البخاري عدو النبي (3)

سامح عسكر في الجمعة ١٣ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

في زمن الدولة العباسية –زمن تدوين الأحاديث في القرن الثالث-لم يكن هناك فكر بالمعنى المعروف الذي يبحث في قضايا الإنسان والطبيعة والأخلاق....عدا محاولات ضعيفة من الجاحظ وإخوان الصفا وغيرهم لتقريب الفجوة بين العلم والدين، انتشر على إثرها نوع معين من الفكر يُعالج بعض الفجوات الدينية في أصل العقائد، ومن تلك الفجوات خرجت المعتزلة والقدرية وأهل الرأي بالعموم، وبعد وفاة المأمون المعتزلي عام 218 هـ تشجّع خصوم أهل الرأي ونشطوا حتى جاء المتوكل العباسي (ت248هـ) الذي أمر بتدوين الحديث والتوسع في نشره.

والمتوكل من حينها خليفة مقدس في الفكر السلفي، هو الذي أمر بالعفو عن إمامهم ابن حنبل، وهو الذي أمر بتدوين الحديث واختلط بالبخاري وعائلة ابن أبي شيبة وابن حنبل، وروي في عهده مسند الطيالسي وغيره، وكل هذه كتب حديث ومؤلفيها مجرد أجهزة كمبيوتر يحفظون ولا يُفكرون، بل كان التفكير في زمنهم لا يجوز لبدعة القول بالرأي التي ابتكرها الشافعي بقوله أن السنة/الحديث هو المصدر الثاني للتشريع، أي لا دور للعقل في كشف أو فهم الأحكام سوى في هذين المصدرين،وأن الحديث-على الاختلاف فيه-يُساوي القرآن في المَكانة، وبالتالي فالرأي /العقل هو مشاغبة مقصود بها التضليل وزيغ الناس عن سنة نبيهم.

وإذا قلنا أجهزة كمبيوتر يظهر لنا شخص يسهل عليه الكذب أو خداعه، لأن العديد من هؤلاء المحدثين والرواة كانوا يُحسنون النية، وفي ظنهم أن ما ينقلونه عن النبي هو طوق نجاة للأمة، بالضبط كما ترى داعش الآن خلافتها هي المُنجية من الهلاك ثم يُصدمون أنهم قتلوا أنفسهم على الصغائر..وما كان قتلهم لأنفسهم إلا جهلهم بأبسط قواعد وبديهيات السياسة.

أصبح قول الشافعي مفرغاً من معناه ، من ناحية ظنه أن النقل بمجرد السند يُوجب الصدق وهو ظن لم يثبت بعد ذلك بدليل اختلاف المحدثين حول الرواة وطعنهم في كتب بعض ونشوء علم الجرح والتعديل، ومن ناحية أخرى ظنهم أن النبي له الحق في التشريع فوق القرآن، وإهمالهم مسائل النسبة والتناسب كنتيجة طبيعية لإهمالهم العقل، فلولا الرأي الذي قال به أبي حنيفة وأساطين المعتزلة ما ظهر القياس كدليل شرعي-مثلاً- يرى نسبة وتناسب، لأن العقل السائد في هذا العصر لم يبلغ مراد النص وجعله مهيمناً حتى على الواقع كي يروا القياس..ومن هذا العقل ظهرت فرق الظاهرية تُجادل أهل الحديث فردّ عليهم أهل الحديث بالتأويل لعلاج أخطائهم بالأمس.

نفس الأمر حدث مع الجدل الفارغ حول طبيعة القرآن، فرقة قالت أنه قديم وأخرى قالت حديث/مخلوق، فانتصر من قالوا بقدم القرآن بقرار سياسي من الخليفة المتوكل، وعندما واجهتهم مشاكل بعد ذلك في تعارض آيات القرآن كتبوا في علوم القرآن للرد، ومن تلك العلوم ظهرت أكذوبة.."الناسخ والمنسوخ"..كعلاج أزلي ووحيد على هذا التعارض، ولم يكفهم ذلك بل لجأوا للتأويل وأفرطوا فيه حتى جعلوا فهم النص القرآني مقيداً بحديث راوي كذاب، فلا يحق لك أن تفهم القرآن إلا بأكاذيب ذلك الراوي المعتمدة لديهم، ومن هذا المنهج المتخبط ظهرت مشاكل في المنهج برمته تجلّت واضحة في شروح البخاري ومسلم بعد عشرات ومئات السنين، وقد تكون لنا وقفة مع هذه المشاكل في دراساتٍ أخرى رغم أنني كتبت في هذه المسائل عدة مرات، ومن يُرد الاطلاع على هذه الكتابات فليعد إلى كتابي الأخير.."رسائل في التجديد والتنوير".

عاش المسلمون والعرب في ظلامٍ معرفي بدءاً من هذا الزمن-القرن الثالث-ولولا تفكك الدولة العباسية إلى عدة دويلات وزوال سلطان الخليفة ما رأينا نوابغ كابن سينا والمعري والفارابي وابن باجة وابن رشد والإدريسي وابن النفيس وابن الهيثم...وغيرهم ، فكل دولة خلقت سلطة معرفية مستقلة عن سلطة بغداد التابعة لأهل الحديث، حتى مع تشدد بعض هذه السلطات كالأيوبية والسلجوقية إلا أن استقلال هذه الدولة سمح بقدرٍ كبير من الحرية والتفكير خارج صندوق الموروث.

