:الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل :(النصب على الناس )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٥ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الخامس : أكل أموال الناس بالباطل

التنافس على الدنيا والنصب على الناس :  

1 ــــ  بانتشار التصوف وتكاثر عدد الأشياخ وصراعهم حول الشهرة صار لكل منهم " نقيب" ، وهو أشبه بالمتعهد أو وكيل الأعمال ، ووظيفته نشر صيت الشيخ خصوصاً عند أصحاب الجاه، يقول الشعرانى " ( صار النقباء يمدحون شيخهم عند الأمراء وكبراء البلاد ونحوهم ممن يتوهمون حوله البر) "[1] .أى الأموال .

2 ــ  وافتخر الشعرانى على عادته أنه لم " ( يزاحم أحداً على تدريس علم أو وظيفة ) ، ويفتخر أيضا ًبعدم مبادرته للإنكار على من رآه يسعى على وظائف إخوانه "[2]. والمزاحمة على الوظائف والصراع حولها كان شيمة العلماء فى العصر – وأغلبهم فى القرن العاشر – صوفية .

3 ــ أما الأشياخ الصوفية الذين لا حظ لهم فى العلم فقد وجدوا مجالهم فى ادعاءات الكرامات وعن طريقها " نصبوا" على الناس وأكلوا أموالهم بالباطل وصدق الله العظيم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ  ) ٍ (34) التوبة ) . 34"

النصب على الناس:

1 ــ  يقول الشعرانى : (  كثر النصب في أهل هذا الزمان، فصار أحدهم يوقف النقيب مثلاً ينصب له عند الأمراء أو مشايخ العرب ،ثم إذا أتاه به يختص به ولا يعطى النقيب الذى نصب وتعب شيئاً) [3].

إذن فتعبير ( النصب )  ليس من عندنا وإنما قاله الشعرانى ليصف أشياخ عصره النصابين الذين ينصبون ليس على الأمراء ومشايخ الغرب فقط وإنما ينصبون أيضا على النقيب أو الذى يأتى بهم فيحرمه الشيخ من عمولته فى النصب.

2 ــ   ويقول الشعرانى : ( منهم من يقبل المال على اسم الفقراء ، ويسمَى لصاحب المال أسماء خلائق على غير مسمى ، ويوهمه أنه يفرق المال عليهم") [4].  

ويعد الشعرانى طرقا أخرى لنصب الصوفى يذكرها مفتخرا بعدم وقوعها منه كما يفعل أشياخ الصوفية من استجلاب حضور الأمراء عنده ( كما يفعل النصابون فيغمز أحدهم نقيبه أن يقول له إذا جلس عنده أمير : إن الباشا أرسل لكم السلام مع شخص من جماعته ، ويقول لكم لاتخلوه من نظركم فإنه فى بركتكم ، فيسمع ذلك الأمير فيحكى ذلك للأمراء فيترددون عليه . )"، ويحكى الشعرانى أن أحدهم رأى فى خلوته شخصا ( فادعى أنه الرسول(ص) جاء يزوره . ) ،  وبعضهم يدعى أن الخضر يزوره ، ( وينزل شخصا من طاقة فى سقف البيت فإذا قرب من الأرض أمر الحاضرين بالقيام إليه والتبرك به ثم يغمز الذى أنزله أن يرفعه). ( وبعضهم كان لايحمل الحملة إلا بفلوس وثياب )..(  فجاءته زوجة أمير فقالت إن الأمير يريد أن يتزوج عليها لأنها لاتلد وطلبت منه أن يسأل الله أن يعطيها ولدا ، فقال لها: هاتى مامعك من الفتوح ، فأعطته أسورة كانت فى يدها، فقال لها " هذه ما تكفى حلاوة الصبى وإن لم تعط أختها لى جاءت أنثى بعون الله تعالى... فأعطته الأسورة الثانية فقال لها : تأتى بولد وفى يده اليمنى أصبع زائدة. ). ويحكى الشعرانى أنه قضى حاجة لأحدهم ورفض  أن يأخذ منه مالا، ثم حدث أن مرض ولد لذلك الشخص فجاءه أحد الصوفية وطلب منه خمسين دينارا على أن يشفى ابنه فأعطاه المبلغ ثم أصبح الولد ميتا فى اليوم التالى ، فطلب الرجل ماله من الصوفى فلم يعطه له، وقد نصب هذا الصوفى بنفس الطريقة على أحد الكبار بنفس الطريقة.[5].

