66 عاما ويوما واحدا .

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٢ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

الخروج على المعاش

أتممت أمس عامى السادس والستين . لو إستمررت فى جامعة الأزهر كنت سأخرج على المعاش العام الماضى ببلوغ الخامسة والستين . ولكن أحالونى الى المعاش من 28 عاما فى مارس 1987 ، بعد عمل فى الجامعة إستمر 15 عاما : معيدا فمدرسا مساعدا فمدرسا على وشك أن يكون استاذا مساعدا. أحالونى الى المعاش فى شبابى ، فكنت أصغر من دخل الأزهر طالبا ( 11 عاما ) وأصغر من خرج منه على المعاش (38 عاما ) . وكانت العادة فى جيلى أن يدخل الطالب التعليم الأزهرى فى نحو العشرين من العمر ، وأن يتخرج فى الجامعة وقد تعدى الثلاثين . الجريمة الكبرى التى وقعت فيها أننى إرتكبت جريمة الاجتهاد . ولا زلت أمارس هذه (الجريمة) حتى الآن ، مع إنهم أرادوا بإحالتى على المعاش أن أعتزل العلم وأتفرغ لطلب أسباب ( المعاش ) ، ولم يعرفوا أنهم وفروا لى تفرغا للبحث والكتابة مع العزم والتصميم على مواصلة العمل الذى أحبه . إختلفوا( الأزهريون والسلفيون الوهابيون) فى كل شىء ، ولكن إتفقوا مع السعوديين على محاربتى فى رزقى لأظل على حافة الجوع ، وعلى إعاشتى فى خوف بتسليط أجهزة أمن مبارك ترهبنى كل حين ، وتضع سيارة شرطة أمام مسكنى جاهزة لاعتقالى فى أى وقت ، ولم يدخروا وسعا فى إغتيالى معنويا بالاستمرار فى نشر الأكاذيب عنى ، وهم يملكون الاعلام والمساجد ، بينما لا أملك وقتها الا نشر مقال أسبوعى فى جريدة الأحرار ، ثم بسعيهم فقدت هذا المنبر أيضا .

راض بقسمتى ونصيبى

 فى جريدة الأحراروبتاريخ 30/11/1992 من 23 عاما ، وفى باب ( قال الراوي) وتحت عنوان : ( راض بقسمتي ونصيبي !) قلت:

·        حين يعجز خصومي في الرد على آرائي يبادرون بالهجوم على شخصي ويرددون عبارات  مثل " المفصول من جامعة الأزهر ". ، " منكر السنة " ،  "صاحب رشاد خليفة " وأراني مضطرا  للرد على تلك العبارات والاتهامات لأن من حق القاريء أن يعرف الحقيقة ، وحتى لا يطول سكوتي عن تلك الأكاذيب فيصدقها الناس :

·        أولا : ليس صحيحا أن جامعة الأزهر قد فصلتني بسبب إنكار السنة ، لقد أوقفوني عن العمل في 5/5/1985 حين أصدرت خمسة كتب في ذلك العام ، وأحالوني لمجلس التأديب ليس بتهمة إنكار السنة ولكن لأنني خرجت عن المنهج الدراسي وأنكرت العصمة المطلقة للأنبياء وأنكرت شفاعة النبي ، وتفضيل النبي محمد على الأنبياء ، وفي كتبي وفي التحقيقات التي أجروها معي تمسكت بموقفي في أن عصمة النبي بالوحي فقط وأنه لا شفاعة للنبي يوم القيامة وأن التفاضل بين الأنبياء مرجعه لله وحده وليس للبشر ، واستشهدت بأكثر من (150) آية قرآنية وبعض الأحاديث ، وعجزوا عن الرد ورفضوا الانصياع للحق فاستمروا في منعي عن العمل عامين ، قدمت استقالتي فرفضوها ، فرفعت عليهم قضية في مجلس الدولة لإرغامهم على قبول استقالتي ، وهي برقم وتاريخ (1250/ 41 ق) وقبل أن يصدر مجلس الدولة حكمه اضطروا لإصدار قرار الفصل في مارس 1987 . وحين صدر ذلك القرار كنت أنا الذي هجرتهم وفصلت نفسي عنهم بتقديم الاستقالة ورفع قضية ضدهم . وهي المرة الأولي في تاريخ هذه الجامعة أن يصمم أستاذ على الاستقالة تمسكا بآرائه ومعتقداته .وكان من الممكن أن أنافق أو أتراجع وهم يستعملون معي الترغيب والترهيب ، ولكنني تمسكت بالحق ورفضت الزيف في دين الله تعالى ، ومضيت في طريقي بعدها أكتب وأخطب في المساجد ، ومضوا هم في التآمر ضدي وتأليب السلطات الحكومية حتي أراحتهم الحكومة بوضعي في السجن بتهمة ملفقة اسمها " إنكار السنة " وحققت معي نيابة أمن الدولة العليا فلم تجد دليلا على ذلك الاتهام فأطلقوا سراحي في ديسمبر 1987.

