الفصل الثانى : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية
ج3 / ف 2 : التصوف والحشيش :

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٨ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثانى : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية .

(  الصوفية واكتشاف الحشيش ، ضرورة الحشيش للصوفية ، تشريع الحشيش ، أشهر الصوفية  

      الحشاشين فى المصادر التاريخية ، الصوفية موزعو الحشيش فى المصادر الصوفية. )

الصوفية واكتشاف الحشيش :

 1     ــ  ارتبط اكتشاف الحشيش بالصوفية الحيدرية أتباع الشيخ حيدر الذى نسبت إليه الحشيشة ، وتحت عنوان " ذكر حشيشة الفقراء " يذكر المقريزى أن مكتشف الحشيش هو الشيخ حيدر ، وأنها شاعت فى خراسان ثم باقى البلاد عن طريق أتباعه والصوفية الآخرين ، وقيل أن أهل خراسان نسبوا اكتشافها للشيخ حيدر لاشتهار أصحابه بها.[1] . ويذكر صاحب "أحكام الحشيش" أن الحشيشة كانت تسمى بالحيدرية وبالقلندرية، وكان ظهورها على يد الشيخ حيدر فى سنة 505 تقريبا ولهذا سميت حيدرية ، وقيل ظهرت على يد الشيخ أحمد الشارجى القلندرى ولهذا سميت قلندرية " ولم يتكلم فيها الأئمة الأربعة وغيرهم لأنها لم تكن فى زمنهم ( وإنما انتشرت منذ المائة السادسة والسابعة)[2] . أى مع انتشار التصوف .  وفى القرن السادس كان ابن الجوزى يتحدث عن إدمان الصوفية فى عصره للحشيش باعتباره شيئا جديدا غير معروف ، يقول( وقد أبدلوا إزالة العقل بالخمر بشىء سموه الحشيش المعجون).[3]

ضرورة الحشيش للصوفية :

1 ــ وكلمة ابن الجوزى تشير إلى ضرورة الحشيش للصوفية ، فالتصوف دين يعادى العقل ويعمل على إخضاعه ليصدق أساطير الأشياخ ولا يتمرد عليهم بالاعتراض أو النقد ، ومن سمات الحشيش أنه مخدر ينقل صاحبه إلى جنة وهمية ، تتداخل فيها الحقائق مع الخيالات والواقع مع الوهم ، وتختلط فيه حالة الإنسان بين اليقظة والمنام ، إلى جانب الاسترخاء والتواكل والانسجام وحياة اللحظة ومتعة الوقت ، مما جعل مخدر الحشيش وسيلة صوفية للتعامل مع الحياة والعقل الإنسانى.

  2 ــ  وقد سألت بنفسى أحد المثقفين المدمنين للحشيش عن شعوره وقت تناوله فأجاب عن تجربته الشخصية بأنها( تثاقل الأنفاس ، دوخة خفيفة ، اهتزاز النظرات ، شعور تام بالإنسجام والراحة نسيان للواقع الشعور بسمو الذات ، الصفاء الذهنى وقتها والحضور والجرأة ، جفاف الحلق الإحساس بطول الوقت والمسافة ، التثاقل دون أى مجهود ، الكسل التام لمدة 48 ساعة)، وقد حرصت على نقل أفكاره كما هى على مايبدو فيها من بعض التناقض ، وعدم الترتيب واختلاط الأعراض الجسدية بالنفسية والعصبية . ومايريده التصوف من دنيا الحشيش هو الشعور التام بالإنسجام والراحة ونسيان الواقع وسمو الذات والتثاقل والكسل .

 3 ــ وقد نقل أحمد أمين تجربة " حشاش آخر" فقال : شعرت كأن جدران الكون انبسطت حولى ، وصدرت منه أصوات مطربة أزالت مافى نفسى من هم وخوف ، وفتح أمامى فردوس النعيم وخضت فى بحر من البهجة والسرور وطفح الحب على نفسى[4].   وهذه هى الصورة المثلى التى يتمناها الصوفى.

  4 ــ  وابن دانيال فى بابته( طيف الخيال) يقول على لسان أحد أبطال شخوصه عن الحشيش فى بداية العصر المملوكى ( الذين عرفوا سر الحشيش لأنهم ذاقوا بها لذة الكسل وهربوا من تعب العمل ، وزعموا أنها تفعل فى معدة الممعود فعل القرص فى الجلود .. فأكلوها فى الأسواق والمشاهد وهاموا فى طلب الرقص والمشاهد[5]. .. وواضح أنهم صوفية ، فالسمات كلها صوفية من الكسل والبطالة والمزاعم والرقص والمشاهد.