3 ــ والشعرانى الذى شهدناه يحتج على " النصابين" من الصوفية نراه فى كتابه " البحر المورود" يكثر من استعمال لفظ " الصيد" للفقراء الصوفية ، وكلمة " الصيد" لاتختلف عن كلمة " النصب" .

يقول مثلا  : ( ينبغى للشيخ إذا رأى نفسه قد صار قليل الصيد للفقراء أن يعلمهم بسبب توقف الرزق . ) " ويقول : ( وصار شيخ الفقراء لايقدر يصطاد لهم رغيفا إلا بألف حيلة. )،  ويقول : ( وقد صارت الزوايا الآن مصيدة للدنيا ) [6].

4 ــ ثم يستعمل الشعرانى بنفسه لفظ (النصب) ويدعو للنصب ، فيقول : (  ينبغى للشيخ إذا لم يعلم فى جماعته الصدق فى طلب طريق الله تعالى أن ينصب لهم حتى يقوى يقينهم وأجره على الله ، وصورة نصبه أن يقول عندى فقراء صالحون يعنى صالحون للجنة أو النار ، ومقصودى أحد من أهل الخير يبرهم بشىء من الخبز أوشىء من العسل ، ثم إذا جاء ذلك المحسن يوما إلى زاويتهم فيأمرهم بالإشتغال بالذكر والقرآن حتى يداوم عليهم ذلك البر وإلا تحول باطنه، وقال: فى سبيل الله حسنتى لهؤلاء ياليتنى أعطيتها لغيرهم"[7]. . والشعرانى هنا يضفى المشروعية على "( النصب )" حين يمارسه ، فى نفس الوقت الذى ينقم فيه على الآخرين من الأشياخ المنافسين له احتيالهم ونصبهم ..

5 ــ على أن النصب قديم فى تاريخ التصوف . ففى بداية العصر المملوكى فى مرض الصالح إبن السلطان قلاوون  ت 786 ، بعث السلطان قلاوون للشيخ محمد المرجانى يدعوه فأبى أن يجتمع به ، فحمل إليه مع الطواشى خمسة آلاف درهم ليعمل بها وقتا للفقراء ( حتى يطلبوا ولد السلطان من الله تعالى " فقال له : سلم على السلطان وقول له متى رأيت فقيرا يطلب أحدا من الله ، فإن فرغ أجله فوالله ماينفعه أحد وإن كانت فيه بقية فهو يعيش ورد المال.) . وهذا موقف مشرّف للشيخ محمد المرجانى . ولكن ظهر صوفى نصّاب إستغل الفرصة . تقول الرواية : ( وطلع الشيخ عمر خليفة الشيخ أبى السعود إلى السلطان وقد دعاه ليدعو للصالح فقال: " لله أنت رجل بخيل مايهون عليك شىء ولوخرجت للفقراء عن شىء له صورة لعملوا له وقتا وتوسلوا إلى الله أن يهبهم ولدك لكان يتعافى" ، فأعطاه السلطان خمسة آلاف درهم عمل بها سماعا ثم عاد إلى السلطان وقال له : "طيب خاطرك ، الفقراءكلهم سألوا الله فى ولدك وقد وهبه الله لهم ، فلم يكن غير قليل حتى مات الصالح ، فقال السلطان : ياشيخ عمر أنت قلت أن الفقراء طلبوا ولدى من الله ووهبه لهم ، فقال له على الفور :" نعم الفقراء طلبوه ووهبهم إياه ألا يدخل جهنم ويدخله الجنة " ، فسكت السلطان ) [8].

هنا بلغ النصب درجة التحايل .

