لقد خلط معظم الناس خلطا كبيرا بين الوحي وبين النبوة وبين الرسالة، فنشأت عن ذلك الخلط عقائد فاسدة اجتاحت عقول المسلمين فأرجعتهم للجاهلية الفكرية مرة أخرى، وقد جاء الخلط بين المعاني الأصلية للمصطلحات الثلاث نتيجة لغفلة الناس عن تبين كلام الله من أصل اللسان الذي نزل به، وهو لسان قوم الرسول. ولجاءوا إلى رجال الدين والمذاهب وإلى الفلسفات الوثنية، فكانت النتيجة السقوط إلى عمق الهاوية. وإن من المعلوم للقاصي والداني أن الكلمة في اللسان العربي لها أصل واحد، أو أكثر من أصل، وذلك حسب استعمال قوم الرسول للكلمة، إلا أن معظم الناس يحملون أكثر من كلمة على معنى واحد، مما يخرج ببعض الكلمات عن معناها الأصلي الذي اصطلح وتواضع عليه قوم الرسول في كلامهم، ونتيجة لذلك يضيع المعنى الأصلي، وتختلط المفاهيم، وتتشابه المعاني، وتنهار الحقيقة. وهذا ما حدث مع كل من كلمة الوحي وكلمة النبي وكلمة الرسول. ونتج عن ذلك أفكار فاسدة وعقائد منحرفة، أوقعت معظم الناس في مآزق فكرية مختلفة ومتناقضة، حول الفرق بين الوحي وبين النبوة وبين الرسالة.
# النبوة والرسالة :
# أولا النبوة والنبي:يعتقد البعض خطئا، أن المعنى الحقيقي والأصلي للنبوة هو نوع من العلم والحكمة يوحي الله به إلى شخص من عباده، وأيضا يعتقد البعض خطئا أن النبي ليس برسول، بل هو شخص من الناس أوحى الله إليه، ولم يأمره بتبليغ ذلك إلى الناس، وأيضا يعتقد البعض خطئا أن كلمتي: النبوة، والنبي، أتتا من كلمة النبأ، التي هي بمعنى الخبر. هذه الاعتقادات ليست صحيحة على الإطلاق، بل هي لغو وخلط في أصل معاني الكلمات، فالبعض يخلط بين النبوءة بالهمزة قبل آخرها، وبين النبوة بدون همزة قبل آخرها، إذ لكل كلمة من هاتين الكلمتين في اللسان العربي، أصل ومعنى مغاير تماما للكلمة الأخرى، بمعنى أن كلمة النبوة التي بلا همزة قبل التاء المربوطة، لها أصل ومعنى في لسان العرب الذي نزل به القرآن، يختلف تماما عن معنى كلمة النبوءة التي بها همزة قبل التاء المربوطة، وقد فرق القرآن بين الكلمتين كذلك. والفرق بين أصل الكلمتين، ذكره بن فارس في معجم مقاييس اللغة على النحو التالي: النبوة بدون همزة جاء أصل معناه في اللسان العربي كالتالي: النون والباء والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع في الشيء عن غيره أو تنح عنه. ومن هذا المعنى الأصلي لكلمة النبوة، نتبين أن النبوة رفعة في منزلة النبي على بقية الناس، وهي ليست وظيفة، وليست في ذاتها وحيا، كما يظن كثير من الناس. إذن معنى النبوة في أصل اللسان العربي هي رفعة لشخص ما، أما النبوات التي أشار إليها القرآن الكريم فهي رفعة لشأن أشخاص لم يبلغوا هذه المنزلة إلا بعلم وحكمة أوحى الله بها إليهم، فلذلك هم يختلفون عن سائر الناس الذين لهم رفعة في الشأن سببها المال أو الجاه أو السلطان، لأن السبب الوحيد في رفعتهم هو الله وليس أي شيء آخر، ولذلك نسبهم الله إليه، وسماهم أنبياء الله، قال تعالى: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(البقرة- 91).
