الاعتراض عليهم أو مناقشة آرائهم. والأهم من ذلك أن روايات الأخبار عن النبى أصبحت بالتقليد الأعمى وغيبة العقل والنقد جزءا أساسيا من الدين . وأصبح لا يقال ( روى فلان عن فلان عن أن رسول الله قال ) بل يقال على وجه التأكيد ومباشرة ( قال رسول الله ) او يقال : (روى البخارى أن رسول الله قال) كما لو أن البخارى كان صاحبا ملازما للنبى محمد عليه السلام وسمع منه مباشرة. والبخارى اكتسب قدسية مرعبة ترهب من يفكر فى مناقشة أحاديثه.
ثم جاء عصر الصحوة التى بدأها الامام محمد عبده وحملها فى رحلاته الى تونس والجزائر وغيرها ، واقترنت هذه الصحوة الدينية بتوجهات سياسية وفكرية ليبرالية فى مصر وغيرها ، وكان مأمولا أن تثمر هذه الحركة نهضة اصلاحية تعيد الاسلام الى المسلمين وتعيد المسلمين الى الاسلام لولا ظهور الدولة السعودية بفكرها الوهابى الذى استرجع أردأ انواع الفكر السلفى وأشده تعصبا وتخلفا وجمودا وظلامية. وقام قطار النفط بنشر الوهابية على أنها الاسلام ، وأيدته ظروف محلية واقليمية ودولية فانتشر وساد ، واسفر فى النهاية عن اتهام الاسلام بالارهاب والتخلف والجمود. وهذا ما نعانيه الآن وما يستوجب الاصلاح.
ومن ملامح هذا التخلف الوهابى المسيطر أنه أعاد منهج العصر العثمانى فى التفكير، وهو العصر الذى عاش فيه محمد بن عبد الوهاب، فلم يعد يقال : روى فلان عن فلان عن أن رسول الله قال ، بل أصبح أحدهم يقول بجرأة : قال رسول الله، كما لو كان جالسا مع النبى للتو واللحظة .. ولم يعد يقال انها " اخبار " أو انه (خبر ) عن النبى ، بل أصبح يعرف بأنه حديث تحدث به النبى على وجه اليقين فأصبح جزءا من الدين.
2 ـ بناء على هذه البلوى فاننا نعانى من خلط مستمر فى المنهج بين حقائق القرآن وأقاويل التراث المنسوبة للنبى. فالعلماء التقليديون ومن سار على نهجهم من محترفى الكتابة فى الدين ـ بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ـ يخلطون بين حقائق القرآن وأكاذيب التراث وأقاويله، يخلطون بين الحقيقة القرآنية المطلقة وأخبار التراث التى ـ ان صدقت ـ فالصدق فيها احتمال كما أن الكذب فيها احتمال آخر ، وكلاهما وارد.
وزاد الطين بلة ـ كما يقولون ـ أنهم ألحقوا التاريخ بالأحاديث، مع أن كل دارس للتاريخ لا بد ان يبدأ بمنهجية الأحكام النسبية لكل روايات التاريخ ووقائعه، سواء كانت اقوالا أو كانت أحداثا بسيطة أو مركبة ، وسواء كان الراوى أو المؤرخ معاصرا للحدث ناقلا عنه من واقع المشاهدة والرؤية العيانية أو كان ناقلا عن السابقين من المؤرخين .