·        ثانيا : وخرجت من السجن مفلسا  يائسا فاضطررت للاستجابة لإلحاح رشاد خليفة ولحقت به في أمريكا أعمل في المساجد التابعة له هناك ، كان رشاد خليفة من طنطا وكان يزور أهله فيها ، وكنت أخطب الجمعة في مساجد طنطا حيث كنت سكرتيرا عاما لإحدى الجمعيات السلفية التي لها فروع في الأقاليم ، وقد أحدث كتابي " السيد البدوي " ضجة ، وسمع عني رشاد خليفة فأخذ يراسلني ويبعث لي بالدعوات لزيارته هناك ، ولم استجب له حتى بعد أن منعني الأزهر من العمل وبعد أن استقلت ،ولكن دخولي السجن وخروجي منه مفلسا يائسا حتم على الخروج والهجرة ، وقد كانت في جواز سفري ثلاث تأشيرات لزيارة أمريكا ، انتهت منها اثنتان بدون استعمال ، وقاربت الثالثة والأخيرة على الانتهاء ، وبعد خروجي من السجن سافرت بتلك التأشيرة. وكانت المرة الأولى التي أسافر فيها خارج مصر . ولو كنت أريد أمريكا ورشاد خليفة لكنت سافرت قبل ذلك ، وقليل هم الذين يحصلون على تأشيرة إلى أمريكا ، ولكنني لم ألتفت للهجرة والسفر إلا بعد أن ضاقت بي الأرض. ومن الطبيعي أن رشاد خليفة كان يخطط للاستفادة مني مستغلا ظروفي ، فقد أكرمني وجعل لي شهرة هناك ولكنه في نفس الوقت احتفظ بأوراقي عنده وجعلني في قفص ذهبي ثم عمل على إحراق مراكب عودتي إلى مصر فأخذ يرسل إلى أجهزة الإعلام وإلى خصومي بما يثيرهم ضدي ، وفي ذلك كله استغل حاجتي إليه في الغربة وقلة حيلتي هناك وحرصي على أن يساعدني في استحضار أولادي . وفوجئت به يعلن نفسه رسولا ، وكان من الممكن أن أداهن وأوافق وأنافق خصوصا في موقفي الضعيف ، ولكنه فوجيء بي أرفض في ثورة ، وفوجئت به يخاف ، وبذلك أخذت أوراقي منه وتركت مسجده وأصبحت عدوه الأول هناك ، وأخذ أتباعه يتربصون بي فارتحلت إلي سان فرنسسكو . وتعرفت على أعداء رشاد خليفة الذين كانوا معه ثم خرجوا عليه حين ادعي دعوته الكاذبة ، وواصلت الهجوم عليه هناك . ثم لم أستطع مواصلة الحياة بعيدا عن أولادي ،فغامرت بالرجوع إلى وطني واستقبلتني أجهزة الأمن وقضيت ليلة في ضيافتهم واقتنعوا ببراءتي فأطلقوا سراحي . ولو أن واحدا من خصومي كان مع رشاد وتعرض لنفس الاختبار لسارع بموافقته ومنافقته وقاسمه الأرباح ، ولكن الإسلام عندي جهاد ومعاناة وليس تجارة وضحكا على الذقون . وأولئك الذين يثيرون قضية رشاد خليفة لم يسأل أحدهم نفسه: إذا كنت أنا راضيا عن رشاد فلماذا تركت النعيم الذي كان لديه ورضيت بالرجوع إلى الفقر في مصر ؟

·        ثالثا : إن كل ما حدث تؤيده الوثائق ، وبعون الله تعالى سيذكر التاريخ لي كيف تمسكت بما أعتبره حقا دون تنازل أو نفاق ،وكيف ارتضيت الاضطهاد لنفسي في سبيل أن يعرف الناس الحق ، والعادة أن الناس في الزمن الرديء يتطاولون على الشرفاء ويقدسون الأدعياء ، ومع أن الرد على كاتب صاحب رأي يكون بالرد على رأيه فإن خصومي في هذا الزمن الرديء لا يجيدون إلا الهجوم على شخصي ، ثم لا يجدون في تاريخي إلا ما يستحق الفخر فيحولونه بالأكاذيب إلى اتهامات . وأنا لم أعرض عليهم شخصي وإنما عرضت فكري ورأيي ، ولم أتاجر بمواقفي راجيا أن يكون ذلك في صحيفة أعمالي عند ربي ، ولكنهم يرغمونني على الدفاع عن نفسي وتوضيح الحق ، ويبدو أن هذه قسمتي في ذلك الزمن الرديء وأنا راض بقسمتي ونصيبي .. أنا أبحث وأفكر وهم يشتمون ويتآمرون .. وأقول لهم : " اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ") انتهى .

الحمد لله رب العالمين الذى أنجانا من القوم الظالمين

ظللت مع أهل القرآن أعانى من ظلمهم الى أن يسّر الله جل وعلا الهجرة واللجوء الى أمريكا فى اكتبوبر 2001 ، ولحقت بى زوجتى وأولادى خلال السنوات التالية إلى أن إجتمع شملنا فى 2006 . وأنشأنا موقع أهل القرآن والمركز العالمى للقرآن الكريم فى نفس العام .