أما الوحي الذي هو العلم والحكمة، فقد أوحى الله به إلى كل الأنبياء والمرسلين بلا استثناء، أما ما يعتقده كثير من الناس خطئا أن هناك أنبياء ليسوا برسل، أو أن هناك رسلا ليسوا بأنبياء، فهو اعتقاد غير صحيح، فإن كل نبي لابد وأن يكون رسولا، وكل رسول لابد وأن يكون نبيا، وبناءً عليه فإن كل نبي هو رسول، وكل رسول هو نبي، ولا يوجد إطلاقا وحسب نصوص القرآن نبي ليس برسول، ولا يوجد إطلاقا وحسب نصوص القرآن رسول ليس بنبي. ومن هنا لابد أن نفرق بين كل من النبوة والرسالة، فالنبوة هي رفعة ومنزلة سامية يرقى بها الشخص الموصوف بها على جميع الناس، أما الرسالة فهي وظيفة يقوم من خلالها النبي أو الشخص المرسل بتبليغ رسالة الله وعلمه وحكمته إلى الناس. وهنا يطرح سؤال هام وهو: كيف خلط كثير من الناس بين النبوة التي هي رفعة في المنزلة وبين الرسالة التي هي وظيفة؟، ولماذا ادعى البعض أن النبي من الممكن أن لا يكون رسولا، والعكس؟؟. للجواب على هذا السؤال أقول: لقد خلط الناس بين النبوة والرسالة، أولا: بسبب تجاوز الناس للمعاني الأصلية لكلمة النبوة والرسالة.
ثانيا: عدم معرفة كثير من الناس بحقيقتين هامتين وردتا في القرآن الكريم، الأولى: أن الله يهب النبوة لأناس ابتداءً، وبعد أن تكتمل نبوتهم يختارهم الله رسلا فيما بعد. الثانية: أن الله يختار ويصطفي بعض الناس الذين ليسوا بأنبياء وإنما هم أناس عاديون، يختارهم الله ويكلفهم بالرسالة، ثم يهبهم النبوة بعد تكليفهم بالرسالة. وبعبارة أخرى، إن من الأشخاص من وهبه الله النبوة أولا، وبعدها بفترة كلفه بالرسالة، بمعنى أنه أصبح نبيا أولا ثم رسولا ثانيا، وإن من الأشخاص من كلفه الله بالرسالة أولا، ثم وهبه النبوة بعد تكليفه بالرسالة، بمعنى أنه تم تكليفه بالرسالة ثم اكتسب النبوة بعد ذلك. وخلاصة ما تقدم أن الأنبياء هم رسل، وأن الرسل هم أنبياء، والفرق بينهما أن النبي هو من جاءته النبوة هبة من الله وفضلا منه سبحانه قبل الرسالة، أما الرسول فقد اكتسب النبوة بعد الرسالة وبعد إيمانه بها وصبره وثباته عليها. إذن النبي جاءته النبوة هبة من الله وفضلا ودون جهد منه، أما الرسول فقد اكتسب النبوة بفضل إيمانه بالرسالة وصبره وثباته عليها. إذن كان وحي الله مع الأنبياء والرسل على حالين مختلفين، هما: # الحال الأولى: حالة النبي، وهو الشخص الذي اصطفاه الله لنبوته، فيأتيه الوحي على مرحلتين متعاقبتين ومنفصلتين عن بعضهما زمنيا، وحيا خاصا به هو، يأتيه بمفرده ليحظى بنبوة الله أولا، ثم يأتيه وحيا آخر ليبلغه للناس بعد أن أصبح نبيا لله، فالوحي الأول رسالة خاصة منفردة يهبها الله للشخص الذي اصطفاه ابتداءً حتى يصبح نبيا، وبعد أن ينال منزلة النبوة يكلفه الله بعد ذلك برسالة أخرى ليبلغها للناس، فيصبح في هذه الحالة نبيا أولا، ثم يختاره الله ويصطفيه بعد ذلك رسولا لتبليغ رسالة الله إلى الناس.