تشريع الحشيش:

 1 ــ   الحشيش اكتشاف صوفى فى عصر أغلق فيه باب الإجتهاد وسيطر فيه الصوفية فلابد أن يقوموا بتشريعه ، خصوصا وقد توقف كثير من الفقهاء ــ فى البداية ــ عن الإجتهاد بشأنه مما أتاح له فرصة الإنتشار ، يقول الفقيه السُّنى الزركشى فى القرن التاسع وقد ألف رسالة فى تحريم الحشيش: ( وبعد فهذه فصول فى الكلام على الحشيشة ، اقتضى الحال إلى شرحها لعموم البلوى كثيرا من السفلة بها، وتوقف كثير من الناس فى حكمها )[6].  ومعنى ذلك أن المجال ظل مفتوحا للصوفية حتى القرن التاسع لكى يصدروا الفتاوى بتشريع الحشيش دون أن يردعليهم أحد الفقهاء ، قبل أن يؤلف الزركشى رسالته ( أحكام الحشيش ) فى الرد عليهم .

  2 ــ  ومنذ البداية اشتهر بعض الأشياخ الصوفية بأنه كان يفتى بأكل الحشيش[7].

ثم ألف الشيخ علم الدين بن الصاحب قصيدته المشهورة التى يقول فيها :

               فـى خمـار الحشيش مـعنى مرامـى             ياأهيــل العقــول والأفهــام

              حـرمـوها مـن غــير عـقل ونـقل            وحـرام تـحريم غيـر الحـرام[8]

          فهو يهاجم مقدما من يحرمها لأنه يفتقر الدليل العقلى والنقلى ، ويفتى بأن من الحرام أن تحرم الحلال .

وعلى نفس النسق يقول ابن الأعمى الدمشقى :

              ولانص فى تحريمها عند مالك              ولا حدّ عند الشافعى وأحمد

              ولا أثبت النعمان تنجيس عينها              فخذها بحد المشرق المهند

وفى بداية قصيدته يقول ينسب الحشيش إلى لقبه المشهور ومكتشفه :

دع الخمر واشرب من مدامة حيدر           معنبرة خضراء مثل الزبرجد[9]

أشهر الصوفية الحشاشين فى المصادر التاريخية :

  1 ــ  وقبيل العصر المملوكى كان ابن عربى متهما بأكل الحشيش [10].

إلا أن أشهر مدمن كان فى القرن السابع كان الشيخ علم الدين ابن الصاحب وهو القائل فيها :

              يانفس مــــيلى إلى التـصـابى                فـاللــهو منه الفـــتى يعــــيش

              ولاتمــلـى مـن  سـكـر يـوم                إن أعــوز الخـمــر فالحشـــيش

       وقد كان ابن الصاحب فقيرا صوفيا مجردا قيل فيه ( أتلفه أكل الحشيش ) [11].

2 ــ وقيل فى الشيخ محمد بن محمود الصوفى ت 822 أنه كان متهما بحشيشة الفقراء[12].

3 ــ وفى نفس القرن التاسع كان الشيخ بكير الحنفى ت 847 قد ركب هواه واشتغل بما يزيل العقل ، يقول عنه السخاوى ( حتى بلغنى أنه كان يجتمع مع اليهود على مالا يرضى الله ، وآل أمره إلى أن باع كتبه وغيرها بحيث أصبح فقيرا ، وألجأه الفقر والتهتك إلى أن سافر إلى بلاد الروم )[13]

4 ــ ومن موسوعة ( الوافى بالوفيات ) الابن أيبك الصفدى نكتفى بهذه الأمثلة لشخصيات عاصرها المؤرخ  :

الشيخ ابن العماد المقدسى ( 608 – 688 ) كان له أتباع ومريدون ، وللناس فيه عقيدة ، إلا إنه كان يأكل عُشبة الفقراء فيما قيل ، ويقول : هى لُقيمة الذكر والفكر )( الوافى 6 / 218 : 219 )

الشيخ احمد بن ابراهيم ( 660 – 710 ) ( حصل له خبل من الحشيشة ) ( الوافى 6 / 223 )

وقال الوحيد الكاتب ت 711 فى تفضيل الحشيش على الخمر

وخضراء لا الحمراء تفعل فعلها   لها وثبات فى الحشا وثبات

تؤجج نارا فى الحشا وهى جنة  وتبدى مرير الطعم وهى نبات ( الوافى 3 / 151 )

ويقول الشيخ على ابن المظفر ت 716

إن الحشيش خضرة  أنيقة ومسكر

فى الكف روض اخضر والعين خمر احمر ( الوافى 22 / 213 ).

