الجزأ الأول
قصة قصيرة

نهاد حداد في الخميس ١٦ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

قهقه شيخ المضيرة * بخبث ثم رد على الرجل الغريب : " إن الأكل على مائدة معاوية أدسم ، والصلاة وراء علي أسلم ". تعجب الشيخ من هكذا رد ، لكنه لم يعقب . بل أشاح بوجهه عن أبي هريرة  ونظر إلى الأفق البعيد .
وهل تخيل هذه الحيلة على علام الغيوب ؟  
لقد لخص أبو هريرة نظريته في النفاق والمداهنة بعفوية كبيرة لم ينتظرها منه الشيخ الجليل . لكنه لم يستغرب الأمر . فلطالما قال له أبوهريرة أنه أقام بجوار النبي عليه السلام " لشبع بطنه ".
تبادر لذهن الشيخ سؤال ، فأدار رأسه ليرى أبا هريرة قد ذهب في سبات عميق بعد الوجبة الدسمة التي تناولها على مائدة الخليفة . فعرف أنه لا مجال لطرح سؤاله. كانت صلعة أبي هريرة  تعكس أضواء شموع القصر الذهبية بعد أن سقطت عمامته المستديرة على الأرض . لم تكن هذه الوضعية غريبة عنه ، فلطالما نام على حصير المسجد مع أهل الصفة وقد شد على بطنه حجرا من شدة الجوع . اتكأالشيخ على عكازه وهم بالرحيل ، لكن التساؤلات التي كانت تدور بخلده والتي لم يجد لها جوابا كانت تؤرقه . لقد مضى قطارالعمر ، ومات أحفاده الواحد تلو الآخر في الحروب الدموية التي تلت وفاة الخليفة عثمان ! حيث تفرق أبناؤه وحفدته ، مابين مناصر لعلي ومدافع عن غريمه . 
كان الشيخ قد فقد إحدى ذراعيه في حرب الجمل ، فقد حاول الدفاع باستمامة عن أم المؤمنين وبعد أن قطعت يده اليمنى ، سقط مغشيا عليه حيث أخذ أحد الصحابة مكانه قبل أن تقطع يداه هو الآخر. كانت حربا ضروسا ، لم يستيقظ منها إلا وهو في الخلاء وقد تفرق الجمع . لقد سالت الدماء أنهارا ، وتناثرت الأيدي والرؤوس بين البطون المبقورة للأفراس والفرسان . أيعقل أن الجميع كان يدافع في سبيل إله واحد  تحت راية رسول الله ؟
 كان يعرف الكثيرين ممن حاربوا مع النبي فأنجاهم الله حتى حصدت الحرب الأخيرة أرواحهم. كيف تطورت الأمور إلى أن صارت إلى هذا الحد ؟ وماذا دهى المؤمنين وأم المؤمنين؟ 
كان الشيخ يصارع الموت وينتظر من ينقله مع الجرحى ، لكن أحدا لم ينتبه له . حيث غاب عن وعيه وسقطت فوقه جثة أحدهم ، فظن الجميع آنه قضى . وحين هموا  بحمل جثته مع الموتى ، لاحظ رجل رعشة شفتيه فتم نقله مع الجرحى وكي كتفه إلى أن تماثل للشفاء . لكن الجرح كان غائرا ، ذلك الجرح الذي لا تمحوه السنون ، جرح الذاكرة . لقد حارب بجانب من ظن آنهم كانوا على حق ، لكنهم هزموا . وقطعت أيديهم وأوصالهم وأكلت الغربان بقاياهم . فهل كان هذا انتقاما من الله ؟
 كان قد رافق طلحة والزبير  إلى عثمان بن حنيف ، والي علي على البصرة ، فعاهدوه وأعطوه الأمان ،  ففرح الرجل بهذا وظن أن ذلك سيعفي أبناءه من مواجهة بعضهم . لكن الشيطان لم يغب لحظة عن ذلك الجمع، فقد عاد عبد الله بن الزبير في ليلة ظلماء حالكة ، فقتل أربعين  رجلا من حراس الوالي ونهب بيت المال ،لكنه قبل أن يغادر هو ورجاله ، نتفوا لحية ابن حذيفة وحاجبيه وأشفاره ، مدعين حفاظهم على العهد الذي لولاه لقتلوه. كان حظ عثمان بن حذيفة جيدا، فقذ أنقذه صوت امرأة ناشدت عائشة الله فيه قائلة : " الله الله في صاحب رسول الله ".  فنادت عائشة عثمان بن أبان الذي كانت قد بعثته لقتل والي علي على البصرة بعد أن خلّى عبد الله بن الزبير على حياته ! فغضب بن أبان ، وقال: " والله لو كنت أعرف بأنك أعدتني لأكف عنه ما كنت من العائدين ." 