وهاهي نصوص القرآن التي تؤكد ذلك على النحو التالي: من أوضح النصوص القرآنية التي تؤكد على أن الله أرسل للناس أناسا كانوا أنبياء قبل الرسالة، وأيضا أرسل رسلا لم يكنوا بأنبياء قبل الرسالة، بل كانوا رجالا عاديين اصطفاهم الله لرسالته، كان ذلك النص التالي: قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) (الحج- 52). إذن نصت هذه الآية على أن الله أرسل للناس أنبياء، وأرسل لهم رسلا لم يكونوا أنبياء، وإنما وهبهم الله النبوة بعد ذلك. ويؤكد ذلك أيضا ما جاء في الآية التالية، فإنها تخبرنا بأن الله أرسل أنبياء في الأولين ولم يقل رسلا، وذكر أن الشخص الذي أتاهم كان نبيا ولم يكن رسولا، بمعنى أنهم كانوا أنبياء ثم أرسلهم الله، قال تعالى: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون). (6: 7 الزخرف). والآية التالية تنص على أن الله بعث في بادئ الأمر نبيين وليس مرسلين، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) البقرة – 213) وأيضا الآية التالية تنص على ذلك أيضا، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). (94- الأعراف). أما الآية التالية فتنص على أن الله أوحى إلى محمد، كما أوحي إلى نوح، ثم قال والنبيين من بعده أي من بعد نوح، ثم ذكر إبراهيم وبقية الأسماء، مع أنهم أيضا جاءوا من بعد نوح، ولكن الآية فصلت بينهم وبين النبيين الذي جاءوا من بعد نوح، لأن الذين جاءوا من بعد نوح ليسوا كلهم أنبياء بل فيهم رسل أمثال: إبراهيم وإسماعيل وعيسى وأيوب ويونس وهارون، وهؤلاء لم يكونوا أنبياء قبل مجيء الرسالة إليهم، بل جاءتهم النبوة بعد الرسالة، والأنبياء الوحيدين الذين ذكرتهم الآية هم: إسحاق ويعقوب وداود وسليمان، لأن رسالة التكليف جاءتهم بعد النبوة، وسوف نفصل ذلك بعد قليل عند حديثنا عن الرسل، قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). (163- النساء) والآية التالية تنص أيضا على أن إسحاق ابن إبراهيم وحفيده يعقوب كانوا أنبياء قبل أن يكلفوا بالرسالة، ولم يأت ذكر إسماعيل ابن إبراهيم الأكبر في نص الآية، وذلك لأن إسماعيل جاءته النبوة بعد الرسالة، ولم يكن نبيا قبل الرسالة كإسحاق ويعقوب، على ما سنبينه بعد قليل، قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا). (49- مريم). وفي آية أخرى، قال تعالى عن إسحاق، (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). (112- الصافات) ومن الذين كانوا أيضا أنبياء قبل التكليف بالرسالة هو النبي يحيي عليه السلام، قال تعالى: (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). (39- آل عمران) أما الآية التالية فتنص على أن الله يجيء بالنبيين يوم القيامة وليس بالرسل، قال تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). (69- الزمر). أما الرسل فسيجمعهم الله يوم القيامة كما قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ). (109- المائدة). أما الآية التالية فتنص على الكتاب الذي هو التكليف والرسالة وأنه يأتي بعد النبوة في بعض الأحيان، فجعل الله النبوة أولا، ثم الكتاب الذي هو التكليف ثانيا، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ). (26- الحديد). أما الآية التالية فتنص على أن الرسالة التكليفية التي كلف الله بها أنبياء بني إسرائيل بعد موسى هي الحكم بالتوراة، وقد جاءهم التكليف بأن يحكموا بالتوراة بعد أن أصبحوا أنبياء قال تعالى: (إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) (المائدة– 44). إذن نتبين من الآية السابقة أن أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كانت رسالتهم التي كلفهم الله بها هي: أن يحكموا بالتوراة بين اليهود والربانيين والأحبار، وتلك كانت رسالتهم. ونتبين أيضا أنهم كانوا أنبياء قبل أن يكلفهم الله بالحكم بالتوراة. ومما سبق نتبين أن الله أرسل أناسا كانوا أنبياء، ولم يكونوا أشخاصا عاديين، وبعد النبوة كلفهم الله برسالته إلى الناس، أما في الحالة الثانية وهي حالة الرسل، فقد بعث