ودخل الشيخ ناصر الدين القرندى ( القلندرى ) مباراة فى شرب الحشيش مع منافس له ، وانتهت بموت منافسه ( الوافى 2 / 256 : 257 ) .

 5 ــ   وأصبح الحشيش من مفردات الانحلال الخلقى ومستلزمات الدين الصوفى ، فيقول بعض الصوفية

( ونعتذر عن إثبات النص كما هو )

                 لو قـال لى خـــالقى تمنى              قلت له ســـــائلا بصـــــدق

                 أريـد فى صــبح كل يــوم              فُـــتـوح خــيــر يأتى بـرزق

                  كفُّ حــشـيش ورطل لحم              ومنّ خــبــز ونيك علــق                                            

        الصوفية موزعو الحشيش فى المصادر الصوفية :     

 1 ــ كانت الكرامات كالعادة هى طريقة الصوفية فى ستر انحلالهم الخلقى ،ومنه تناول الحشيش وبيعه ، ويبدو ذلك فى ترجمة الشريف المجذوب فى طبقات الشعرانى ، يقول فيه ( وكان له كشف ومثاقلات للناس الذين ينكرون عليه ، وكان رضى الله عنه يأكل فى نهار رمضان ويقول أنا معتوق أعتقنى ربى ، وكان كل من أنكر عليه يعطيه فى الحال .. وكان رضى الله عنه يتظاهر ببيع الحشيش، فوجدوها يوما حلاوة )[14].  وهكذا تحول بيع الشريف المجذوب للحشيش إلى مجرد تظاهر، وتحول الحشيش على يده إلى حلاوة، أى (أنه كان يغش فى الصنف ).

 2 ــ  ويكرر الشعرانى نفس الأسطورة ونفس التعليل فى ترجمته للشيخ أبوبكر الدقدوسى ( وكان له صاحب) من الأولياء يصنع الحشيش بباب اللوق ، ( فكان الشيخ رضى الله عنه يرسل له أصحاب الحوائج فيقضيها لهم) أى كان ذلك الحشاش من أصحاب التصريف والحملات ( قال سيدى عثمان رضى الله عنه فسألته يوما عن ذلك ، وقلت المعصية تخالف طريق الولاية ،فقال ياولد ليس هذا من أهل المعاصى ، إنما هو جالس يتوب الناس فى صورة بيع الحشيش ، فكل من اشترى منه لايعود يبلعها أبدا) [15]. أى الذى يبلع الحشيش من الشيخ الدقدوسى يتوب بسرعة . ومع ذلك فالزبائن يتهافتون عليه يشترون منه فكيف كانت نوعية توبتهم ؟

