إفلاس منقطع النظير !!

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٦ - يونيو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : إفلاس

( نشرت الأهرام في 23 مارس1994قصة مرعبة تحت عنوان " صرخة " حكاها شاب أراد السفر لأحدى الدول الأوربية ليعمل هناك , وكانت منطقة العبور هي مالطة, وتقوم العصابات هناك على تهريب الشباب مقابل سبعمائة دولار ومثلها لقبطان سفينة التهريب وأثناء التهريب يجردون الشباب من جميع متعلقاتهم ويبحرون بهم ليلا وفوق رؤوسهم مسلحون بالرشاشات , فإذا حدث وضبطتهم الشرطة النهرية يطلق المسلحون نيران الرشاشات على ذلك الشباب الذي جردوه من هويته ومتعلقاته ثم يسقطون جثثهم في البحر عن طريق فتحات سرية حتى لا يتعرض القبطان للمسائلة القانونية .

 

ويحكي الشاب أن دوره كان التالي وقد سبقته دفعة من الشباب المصري والتونسي وقد انتظر الشاب حتى عاد القبطان وسأله عن رفاقه فأخبره القبطان أنهم وصلوا بالسلام إلى الشاطئ الأوربي , ولكن سمع الشاب بعدها عن وجود جثث لشباب طافية تحمل الملامح العربية , وذهب هناك وفوجئ بأنهم رفاقه الذين سبقوه وقد وجد الرصاص قد انتشر في أجسادهم , وعلم أن التهريب يعتمد على الحظ والنصيب , مجموعة تنجو ومجموعة تموت أما المهربون فهم دائما في أمان ..

قرأت ذلك المقال وتدافعت سحب الغضب والإكتئاب إلى نفسى .. ليس فقط من أولئك المجرمين الخونة الذين يقتلون الشباب الأبرياء ويخدعونهم , ولكن من تلك الحكومات التي ضاع على يديها زهرة الشباب .. إن ذلك الشباب قضى حياته في العلم والتعليم وتخرج في الجامعات قد ملأ صدره بالطموح والوضع الأفضل ويفاجأ بانضمامه إلى طوابير العاطلين يجتر مرارة الحرمان والإحباط خصوصا حين يجد أفضل الفرص في المشروعات والوظائف قد حجزها الأكابر لأبنائهم , فيتحول اليأس لديه إلى تطرف وإرهاب يقتل نفسه والآخرين . أو يضطر للهجرة كارها للوطن وربما يذهب إلى بلد أوربي ويسعده الحظ فيعمل جرسونا يخدم أحد أبناء الأكابر من أبناء بلده إذا حل في أحد الفنادق الأوربية ..!! وربما لا يسعده الحظ فيسقط قتيلا على يد عصابات مالطة أو غيرها أو يسقط قتيلا برصاص البوليس أو الإرهاب ,أو تمتص بلاد النفط حيويته ودماءه وتعيده إلى مصر مطرودا ليموت فيها ..

ويبدو أن هذا هو المصير المناسب للشباب المصري من الكادحين وكل ذنبهم أنهم ليسوا من أولاد الأكابر .. ويبدو أنهم يأخذون قسطا من التعليم لتتسع مداركهم وليتسع إحساسهم بالحرمان والإحباط والظلم , ولو ظلوا كآبائهم فلاحين أو عمالا لارتضوا الظلم وما عرفوا لأنفسهم حقوقا , ولكننا نفتح أمامهم أبواب العلم ونبث فيها مقررات التطرف بين السطور على أنها الإسلام , ثم إذا تخرج قنبلة موقوتة وضعنا في القنبلة فتيلا متأججا هو البطالة والفساد أي حددنا له طريقا وحيدا يسير فيه , وهو طريق التطرف والإرهاب , فإذا استوعب الدرس من التعليم والإعلام ومن روائح الفساد ومن معاناة البطالة وتحول إلى متطرف عريق وجد هراوات البوليس تقع على رأسه حتى يتحول من متطرف عريق إلى إرهابي مسجل خطر .. وفي لحظات اليأس من الجميع والقرف من الجميع – وحيث يطارده الجميع – يقوم بعمل انتحاري عشوائي فيسقط أبرياء وضحايا والحكومة سعيدة فقد أقنعتنا بأنها البديل الأفضل وأننا نرضي بها حتى لا نقع في براثن الإرهاب , وبعد الصلح مع إسرائيل سقطت حجة العدو الخارجي الذي كانت الحكومات تتعلل بها لتبقى جاثمة فوق أنفاسنا . صحيح لم تعد هناك جبهة خارجية تمثل  العدو الخارجى والجبهة الخارجية، ولكن خلقت الحكومة لها عدوا جديدا وأصبحت للحرب جبهة داخلية .. وفي هذه الجبهة الداخلية كل الطرق تؤدي بنا إلى القرافة .. من أسوان إلى مالطة ..  ) ..انتهى ..