من النصب الى التحايل:

1 ــ  فبعض النصب يبلغ درجة التحايل الذى يعاقب عليه القانون مثل خيانة الأمانة ، ففى سنة 794 عزل برقوق شيخ الخانقاه أصلم الأصفهانى وسلمه لشاد الدواوين ليعذبه ويستخلص منه مائتى ألف درهم ، لأن برقوق حين أختل أمره بثورة الأمير يلبغا الناصرى ومسيرته للقاهرة همَ بالهرب، وأعطى  الشيخ أصلم هذا خمسة آلاف دينار ليخفيها عنده وواعده أن ينزل إليه ويختفى عنده فلم يف له أصلم بذلك وتغيب عنه ، واضطر برقوق للإختفاء عند غيره ، فلما عاد إلى الملك طلب منه الخمسة آلاف دينار على لسان الداودار فرفض أصلم وقال:" تصدقت بها على الفقراء ،فلما ألح عليه الدوادار قال: أعلم السلطان أنى سأجمع الفقراء من الزوايا والربط وألزمهم بإعادة ماتصدقت به عليهم، وأقول لهم إن السلطان قد رجع فى صدقته فإنه لم يدفع هذا المال لى إلا لأتصدق به ،لا أنه وديعة عندى " ولم يستطع السلطان الرد فسكت ، ولكنه أسرها فى نفسه وصبر حتى نمى إلى علمه أن تاجرا ترك عند أصلم فى الخانقاه عدة أحمال هربها من المكوس، فأمر بطلبه من الخانقاه وعزله وصادره[9].

  2 ــ  وتزايدت قصص الاحتيال بكثرة الأشياخ وسيطرة التصوف المطلقة منذ القرن التاسع . وكان ضحايا الأشياخ هم الأثرياء المعتقدون فى الأولياء ، ويذكر أبوالمحاسن فى ترجمة الأمير الطيبرسى بن عبدالله إنه كان سليم الباطن محبا للفقراء ، جاءه يوما بعض الفقراء وقال له اشتريت لك جارية ما دخل هذا الأقليم مثلها بخمسة عشر ألف درهم، فوزن له الثمن ، فقال وأزيد ثلاثة آلاف درهم لكسوتها فاعطاه، ثم جاءه الفقير بعد ذلك وقال له " قد زوجتها لك بواحد من رجال الغيب ، فما أنكر ذلك"[10].

 3 ــ  ووقع قايتباى ضحية لمحتال صوفى آخر عرف أن السلطان يعتقد فى الشيخ الدشطوطى، وأن الدشطوطى يتردد إلى مكان معين بالقرافة بعد العشاء، فنزل السلطان إلى ذلك الشخص وكان جالسا وقد أخفى وجهه فأخذ السلطان يقبل رجليه ويقول يا سيدى احمل حملتى مع ابن عثمان ، فاخذ ذلك الشخص يتمنع عليه ويقول له : أنت ما ترجع عن ظلم العباد ، فطال المجلس بينهما ثم أعطاه السلطان كيسا فيه ألف دينار ، ثم ركب ومضى وهو يعتقد أنه الدشطوطى ثم بعد أيام " انكشفت هذه الواقعة وظهر أنها مفتعلة"[11]...  ويروى الشعرانى نفس الواقعة يقول: ( وكان السلطان قايتباى يمرغ وجهه على أقدامه") أى الدشطوطى ،( ومن مناقبه أنهم زوروا عليه برجل كان يشبهه فأجلسوه فى تربة مهجورة فى القرافة ليلا، وراحوا للسلطان وقالوا له أن سيدى عبدالقادر الدشطوطى يطلبك بالقرافة فنزل إليه وصار يقبل أقدامه ، فقال الرجل المزور الفقراء يحتاجون لعشرة آلاف دينار فقال السلطان بسم الله ، فمضى ثم أرسلها له ) "[12].

4 ــ  وذكر الشعرانى قصصا كثيرة عن تحايل الأشياخ فى عصره ، منها أن الشيخ السنهورى الضرير جمع خمسة وعشرين دينارا " ( على نية التزويج فبلغ ذلك شخصا من المشايخ اسمه الشيخ حسن النطاح كان من شأنه أن له مثل ركبة العنز موضع السجود وله شعرة مضفورة .. ويذكر الله معنا فى كل مجلس حتى يصير له رغاء كرغاء البعير من الهيام ، فأتى هذا الشيخ إلى السنهورى وقال له يأخى أعجبنى خيرك ودينك ولى بنت عظيمة الجمال ماأحببت أن يأخذها أحد غيرك ، وأعطونى فيها ثلاثين دينار، وأنا أرضى منك بعشرين دينار فأتى بهم الضرير له فى صرة، وقال : تحضر عبدالوهاب ( الشعرانى) معنا، فقال أما ترضى أن يكون الله شاهدا لك فقال الضرير نعم، فأخذهم وراحوا إلى تاريخه) "[13].