·        أمس أُتُمُّمت السادسة والستين . فما الذى بقى من العمر ؟ إن العمر ليس شريطا من المطاط يمكن تطويله . إنه مُحدد بالثانية والدقيقة واليوم والشهر والعام . كل منا يحمله قطار الحياة من محطة الولادة الى محطة الوفاة . أحمد الله جل وعلا أن وفقنى الى إنجاز شىء ما خلال حياتى التى تقترب من الانتهاء. أذكر أننى لم أعرف معنى الأجازة . فى طفولتى وفى حياة والدى يرحمه الله جل وعلا والذى مات شابا فى ال الخامسة والأربعين ـ كنت وأنا فى الثامنة اعمل مساعدا له فى كُتّاب تحفيظ القرآن ، ولا أذكر متى تعلمت القراءة والكتابة . لقد جعلنى أتم حفظ القرآن وأنا فى السنة الثانية فى التعليم الابتدائى ، كنت أخرج من المدرسة الابتدائى ليس لألعب كبقية الأطفال ولكن لأعمل ( عرّيفا ) مع والدى. علمنى والدى يرحمه الله جل وعلا فى حياته القصيرة أن أكون جادا فى العمل . فى معظم مراحل الدراسة كنت أعمل لاكتساب الرزق ، وفى معظم مراحل الدراسة لم يٌعجبنى أستاذ ، ولم يجبنى مؤلف فى كتابه. الرؤية النقدية عندى هى السائدة. أقرأ المكتوب وأفهمه وأنتقده . كل هذا جعلنى أومن بأن القرآن الكريم يستحيل أن يؤلفه رجل عربى من قريش فى العصور الوسطى المتخلفة . ركعت ـ ولا أزال ـ للقرآن العظيم . وأرجو أن أظل ساجدا راكعا لرب العزة الذى أنزل القرآن الكريم بقلبى الى آخر لحظة فى هذه الحياة التى قاربت على النهاية. اللهم حمدا لك وشكرا بقدر ما لك من عظمة تفوق تخيل البشر.

·        منذ سنوات قررت الانقطاع عن حضور معظم الندوات فى واشنطن والإقلال من حضور الأمسيات المصرية مع الأصدقاء لأتفرغ للعمل فى الموقع كتابة ونشرا . ثم ، منذ شهور إكتشفت أننى لا زلت أواجه نفس المشكلة ، فأفكار بحثية جديدة فى القرآن الكريم والتراث جدّت ، وتحتاج تفرغا ، والمؤلفات القديمة ـ عربية وانجليزية ـ تحتاج للنشر كمقالات على الموقع ، وأبحاث قديمة تم نشر معظمها ولم تكتمل . ومقالات سياسية مؤجلة ومكتملة لا بد من نشرها . وبمراجعة وبحسبة تقريبية أدركت أنه لو توقفت عن التفكير فى ابحاث جديدة سأحتاج الى سبع سنوات لنشر ما سبقت الاشارة اليه . ومن المستحيل التوقف عن التفكير البحثى ، فمعايشة المادة العلمية فى القرآن والتراث تُولّد أفكارا بحثية جديدا تستوجب بحثها ، ولو أهملت تسجيلها سريعا أنساها سريعا . وحالما يتم تسجيلها لا بد من كتابة تصور مبدئى لها ، ثم كتابة بحث نبذة بحثية عنها ، وتظل هذه النبذة البحثة تصرخ طالبة المتابعة البحثية .وهناك العشرات من هذه الأفكار البحثية لا أجد وقتا لتنميتها .  قررت من شهور ــ  توفيرا للوقت ــ أن أحرم نفسى من جلسات الأنس مع أقرب الأصدقاء الذين أسعد يرؤيتهم ، وهم يتفضلون بزيارتى فى بيتى . وتقريبا قطعت صلتى بالجميع عدا رفيقة العمر وأبنائى الذين تحلو الحياة برؤيتهم . وأعيش الآن فى صحبة الكومبيوتر قارئا وكاتبا ، أو منقطعا عن متابعة ما يجرى منشغلا بالتفكير فى موضوع جديد ، أو أشاهد التليفزيون طلبا للنوم والراحة .

·        يؤرقنى أن أموت تاركا تلالا من الأبحاث التى لم تكتمل ، والمؤلفات التى لم يتم نشرها ، والأفكار البحثية التى لم يتم بلورتها  . ثم اقول لنفسى : سبحانه وتعالى الذى حدّد موعد موتى ، وسبحانه وتعالى الذى لا يكلف نفسا إلا وسعها . عسى بهذا أكون قد قدمت عذرا لمن يهمه الأمر من القُرّاء والأصدقاء .

وقديما قالها ابو الطيب المتنبى

ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله   وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم

ما أسعد شيوخ الجهل السلفيين .هم فى جهلهم يعمهون وينعمون ، يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم . 

اجمالي القراءات 8808