ثانيا : إفلاس .. عرض مستمر .!

1 ــ نشرت هذا المقال بعنوان ( إفلاس )  فى جريدة الأهالي المصرية بتاريخ الرابع من مايو 1994 . مرّ عليه أكثر من عشرين عاما ، فهل تغير الحال ؟ نعم تغير.. ولكن الى الأسوأ .

2 ــ بتاريخ  19 يونية 2015 نشر موقع سى إن إن عنوانا يقول : (أطفال مصر يبيعون الجنس والمخدرات بإيطاليا.. بعدما باعتهم عائلاتهم ) .

يقول التقرير: ( هذه ليست سوى شذرات من قصص عديدة للاستغلال وتجارة الأطفال لتحقيق مكاسب جنائية. هنا.. في قلب روما.محطة “تيرميني” في روما هي إحدى محطات القطار الرئيسية في هذه البلد. هنا يصل آلاف الأطفال من المهاجرين غير الشرعيين لكسب المال بأي طريقة.قام أحد السكان المحليين بأخذنا إلى هنا، ويخبرنا أن الفتيين يعملان في زوايا الشوارع.. ومع مرورنا بجانبهما، نرى مجموعة من الأطفال المصريين، ورجل إيطالي يقترب منهم.وفي آخر الشارع يوجد المزيد من الأطفال المصريين، وهم ينظرون من حولهم ويبدو أنهم يراقبون الوضع.ونحن نشاهد بينما يتم تبادل المال وشيء آخر.إننا في وسط روما في وضح النهار.. ورغم ذلك رأينا مجموعة من الفتيان مجتمعين في نقطة تجمع معروفة.. وفور رؤيتهم للكاميرا.. اختفوا عن الأنظار. وافق أحد الأولاد على التحدث معنا لاحقا. إنه أحد آلاف الأطفال المصريين الذين اختفوا بعيدا عن أنظار نظام الرعاية الإيطالي. وحفاظا على سلامته، أخفينا هويته. ويسمي التجارة بالبشر والمخدرات والنشاطات التي يشارك فيها مع أصدقائه بـ“الأشياء غير القانونية”. “الأشياء غير القانونية هي الأسهل، وليس في روما فقط بل عبر البلاد كلها. وصديقي الذي يعمل في هذه التجارة يساعدنا”. وعندما سألته إن كانت طريقة العيش هذا سهلة..: “نعم.. ولكن ما هي خياراتنا؟ لقد دفع أهلنا الآلاف لإرسالنا إلى هنا، وعلينا إرسال المبلغ لهم.”