تتضح البلوى أكثر لدى من يكتب فى الاسلاميات بدون علم ، أو بمجرد الهواية والجرأة الهائلة على الابحار فى هذا المحيط دون استعداد عقلى وثقافة ومعرفة وعلم بالمناهج البحثية . ترى أحدهم لا يكتفى بالكتابة فيما لا يعرف وفيما لا يفقه بل ويتصدى لنا مناطحا صائحا ويجد خلفه الأتباع وسقط المتاع يؤيدونه ويزايدون على جهله جهلا. وأساس الجهل عندهم هو ذلك الخلط بين حقائق القرآن المطلقة وأخبار التراث ، ورفعهم أخبار التراث الى مستوى حقائق الاسلام القرآنية. قد أكتب بحثا أستشهد فيه بآيات القرآن الكريم وببعض أخبار التراث وأحداث التاريخ فترى هؤلاء وقد تراءى لهم اننى وقعت فى مأزق فيتساءلون : اذا كان ينكر الأحاديث فلماذا يستشهد بها ؟ أو اذا كان ينكر التراث فلماذا يستشهد بأحداثه ؟
أننى انكر نسبة تلك الأحاديث للنبى محمد عليه السلام. انكرها ايمانيا كمسلم يكتفى بالله تعالى ربا وبالقرآن كتابا ،ومعى أدلّتى من القرآن الكريم ، وقد فصّلت القول فى ذلك فى كتاب ( القرآن وكفى )، وانكر نسبة هذه الأحاديث للنبى محمد كباحث متخصص فى التراث وفى البحث التاريخى . وقد فصّلت نقد الاسناد ( أى اسناد الحديث للنبى محمد ) فى بحث منشور عن الاسناد.
انكارى نسبة تلك الأحاديث للنبى محمد يعنى أنها ليست جزءا من الاسلام الذى اكتمل بالقرآن. وليس معنى انكارى نسبتها للنبى محمد أننى أنكرها جملة وتفصيلا ، اننى فقط أراها معبرة عن ثقافة المسلمين فى العصر الذى تمت كتابتها فيه، وأراها معبرة عن ثقافة مؤلفها ، فصحيح البخارى يعبر عن عقلية البخارى بمثل ما يعبر كتابى هذا عن ثقافتى وعصرى وعقليتى. وفى النهاية فهو جهد بشرى يؤخذ منه ويردّ عليه.
3 ـ وهذا الأخذ والرد والقبول والرفض ليس عشوائيا أو انتقائيا أو بمجرد الهوى او بدافع التحامل أو الجهل . بل له منهج علمى فى البحث، وقد شرحته بالتفصيل فى كتبى التى كانت مقررة فى جامعة الأزهر قسم التاريخ والحضارة الاسلامية ، ومنها كتب :( البحث فىمصادر التاريخ الدينى: دراسة عملية) ( اسس البحث التاريخى ) ، و(التاريخ والمؤرخون : دراسة فى تاريخ علم التاريخ) ( والتاريخ والمؤرخون : دراسة فى المادة التاريخية ).
هناك منهج يستطيع به الباحث قبول رواية تاريخية ورفض أخرى ، يستطيع به فحص الروايات اذا كانت متشابهة أو متعارضة أو متداخلة، ومنهج يستطيع به فحص الرواة والمؤرخين ومدى مصداقية أحدهم اذا كان ناقلا عن الغير أو ناقلا بنفسه عن عصره .. والحديث يطول فى منهجية البحث التاريخى وطبيعة المادة التاريخية ومناهج المؤرخين السابقين ومصطلحاتهم.. وفى النهاية فان مصداقية الباحث التاريخى والتراثى ترتبط بمدى كفاءته العلمية ومدى حياده ونزاهته وتقواه. وفى النهاية أيضا فان ما يتوصل اليه الباحث من بحثه التاريخى ( فى تلك الأخبار التراثية والتاريخية التى تحتمل الصدق والكذب ) ليس سوى وجهة نظر شخصية ، وليس أبدا حقائق مطلقة، لأن الحقائق المطلقة لا توجد الا فى القرآن الحكيم وحده.
ما نستنبطه من القرآن الكريم وما نختاره من ( اخبار ) التراث والتاريخ هو عمل بشرى غير معصوم من الخطأ ، تكون جودته بقدر ما فيه من جهد عقلى وابداع بحثى واستدلال علمى .و لأنه عمل بشرى فانه يحمل اسم المؤلف، سواء كان المؤلف هو البخارى او أى فلان من الناس.
أما القرآن العظيم فليس له مؤلف من الناس .أنه كتاب رب العالمين جل وعلا ، لذا فلا يصح مساواته بكتب البشر.