5 ــ  وأودع أحدهم عند بعض الأولياء ( ألف نصف) والنصف عملة فضية . وعندما طالبه بها أنكر، وهمَ أصحاب الشيخ بتكفيره، ويقول الشعرانى معلقا: (  إياك  ياأخى أن تعطى شخصا فى هذا الزمان وديعة بلا شهود . )"[14].

6 ــ وبعضهم كان يستدين ويستغل نفوذه فى أكل المال الباطل ، فبعض الأشياخ استدان " حتى صار عليه مال عظيم فاجتمع عليه أرباب الديون وارادوا  حبسه" ، فقام المريدون على أصحاب الديون وقالوا" كيف تحبسون ولد سيدى الشيخ" فلم يصل لأصحاب الديون شىء حتى وقت الشعرانى.[15]

7 ــ وبعضهم وصل من الإحتيال إلى السرقة الصريحة مثل علاء الدين الرومى شيخ الخانقاه الأشرفية ، يقول عنه ابن حجر عن عزل الشيخ علاء الدين الرومى : (  صُرف علاء الدين الرومى عن مشيخة الأشرفية لأن شخصا من الصوفية مات وخلف مالا جزيلا فاحتاط عليه ( أى أخذه )، ونقل  عنه أمور فاحشة )"[16].

8 ــ   وحاولت الكرامات أن تُموّه على وقوع بعض الأشياخ فى السرقة وضبطهم متلبسين ، فهناك أسطورة عن صوفى اتهم بسرقة درة وضبطت معه، وانتهت الأسطورة بأن دعا الله ـ وكان الجميع فى البحر ـ فطلع البحر كله حيتانا تمتلىء أفواها بالدرر، ثم ألقى بنفسه فى اليم [17]. وأسطورة أخرى عن صوفى نام إلى جانب دكان فسرق الدكان وتنتهى الحكاية بمقالة الصوفي: إن من عباد الله من يقول لهذا الطين صر ذهبا فيصير ذهبا، وحين قال ذلك صار الطين الذى إلى جانبه ذهبا، فقال له عد كما كنت"[18].

 9 ــ  وبعضهم سرق وقتل مثل شعبان بن شيخ الخانقاه البكتمرية الذى خدع امرأة فخنقها ودفنها فى تربة وأخذ ثيابها ، وكانت لها قيمة"[19].

ثم أتاح التصوف مجالات أخرى للتحاي ليجمعها مفهوم الشعوذة.

 

 



[1]
- ردع الفقراء 15 .

[2]ـ لطائف المنن89 ،218 .

[3]ـ تنبيه المغترين 92.

[4]ـ لطائف المنن 128، 380، 381، 400، 173.

 

[5]ـ لطائف المنن 128، 380، 381، 400، 173.

[6]ـالبحر المورود 346 ،354 ،334 .

[7]ــالبحر المورود 346 ،354 ،334 .

[8]ـ السلوك جـ1/3/744: 745.

[9]ـ السلوك جـ3/2/770: 771

[10]ـ المنهل الصافى ج2/668.

[11]ـ تاريخ ابن اياس جـ2/256.

[12]ـ ـالطبقات الكبرى ج2/125.

[13]ـ لواقح الأنوار 217.

[14]ـ لطائف المنن 344

[15]لطائف المنن 344

[16]ـ. إنباء الغمر جـ3/365

[17]ـ الكواكب السيارة 234، 224.

[18]ـ إنباء الغمر جـ2/ 103 ، الضوء اللامع جـ4/305 .

[19]ـ إنباء الغمر جـ2/ 103 ، الضوء اللامع جـ4/305 .

 

اجمالي القراءات 10373