الله أشخاصا عاديين ولم يكونوا أنبياء، وبعد تلقيهم الرسالة وتصديقهم بها وهبهم الله النبوة، ومن هؤلاء الأشخاص الذين اصطفاهم الله رسلا إلى الناس ثم وهبهم النبوة كما جاء في القرآن الكريم هم: نوح وإبراهيم ولوط وهود وصالح وشعيب وإلياس وأيوب ويونس وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، إذن النبي هو من وهب النبوة قبل الرسالة، والرسول هو من اكتسب النبوة بعد الرسالة، ونفصل ذلك على النحو التالي: # أما الحال الثانية: وهي حالة الرسول، والرسول هو شخص عادي اختاره الله من الناس واصطفاه لرسالته، ولم يكن نبيا قبل ذلك، بل كلفه الله بتبليغ الرسالة أولا، ثم وهبه الله النبوة بعد ذلك بصبره وثباته على الحق، فأصبح نبيا بعد أن اصطفاه الله رسولا للناس. إذن الرسالة والرسول لهما معنى مغاير تماما لمعنى النبوة، فأصل كلمة الرسول والرسالة من رَسَلَ: الراء والسين واللام أصل واحد، يدل على انبعاث وامتداد. إذن معنى الرسالة هو انبعاث شيء من شيء وامتداده لشيء آخر، أما الرسول فهو من يحمل الشيء المنبعث ليمده إلى الطرف الآخر، ونذكر الآن بعض نصوص القرآن التي نصت على أن الرسل هم رجال عاديين من الناس يصطفيهم الله لرسالاته ثم إذا صبروا وثبتوا وهبهم الله النبوة، وذلك على النحو التالي: فكما سبق وأن قلنا أن من أوضح النصوص التي تؤكد على أن الله أرسل للناس أناسا كانوا أنبياء قبل الرسالة، وأيضا أرسل رسلا لم يكنوا أنبياء قبل الرسالة، بل كانوا أناسا عاديين اصطفاهم الله لرسالته، كان هو النص التالي: قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) (الحج- 52). إذن نصت هذه الآية على أن الله أرسل للناس أنبياء، وأرسل لهم رسلا لم يكونوا أنبياء، وإنما وهبهم الله النبوة بعد ذلك. والآيات التالية تنص على أن المرسلين الذين لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، هم آحاد الناس الذين اصطفاهم الله لرسالته، وهم رجال عاديون ولم يكونوا أنبياء، وقد كلفهم الله بالرسالة، ولما صبروا وآمنوا وثبتوا، وهبهم الله النبوة، وهؤلاء ذكرهم القرآن على النحو التالي: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى). (109- يوسف) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). (43- النحل). (أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (63- الأعراف). (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ). (2- يونس). (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). (31- الزخرف). إذن من الآيات السابقة نتبين أن الرسل قبل تكليفهم بالرسالة ما كانوا سوى رجال عاديين، اصطفاهم الله على الناس وكلفهم بالرسالة، ثم وهبهم النبوة بعد ذلك، وهؤلاء هم أولوا العزم من الرسل، وهؤلاء هم أعظم فضلا وأجرا من الأنبياء الذين وهبهم الله النبوة أولا ثم أرسلهم ثانيا، لأن أولي العزم من الرسل فوجئوا بالرسالة دون أي تمهيد مسبق، فحملوا عبء الرسالة، والإيمان بما جاء فيها، ثم الصبر والثبات وتحمل الأذى في سبيلها، فوهبهم الله النبوة بكسبهم واقتدارهم وجدارتهم وصبرهم وثباتهم ويقينهم، أما غيرهم من الأنبياء فقد نالوا النبوة هبة من الله وفضلا منه ومنة عليهم، دون أي جهد يذكر منهم كإسحاق ويعقوب ويوسف وذكريا ويحيي وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء الذين أنعم الله عليهم بالنبوة هبة منه سبحانه، أما الرسل فقال تعالى عنهم: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). (35- الأحقاف). وألوا العزم هم من الرسل فقط وليسوا من الأنبياء، وهم ليسوا خمسة رسل فقط كما يزعم البعض أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، بل إن أولوا العزم من الرسل هم جميع المرسلين الذين أرسلهم الله ثم اكتسبوا النبوة بإيمانهم وعزمهم وثباتهم وصبرهم على أقوامهم، ومن أولوا العزم الذين وردت قصصهم بالقرآن هم: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، ويونس، وإلياس، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام.