ولكن الأعمار بيد الله . حيث نجا عثمانا من القتل لكنه عذب وأهين وسجن. ولكن ذلك كان أهون الشرين بالنسبة له فبقي على قيد الحياة . 
تذكر الشيخ تلك الحادثة ، فاغرورقت عيناه بالدموع ، هل كانت سرقة بيت مال المسلمين وبالا عليهم أم أن غدرهم وخيانتهم كان السبب في خزي الله لهم ؟ لقد أحس بأن اليد التي امتدت لتنهل نصيبها من بيت المال كان حري بها القطع فلم يندم عليها. وشعر  بأنها كفارة له وقرر أن يهيم على وجهه ويعتزل الناس حتى يجعل الله له مخرجا. 
أعادت كلمات أبي هريرة ذاكرته إلى الأيام الغابرة ، لكنه لم يفهم نوع السلام الذي ينعم به من يصلي وراء علي ، ألأن عليا ولي الله ، أم لأن أبا هريرة كعادته يرقص على الحبلين ؟ والحق الحق أن هذا الأخير ، لم يحضر أية معركة ، بل استفاد من كل المعارك ، حتى خيبر! وهاهو اليوم ينام نوم العادل . 
أعاده شخير أبي هريرة إلى الحاضر لكنه قرر ترك تساؤلاته إلى الغد . فأبو هريرة سرق بيت مال المسلمين في البحرين ولم تقطع يده بسبب ذلك ، بل هاهوذا ينام نوما هنيئا هادئا بعد أن حثى المضيرة حثوا  . 
تذكر الشيخ بألم حديثا لأبي هريرة كان قد ذكره له   في إحدى جلساتهما وظل مطرقا دون أن يجد معنى لكل مايحدث . ألم يكن حريا به أن يقعد مع القاعدين هو أيضا  ؟ لماذا ورط نفسه في مالم يأمره به الله ورسوله ! فلربما كان اليوم أغنى من آبي هريرة. ولكنه عندما فكر في درة عمر ابن الخطاب حمد الله على ماهو فيه .
"  لما عزلني عمر عن البحرين قال لي : ياعدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله قال فقلت : ما أنا عدو الله وعدو كتابه ولكني عدو من عاداك وما سرقت مال الله ، قال : فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟ قال فقلت : خيل تناتجت ، وعطايا تلاحقت ، وسهام تتابعت قال : فقبضها مني فلما صليت الصبح استغفرت لامير المؤمنين .
 " كان هذا هو الحديث الذي تذكره ولم تكن نفسه الأمارة بالسوء  لتدعه يهنأ لحظة . " لماذا لم يقطع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يد أبي  هريرة بالرغم من أنه سرق ، لماذا لم يعاقبه ؟ وقد سمع على مايبدو حديث رسول الله : " والله لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها ؟ 
لقد قرر الصحابة قطع يد السارق في ربع دينار ومع ذلك ، مازالت يدي أبي هريرة تنغمسان في الدسم وتنعمان بعطايا معاوية . 
استغفر الشيخ ربه واستعاذه من الشيطان الرجيم وقرر الرحيل تاركا شيخ الصفة في سباته العميق . ( يتبع). 
 
 
* المضيرة : إحدى الأطعمةالفاخرة التي كانت تقدم على مائدة معاوية وقد كان أبوهريرة يحبها كثيرا حتى لُقِّب بشيخ المضيرة . 
اجمالي القراءات 13691