 مركز “شيفا كوزيرا” هو ملاذ لهؤلاء الأولاد المنفردين من دون ذويهم، إنه مكان حيث بإمكانهم الأكل والتعارف ولربما تذكر معنى الطفولة ولو لفترة قصيرة. وصلنا إلى هنا في إطار التحقيق وتتبع خطوات آلاف الأولاد المصريين الذين وصلوا دون ذويهم إلى إيطاليا، مستفيدين من القانون الإيطالي الذي يسمح للأطفال المهربين بالبقاء في هذا البلد بصورة غير قانونية.الآباء المصريون يدفعون آلاف الدولارات لهذه الرحلات، ليحصلوا على حياة أفضل. الأطفال الذين حالفهم الحظ استطاعوا البقاء في منازل الأطفال التي تديرها الحكومة الإيطالية. ولكن آلاف الأطفال الآخرين يختفون ويشقون طريقهم إلى المدن الكبرى. يعمل محمود لمنظمة Save The Childrenوهو يقوم بمساعدة الأطفال ويسمع قصصهم.عوائلهم لا تكترث بما يمرون به، بل همّها الوحيد هو المال، لا يسألون عن طريقة كسب المال أو أي شيء آخر. ولا أظن أنهم سيهتمون إذا علموا عن الطريقة غير الشرعية التي يكسب فيها الأطفال المال. إنهم يريدون النقود فحسب.”والأهل بالطبع بعيدون للغاية عن أطفالهم.. ورغم عدم معرفتهم عن أطفالهم وعدم اكتراثهم إلا أن الأطفال يأتون إلى هنا بأعداد كبيرة وبتدفق مستمر دون التحقق منهم. جالبين معهم طفولتهم المفقودة مدمرين حياتهم التي لربما لا يمكن إصلاحها.)

ثالثا :

1 ــ انتهى هذا التقرير المُخزى المخجل . ولكن هل يشعر بالخزى والعار العسكر الذين دمروا على مصر مذ إستولوا على السُّلطة فيها عام 1952 ؟ لا تكفى مجلدات لتعداد هذا التدمير الذى ألحقه العسكر المصرى بمصر . ولكن الغريب أن الشعب المسحوق تحت بيادة العسكر لا يزال فى معظمه يأمل فيهم خيرا ، وهو معذور فقد خلق له العسكر بديلا أسوأ ، وهم الاخوان وما ظهر من تنظيماتهم وما بطن . وبدلا من أن تتجه جموع المصريين الى البديل الثالث الداعى للديمقراطية وحقوق الانسان والدولة المدنية الاصلاحية فإن الأغلبية مع العسكر .

2 ـ ينسى المصريون أن مصر قبل حكم العسكر كانت الواحة التى يهاجر لها الايطاليون واليونانيون والشوام والعرب والمغاربة والليبيون والأفارقة . ينسى المصريون أن العسكر تسلموا حكم مصر والجنيه المصرى يناطح الاسترلينى وبريطانيا العظمى كانت مدينة لمصر ب 55 مليون جنيه ، وأن الرصيد الذهبى لمصر كان الغطاء للجنيه المصرى ، هذا الرصيد الذى بدده عبد الناصر فى حرب اليمن رشاوى للقبائل ، وينسى المصريون  أنه لم يحدث خلال التاريخ المصرى  ــ وهو اطول تاريخ مستمر فى العالم ـ ان وقعت مصر فى هزيمة مثل هزيمة 1967 ، وأن يتم إقتطاع جزء منها ، ثم ــ وحتى الآن ـ ليست لها السيطرة الكاملة عليها . ينسى المصريون أنهم طوال تاريخهم كانوا أكثر الشعوب إلتصاقا بتراب الوطن ، خصوصا الفلاح المصرى عاشق أرضه ، بينما يهاجر الى مصر الآخرون من الشمال والغرب والشرق والجنوب ، فأصبح المصريون الآن ــ وفى مقدمتهم الفلاح المصرى ــ وبسبب الفقر المُزمن ، يتسابقون الى الهجرة المؤقتة للعمل فى أى مكان بدءا من الأردن ولبنان وافريقيا لو أمكن . ينسون أنه مع نهاية عهد كل رئيس من العسكر تكون الخزانة المصرية خاوية على عروشها ، حدث هذا بعد عبدالناصر وبعد السادات وبعد مبارك ، وسيحدث بعد السيسى . كل رئيس تنهال عليه الأموال ثم يترك مصر على وشك الافلاس . ينسى المصريون ان العسكر قاموا بتغيير العقيدة العسكرية فأصبح السلاح العسكرى موجّه للمصريين الغلابة العُزّل ، وأن الانتصارات الوحيدة والحقيقية التى حققها العسكر المصريون هى إنتصاراتهم المُذهلة على الشعب المصرى الأعزل المسالم . ينسى المصريون أن مصر ــ فى الواقع ــ تحتوى على أهم ثروات العالم : الانسان المصرى صانع الحضارة ، النيل ، سيناء ، الموقع والمناخ وحوالى ثُلُث آثار العالم . ولكن قام العسكر بإفقار المصريين لينشغلوا بلقمة العيش عن المطالبة بحقوقهم المسلوبة وليسكتوا عن أكبر عمليةنهب منظم للثروة المصرية ، بدأت بسلب ممتلكات أسرة محمد على وانتهت الى سرقة ما يأتى لمصر من مساعدات ، وبيع الموارد المصرية وقطاعها العام بالعمولات والرشاوى ، فتضخمت البلايين المسروقة ، بينما لا يجد الشباب المصرى عملا ولا أملا .