وفي الآيات التالية نلاحظ أن الله ذكر فيها: أنه أرسل المرسلين، ولم يقل النبيين، كالآيات التي سبق ذكرها عند الحديث عن النبوة، فقد ذكر هناك النبيين ولم يقل المرسلين، حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). (94- الأعراف). وقال: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون). (6: 7 الزخرف). أما هنا فذكر المرسلين، فقال: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (48- الأنعام). وقال أيضا في الآية التالية ما يأتيهم من رسول ولم يقل نبي، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ). (11- الحجر). إذن يوجد فرق واضح بين النبي والرسول. وقد نصت بعض آيات القرآن على أن الرسول يؤتيه الله الكتاب الذي هو الرسالة ويؤتيه الحكم أولا، ثم يهبه النبوة فيما بعد بالصبر والإيمان واليقين وهذه بعض النصوص التي تؤكد ذلك، قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ). (79- آل عمران). وأيضا الرسل الذين لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، فقد ذكر القرآن مجموعة كبيرة منهم، ونذكر منهم: نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، ويونس، وإلياس، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام، وأقدم للقارئ مجموعة من النصوص القرآنية التي تنص على أن هؤلاء الرسل لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، وذلك على النحو التالي: إبراهيم الذي صدق رسالة ربه ثم جعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا). (41- مريم). وإسماعيل كذلك، كان صادق الوعد فأرسله الله ثم جعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا). (54 مريم) وكذلك إدريس، صدق برسالة ربه فجعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا). (56- مريم). وموسى الذي أخلصه الله وجعله رسولا ثم نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا). (51- مريم) وقال عن موسى عليه السلام أيضا: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (21- الشعراء). وقال عن المسيح بن مريم عليه السلام أن الله آتاه الكتاب أولا ثم جعله نبيا بعدها، قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا). (30- مريم). وقال عن المسيح عليه السلام أيضا: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ). (75- المائدة). وقال عن إلياس عليه السلام: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ). (123- الصافات). وقال عن لوط عليه السلام: (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (133- الصافات). وقال عن يونس عليه السلام: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (139- الصافات). وقال عن نوح عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (106: 107- الشعراء) وقال عن هود عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (124، 125- الشعراء). وقال عن صالح عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (142، 143- الشعراء). وقال عن شعيب عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (177، 178- الشعراء). وقال عن محمد عليه الصلاة والسلام: (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (1: 3- يس) وقال عن محمد أيضا: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (252- البقرة). وختاما لما سبق نقول أنه لا نبوة بدون رسالة ولا رسالة بدون نبوة، فقد يكون الشخص نبيا قبل الرسالة، ثم يرسله الله، وقد يكون الشخص رجلا عاديا ثم يرسله الله، وعندما يوقن ويصبر يهبه الله النبوة، ثم أخبر القرآن أن محمدا هو رسول الله أولا ثم خاتم النبيين ثانيا، فلا نبي بعده ولا رسالة، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). (40- الأحزاب). إذن المعنى الحقيقي لكلمة النبوة وأصل معناها اللغوي هي رفعة المنزلة، وليست وظيفة كما يظن معظم الناس، ورفعة المنزلة إما أن ينالها الشخص بقدراته الشخصية، أو إمكاناته المادية، أما إن وهب الله رفعة المنزلة لشخص ما بعلمه سبحانه وحكمته ورسالته يصبح في هذه الحالة نبيا لله. وكما سبق وأن قلنا، قد ينال الشخص منزلة رفيعة بماله أو جاهه أو سلطانه أو قدرة تأثيره في الناس وسطوته عليهم، أما رفعة الله لشخص ما، فتلك النبوة لله، أي منزلة لا ينالها العبد من تلقاء نفسه بل يهبها الله له بالعلم والحكمة والرسالة الربانية، فيرتفع بها الشخص الموهوب إلى أعلى درجات السمو الإنساني، ويتنحى عن جميع مهاوي الانحطاط الإنساني، وهذا هو الفارق بين رفعة منزلة البشر المستمدة من قدرات الشخص نفسه أو قدراته المادية كالمال والجاه والسلطان، وبين نبوة ورفعة منزلة البشر المستمدة من الله بعلمه وحكمته ورسالته. # معنى النبوءة بالهمزة: أما النبوءة بالهمزة فهي من نبأ، ونبأ جاء أصل معناه كالتالي: النون والباء والهمزة قياسه الإتيان من مكان إلى مكان. ومن هذا القياس النبأ: بمعنى الخبر، لأنه يأتي من مكان إلى مكان. ومن همز كلمة النبي من القراء وجعلها النبيء، فقد جعله بمثابة المخبر عن الله. لكن كلمة النبي لم تأت بالهمز إطلاقا في القرآن، وقد ذكرت في بعض القراءات المزعومة والمسماة بالقراءات السبع، والتي تخالف خط المصحف الموجود بين أيدي المسلمين في العالم منذ وفاة الرسول وحتى الآن.
# الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين
: من الاعتقادات الخاطئة لدى الغالبية العظمى من الناس، أن الأنبياء والرسل قد خلقهم الله ليكونوا أنبياء ورسلا فقط، لا خيار لهم ولا إرادة في ذلك، أو بعبارة أخرى يعتقد معظم الناس أن الأنبياء والرسل قد برمجهم الله على الإيمان به وبرسالاته، أو قد أنزلهم الله من السماء، أو خلقهم على صورته، فلا يمكن أن يكونوا غير أنبياء ورسل، ولا يمكن أن يكونوا غير مؤمنين بالرسالات إيمانا راسخا لا يتزعزع، وأن الأنبياء والرسل لابد وحتما أن يؤمنوا بالرسالات فورا ودون تردد، ولا بد أن يمتثلوا للرسالات امتثالا أعمى دون تردد أو مناقشة. هذه كلها اعتقادات خاطئة، لأنها تجعل الأنبياء والرسل أناسا مسلوبي الإرادة، لا خيار لهم ولا مشيئة، وكأنهم دمى في يد الله يحركهم كيف شاء. هذه الاعتقادات الخاطئة والمنحرفة يعارضها القرآن الكريم جملة وتفصيلا، بل إن ما ورد في القرآن الكريم يثبت أن الأنبياء والرسل كانوا بشرا مخيرين، لهم إرادة حرة ومشيئة حرة، كانوا هكذا منذ أن جاءتهم النبوة والرسالة، وظلوا هكذا حتى اليوم الأخير من حياتهم، فنرى مثلا أن نوحا عليه السلام قد عاتبه الله حينما حاول أن يشفع لابنه الكافر، فرد الله عليه قائلا: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين). َ- 46) هود( وإبراهيم عليه السلام حين طلب من الله أن يريه كيف يحي الموتى ليطمئن قلبه، فأجابه الله إلى طلبه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (260- البقرة). وموسى عليه السلام حين طلب من الله أن يراه فرد الله عليه قائلا: لن تراني، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (143- الأعراف). بل إن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام كاد أن يفتن عن القرآن، ويركن إلى المشركين والوثنيين، لولا أن الله ثبته، قال تعالى: (َإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). (73: 75- الإسراء). بل لقد حذر الله الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام عدة مرات من الشك والمرية في القرآن وفي ضلال عبادة الأصنام، ففي المرة الأولى أمره إن كان يشك في ما أنزل إليه من قرآن فليسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبله، ثم حذره الله من أن يكون من الممترين، أي القاطعين لصلتهم بالله، وحذره ثانية أن يكون من الذين كذبوا بآيات الله، قال تعالى: (َإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ َتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). (94، 95 يونس). وفي آية أخرى نهى الله رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، عن المرية أي أن يختلط الأمر عليه في شأن القرآن، فقال تعالى: (َلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ). (17- هود). وفي آية أخرى حذر الله رسوله من أن يكون في مرية مما يعبد المشركون، أي لا يختلط عليك أمر عبادة غير الله، واختلاط الشيء على الإنسان بأن لا يعرف هل هو صواب أم خطأ، فقال الله له: (لاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ). (109- هود).
بل لقد نص القرآن على أن هناك نبي أو رسول أوحى الله إليه وآتاه الآيات، فكفر بها وانسلخ منها وأغواه الشيطان، فاتبع هواه وأخلد إلى الأرض، قال تعالى: (َاتْل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (175، 176- الأعراف). ونستخلص من كل هذا أن الأنبياء والرسل جميعا كانوا مخيرين، بين الخير والشر، بين الكفر والإيمان، بين الشك واليقين، بين الريبة والاطمئنان، ولم يكونوا بالصورة التي يتخيلهم عليها الناس، فالناس يتخيلون أن الله لم يختر للنبوة والرسالة إلا أناس