 3 ـ  وحتى يرهب الشعرانى الفقهاء فى عصره من الاعترا ض على الأولياء الصوفية مدمنى الحشيش فقد هددهم بسلب العلم ـ وهى كرامة صوفية كان شائعا الاعتقاد فيها فى العصر المملوكى . والشعرانى اخترع هذه الحكاية يقول: ( روى عن شيخ الإسلام صالح البلقينى أن والده الشيخ سراج الدين مر باب اللوق فوجد هناك زحمة ، فسأل عنها ، فقالوا : شخص من أولياء الله يبيع الحشيش ، فقال لو خرج الدَجال حينئذ فى مصر لاعتقدوه من شدة جهلهم ، كيف يكون شخص حشاش من أولياء الله ، إنما هو من الحرافيش . ثم ولى، فسلب الشيخ جميع مامعه حتى الفاتحة ، فتنكرت عليه أحواله ، وصارت الفتاوى تأتى إليه فلا يعرف شيئا ، ونسى ما قال فى حق الحشاش ، فمكث كذلك فى مدرسته بحارة بهاء الدين ثلاثة أيام ، فدخل عليه فقير فشكى إليه حاله ، فقال : هذا من الحشاش الذى أنكرت عليه ، فإن الفقراء أجلسوه هناك يتوب الناس عن أكل الحشيش ، فلا يأخذها أحد من يده ويعود إلى أكلها أبدا حتى يموت ، فأرسل إليه يرد عليك حالك ، فأرسل إليه فبمجرد ماأقبل الرسول أنشده الشيخ شعرا ، وقال لو كنا عصاة نبيع الحشيش ماأقدرنا الله على سلب شيخ الإسلام ، ثم قال له سلم على شيخ الإسلام، وقل له أعمل أربعة خراف معاليف شواء وأربعمائة رغيف وتعالى اجلس عندى ، وكل من بعته قطعة حشيش زن له  رطلا واعطه رغيفا ، فشق ذلك على شيخ الإسلام ، فما زال به أصحابه ، حتى فعل ذلك، وصار يزن لكل واحد الرطل ويعطه الرغيف والشيخ يبتسم ، ويقول نحن نحليهم فى الباطن وأنت تحليهم فى الظاهر ، إلى أن فرغ الخرفان ، ثم قال له اذهب إلى الديك الذى فوق سطح مدرستك فاذبحه وكل قلبه يرد عليك علمك ، فبالله عليك كيف تتكبر على المسلمين بعلم حمله الديك فى قلبه ، فمن ذلك اليوم ماأنكر الشيخ البلقينى على أحد من أرباب الأحوال ) [16].

وفى هذه الأسطورة المضحكة لم يتفضل علينا الشعرانى بإسم ذلك الشيخ الصوفى الحشاش الذى سلب علم شيخ الإسلام البلقينى ووضعه فى قلب ديك ، ولم يكن سراج الدين البلقينى من الخفاء بيحث يحدث له هذا الحادث الخطير المضحك دون أن يكتب ذلك فى مؤلفاته الكثيرة ، أو يكتب ذلك عنه أحد رفاقه وهم كثيرون فى عصره . ولكن الشعرانى بموهبته الفائقة فى الاختراع  رصّع هذه الحكاية كثيرا من التشويق والترهيب بحيث يجعل القارىء فى عصره يصدق أن وليا صوفيا مجهولا يتاجر فى الحشيش يرغم شيخ الإسلام البلقينى فى القرن التاسع على أن يجلس على " دكة" إلى جانبه وهو يبيع الحشيش.

أخيرا

 

 جاء فى جريدة ( اليوم السابع ) :الخميس، 27 أكتوبر 2011 خبر عن معركة المفتى وقتها والسلفية ـ  سببه أن المفتى وقتها قال إن الإمام ابن حجر العسقلانى كان يبيع الحشيش أمام الأزهر، فهبّ مرشح لحزب النور يصف كلامه بالإفتراء. ).

المفتى بكل ما يتمتع به من جهل صدّق أساطير الصوفية ، وردّ عليه السلفيون بجهل أكبر. . واعددت مقالا وقتها بعنوان ( تأصيل الأثر فى تبرئة ابن حجر من بيع الحشيش للبشر .. يا أيها  البقر ..!! ).

ثم لم أنشره لأنه لا فائدة من تعليم البقر. !! 



[1]
ـ الخطط ج 2/ 516، 518.

[2] ـ الزركشى أحكام الحشيش مخطوط 154.

[3] ـ تلبيس إبليس 362.

[4] ـ قاموس العادات والتقاليد170.

[5]ـ ابن دانيال طيف الخيال 149 تحقيق ابراهيم حمادة.

[6] ـ أحكام الحشيش 154.

[7] ـ شذرات الذهب ج 7/40 .

[8] ـ النجوم الزاهرة ج 7 /380.

[9] ـ الخطط ج 2 /517: 518

[10] ـ  البقاعى تنبيه الغبى 182

[11]ـ الصفدى عيون التواريخ . مخطوط ج 3/ 8. النجوم الزاهرة ج 7 / 380.

[12] ـ السلوك 4 /1 /514 .

[13] ـ السخاوى التبر المسبوك 78.

[14] ـ الطبقات الكبرى ج 2 / 135.

[15] ـالطبقات الكبرى ج 2 /96.

[16] ـ لواقح الأنوار 100، 101.

اجمالي القراءات 20341