3ــ ولهذا فإن  صراخنا منذ أكثر من عشرين عاما فى المقال المنشور فى الأهالى ذهب هباءا ..لأن  العسكر إذا حكموا فشلوا فى الحكم وفشلوا أيضا فى الحرب ، ولا ينجحون إلا فى الانتصار على الشعب بالظلم والسلب والنهب والتعذيب والقتل ..والافلاس المنقطع النظير ..   

رابعا  

1 ـ فى العصور الوسطى حكم مصر المماليك . كانوا رقيقا يتم أسرهم والإتيان بهم الى مصر ، ليكونوا جندا وحكاما . السلاطين والأمراء والجنود المماليك جىء بهم من أوراسيا وأوربا . وعرف سكان هذه المناطق أن أبناءهم سيكون لهم مستقبل فى مصر ، فكان بعضهم يرسل أبناءه طوعا ليكونوا رقيقا ومماليك فى مصر، على أمل لأن يتسلطن بعضهم ويحكم مصر ودولتها التى تمتد من العراق الى ليبيا . وكان بعض الأمراء المماليك والسلاطين بعد أن يصل الى النفوذ يستقدم أهله ، ويقيم لهم فى القاهرة حفل استقبال فاخر . أى إن مصر كانت تستقبل أطفالا من ربوع العالم ليصبحوا فيها أمراء وسلاطين . الآن المصريون بسبب الفقر والهوان الذى أعاشه فيهم العسكر المصرى يبيعون أبناءهم فى ايطاليا حيث يحترفون البغاء وبيع المخدرات .

2 ــ فى العصور الوسطى كان الاستبداد العسكرى والدينى شرعية بشرية ، وإن كانت ضد الاسلام . العسكر المملوكى ( الأجنبى ) حكم بهذه الشرعية البشرية المناقضة للاسلام ، وارتفع بمصر الى مكانتها . العسكر المصرى الحالى هوى بمصر الى الحضيض فى عصر الديمقراطية وحقوق الانسان حيث تتراجع الديكتاتورية فى العالم ، وتزدهر فى مصر وما حولها ، فى مواجهة مع ثقافة العصر الحالى ..ومع الاسلام أيضا!!.

3 ــ العسكر المصرى يرتكب جريمة الخيانة العظمى. هذه حقيقة ، وهذه شهادتى عليهم للتاريخ .

أخيرا

قد ينظر البعض الى مواكب المستبدين وحولهم اللصوص من رجال الأمن ورجال العسكر ورجال الاعلام ورجال الدين ورجال الاعمال ، ويتساءل : الى متى يتركهم رب العزة بلا عقاب ؟ وهم إن سقط مستبد خلفه مستبد آخر ؟

إجابة على هذا السؤال يقول رب العزة جل وعلا : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)ابراهيم). أى ينهى رب العزة بأسلوب مشدد باستعمال التأكيد المُغلظ . لا يقول : ( ولا تحسب ) بل ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ). المستبدون عُتاة الظالمين لأنهم يظلمون الملايين . هناك ظالم يظلم فردا ،أما المستبد فيقهر شعبا . ويقول جل وعلا بنفس أسلوب التأكيد الثقيل : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) آل عمران ). والمستبدون أشد الناس كفرا ، لأنهم لو آمنوا ــ حقّا ــ بالله جل وعلا وباليوم الآخر ما كانوا مستبدين ظالمين .

ودائما : صدق الله العظيم .

اجمالي القراءات 10764