قديسين أبرار وفي أعلى درجات الإيمان واليقين، كلا، بل اختار الله للنبوة والرسالة أناسا عاديين، مثلهم مثل بقية الناس، لكنهم لم يصلوا إلى أعلى قمم الإيمان واليقين والبر إلا بعد أن جاءهم الوحي من الله بالعلم والحكمة والآيات البينات، فآمنوا بها بعد شك وتردد وريب وعدم اطمئنان، فهم لم يصلوا إلى أعلى درجات الإيمان واليقين دفعة واحدة، بل أخذوا وقتا من بعد نزول الرسالة، حتى وصلوا إلى تلك المنزلة السامية من الإيمان واليقين، وإلا لماذا شفع نوح في ابنه الكافر بعد علمه بأنه مات كافرا؟؟، وقد عاتبه الله في ذلك، ولماذا طلب إبراهيم من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه؟؟، ولماذا طلب موسى من الله أن ينظر إليه؟؟، ولماذا حذر الله الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام من الشك والريبة في ما أنزل إليه من قرآن، بل إن الرسول كاد أن يفتنه المشركون عما أوحي إليه، بل كاد أن يركن إليهم لولا أن ثبته الله. بل لماذا كفر ذلك الرجل الذي أوحى الله إليه وأتاه الآيات البينات، فانسلخ منها وأغواه الشيطان، فاتبع هواه وأخلد إلى الأرض. # ثانيا: الوحي : الله لم يكلم أحدا ولم يكلمه أحد، لا من أنبيائه ورسله، ولا من الملائكة، وما كان لمخلوق أو نبي أو رسول أو ملاك من الملائكة أن يكلمه الله أو يكلم الله مباشرة أو مواجهة، فالله ليس بمتكلم وليس بأبكم، وبعبارة أخرى، إن الله لم يتواصل إطلاقا مع أي من خلقه بشرا كان أو ملكا من الملائكة تواصلا لغويا، وإنما إذا أراد الله أن يكلم أحدا من مخلوقاته أوحى إليه، إما وحيا إلى الشخص مباشرة، أو يبعث صوتا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا من الملائكة يوحي إليه، أو من البشر، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). (الشورى- 51). # مفهوم الوحي وصوره : الوحي ليس كما يظن كثير من الناس أنه الملاك جبريل الذي يهبط على الأنبياء والرسل بالرسالة الإلهية، فالملاك جبريل هو: رسول من الملائكة بين الله وبين الأنبياء والرسل وليس وحيا، أما لفظ الوحي كما جاء معناه في أصل لسان العرب هو: إلقاء علم في خفاء أو غيره إلى غيرك. (معجم مقاييس اللغة، بن فارس)، إذن معنى ومفهوم الوحي: هو إلقاء علم أو أي شيء إلى شخص آخر بصورة خفية، وهذا هو المعنى القرآني للوحي، إذن لم يكلم الله أحدا من خلقه إطلاقا، ولم يكلمه أحد من خلقه إطلاقا، وإنما أوحى الله برسالاته وعلمه إلى خلقه من الأنبياء والرسل، عن طريق إلقاء ذلك العلم أو تلك الرسالة في نفوس الأنبياء والرسل بصورة خفية، وقد يكون هذا الإلقاء للعلم أو الرسالة من الله مباشرة إلى نفوس الأنبياء والرسل، قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). (النساء- 163). وقد يكون الوحي عن طريق صوت غير مرئي وغير منظور يخرج من أحد الأشياء كالشجر والجبال، كما حدث لموسى عليه السلام حين ناداه الله من جانب جبل الطور ومن جانب الشجرة، قال تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (القصص- 30). وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا* وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا). (مريم- 51: 52). أو يكون عن طريق الملاك جبريل، حيث يوحي الله أيضا إلى نفس الملاك جبريل بعلم ما، فيقوم الملاك جبريل بإلقاء ما ألقاه الله إليه من وحي وعلم لإلقائه عن طريق الإيحاء وبصورة خفية كذلك إلى نفوس الأنبياء والرسل، قال تعالى: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء). (الشورى- 51). وقال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). (النحل- 102)، وقال تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ). (البقرة- 97).
وقد يأتي الملاك جبريل في صورة بشر كما في حالة مريم بنت عمران، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). (مريم- 17). هذا هو معنى ومفهوم وطبيعة الوحي كما نص عليها القرآن، أما ما يعتقده معظم الناس من أن الله يتكلم، أو له صوت، أو له كلام مسموع ومقروء، أو أن الأنبياء كلموا الله، أو كلمهم الله، أو أنهم رأوا جبريل وكلموه، أو كلمهم جبريل، أو أن الله كلم جبريل، أو كلمه جبريل، فكل هذا هراء ما أنزل الله به من سلطان، بل كل ذلك من تخاريف الجهلاء والسفهاء من الناس، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، إن المحصلة النهائية لعملية الوحي من الله إلى أنبيائه ورسله، هي عملية تحدث في الخفاء ولا يشعر بها سوى الأنبياء والرسل، وتحدث لهم ويعلمون بها حينما يشعرون بأنه قد ألقي في نفوسهم بعلم ما، أو رسالة ما، حول علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله، ويشعرون بأن هذه الرسالة تتضمن أيضا بعض الأحكام التي جاءت لضبط سلوكيات الناس بين بعضهم البعض، فمنعتهم من أشياء وأباحت لهم أشياء، وعرفتهم بأشياء لم يكنوا يعرفونها من قبل. فالأنبياء والرسل لم يكلمهم الله بذاته، ولم يكلموه بذاته، ولم يكلمهم جبريل بذاته ولم يكلموا جبريل بذاته، وإنما الذي حدث هو علم ألقاه الله في نفوس الأنبياء والرسل، إما إلقاء مباشر في نفوس الأنبياء والرسل، أو عن طريق صوت مسموع يخرج من أحد الأشياء، كأن يخرج من شجرة أو جبلا، أو يلقي الله العلم وحيا وبصورة خفية إلى نفس الملاك جبريل، فيلقيه جبريل وحيا أيضا وبصورة خفية في نفوس الأنبياء والرسل، دون صوت أو لغة أو كلام مسموع، إذن نستنتج مما سبق، أن الأنبياء والرسل لم يرو الله، ولم يكلموه، ولم يكلمهم الله، ولم يكلم الله جبريل، ولم يكلمه جبريل بصورة مباشرة، ولم يكلم جبريل الأنبياء والرسل بصورة مباشرة، وإنما الذي حدث في جميع الحالات كما قلنا هو الوحي أي العلم الذي يلقيه الله في نفوس أنبيائه ورسله في خفاء، أو يأتي في صورة صوت مسموع يخرج من أحد الأشياء، أو يلقيه الله في نفس جبريل بصورة خفية، فيلقيه جبريل في نفوس الأنبياء والرسل بصورة خفية كذلك. # الوحي إلى غير الأنبياء والرسل كما جاء في القرآن: يعتقد كثير من الناس خطئا أن الوحي الذي هو بعض علم الله قد اختص الله به الأنبياء والرسل من البشر فقط، بل إن الوحي بمفهومه ومعناه الذي سبق وأن بيناه لم يحدث للأنبياء والرسل فقط، بل لقد أوحى الله إلى بعض الناس الذين ليسوا بأنبياء ولا رسل، وأوحى للملائكة، وأوحى للحيوانات والجمادات كذلك، فقد ألقى الله ببعض علمه عن طريق الإيحاء لكثير من المخلوقات كما ورد في القرآن على النحو التالي: · الوحي إلى الملائكة: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ). (الأنفال- 12). · الوحي إلى أم موسى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (القصص- 7). · الوحي إلى مريم: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا). (مريم- 17). · الوحي إلى يوسف وهو طفل: أوحى الله إلى يوسف وهو طفل صغير حين ألقى به أخوته في الجب: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ). (يوسف- 15). · الوحي إلى حواريي عيسى بن مريم: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). (المائدة- 111). · الوحي إلى النحل: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ). (النحل- 68). · الوحي إلى السماوات: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). (فصلت- 12). · الوحي إلى الأرض: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا). (الزلزلة- 1: 5). # الوحي لم ينقطع : يعتقد كثير من الناس أن الوحي الذي هو علم الله وحكمته قد انقطع بانقطاع النبوة والرسالات، بل إن الذي انقطع هو وحي النبوة والرسالات، أما علم الله وحكمته فمازال مستمرا، يوحي الله به لكل الناس بلا استثناء، يوحي إلى مؤمنهم وكافرهم، ويظهر علم الله هذا ووحيه، في التنبؤات التي نتنبأ بها في أحلامنا ويقظتنا عن أشياء ستحدث في المستقبل، ثم نراها تحدث بالفعل، فجميعنا يرى في منامه أن قريبا له قد مات فيموت بالفعل بعد بفترة، وجميعنا يرى أشياء في منامه ويشعر بأشياء في يقظته، سواء كانت خيرا أم شرا، ثم نراها تتحقق أمام أعيننا كما رأيناها خفية في نفوسنا، سواء في نومنا أو يقظتنا، فكل ذلك من علم الله الذي يوحيه إلى الناس جميعا، لا فرق بين كافر بالله أو مؤمن به، فالجميع فيه سواء. (وللحديث بقية) Nehro_basem@hotmail.com