وعندما ورثنا هذا الظلام وحدثت لدينا صدمة الحداثة في القرن العشرين عاد الكذّابون بنوستالجيا تُعيد هذا الظلام إلى فرية البُعد عن دين الله وسنة رسوله، رغم أن الحضارة الغربية لم تقم على دين الله، بل قامت على العقل المكلف بكشف هذا الدين وفهم طبائع الأشياء، وبدلاً من الصدق وقول الحقيقة المُرّة أننا حاربنا مفكرينا وكفّرناهم وقتلناهم باسم الدين والسنة، كذبوا وقالوا أن النهضة حدثت بأولئك العلماء/الفقهاء الذين كتبوا في الحيض والنفاس والبراز أكثر مما كتبوا في علوم الإنسان والطبيعة، فقهاء قتلوا بعضهم والناس على ألفاظ وكلمات وأحقاد شخصية ولم يقتلوا أحد حين تعرضت أوطانهم للسلب والنهب.

ليس ذلك إيمانا مطلقاً بالحضارة الغربية، بل أنا ممن يعتقدون أن تلك الحضارة أجرمت في حق الإنسان والتاريخ أكثر من جرائم العرب والمسلمين في تاريخهم، التسامح الذي نادوا به هو الذي صنع القنبلة الذرية على اليابان، وقتل ملايين الفيتناميين وملايين أخرى في حربين همجيتين حصدت عشرات الملايين من البشر، وبفلسفة امبريالية وقحة تُجيز التدخل في شئون الغير لمصالح شخصية حتى لو أدى ذلك إلى قتل مئات الألوف في اليونان وجواتيمالا وأمريكا الجنوبية..فضلاً عن ملايين الضحايا الذين سقطوا للهمجية الغربية في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان.

إن ما فعله الغرب من جرائم لا يقل عن جرائم البخاري في حق الدين الإسلامي وتأسيسه نزعة وصائية امبريالية ترى الآخر شريراً دائماً، فعن طريق البخاري آمن المسلمون بجواز ارتكاب جرائم جماعية-مذبحة بني قريظة مثال-والتمثيل بالجثث-حرق الإمام علي للمرتدين مثال-بل شرّع البخاري الذبح في حق الخصوم حين روى حديثاً عن النبي يقول فيه أنه جاء لقريشٍ بالذبح، والحديث موجود في كتابه.."خلق أفعال العباد"..كالآتي:

"حدثني عياش بن الوليد الرقام، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: ما علمت قريشا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوما، فجاء أبو بكر رضي الله عنه , فاختطفه , ثم رفع صوته، فقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} [غافر: 28] الآية. فقال: «والذي نفسي بيده، لقد أرسلني ربي إليكم بالذبح» ..(خلق أفعال العباد 1/75)

أصبح معها تأويل.."قد جاءكم بالبينات"..يعني.."قد جاءكم بالذبح"..وهو تأويل أرعن من البخاري لا أعلم من دوّنه معه –في عصره-سوى ابن حنبل وعبدالله بن أبي شيبة، وجميعهم كانوا في بلاط الخليفة العباسي المتوكل.

عن طريق هذا التأويل ذبح المجرمون في داعش خصومهم في المعارك، بل ذبحوا المدنيين الأبرياء بمجرد الشك حتى دون عقد محاكمة تنصفه من السكّين، وشهدت بنفسي تأويلاتهم المجرمة على مواقعهم في تويتر وفيس بوك، حيث كلما أرفقوا صورة لذبيح ذكروا هذا الحديث الأرعن وأن الذبح هو سنة الرسول المُفضّلة للزكاة وإلا هي صدقة..!!

لقد عادى البخاري النبي بروايته هذا الحديث وأصبح كهتلر حين أجاز لنفسه قتل ملايين اليهود ، والحُجة واحدة هؤلاء كفار قُرشيون وهؤلاء أشرار يهود، مع حفظ الفارق بين رؤية البخاري الدينية ورؤية هتلر العرقية وكلاهما نزعات عنصرية يبرأ منها الإنسان وتبرأ منها الأديان، نتج عن ذلك رفضاً لأي تراث إسلامي وأي تراث غربي على السواء، فالإنسان يميل إلى التسامح والأمن،وما يُجبره على الجريمة –غالباً- هي الانفعالات والرغبات وكلاهما حالات وقتية تزول بزوال الظروف المسببة للخوف، لأن الإنسان لا يفعل الجريمة غالباً إلا عن خوف ، فإذا خاف البخاري على عقيدته لجأ لتكفير الجهمية والمعتزلة وأهل الرأي.. لابد أن يخاف هتلر على وطنه حين رأى اليهود والغَجَر أدوات لهدم ألمانيا النازية.

وقد تمادى البخاري في حربه على الرسول حين روى حديث قال فيه.. " عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»..(صحيح البخاري 2818)

فلو قيل أن الحديث في فضل الجهاد ..والقرآن لا يَخلُ من ذلك قلت الرد على ذلك من وجهين:

الأول: أن في الحديث دعوة لعسكرة الدين، فالدين دعوة وهداية قبل كل شئ قال تعالى.." ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "..[النحل : 125]..لم يقل جادلهم بالسيف، فلو قيل أن ذلك وجهاً واحداً قلت فلماذا حصر البخاري الجنة للسيوف ولم يجعلها مثلاً للسان أو العقل؟

الثاني: أن معنى الجهاد في القرآن ليس واحدا، بل هو معانٍ متعددة كقول الحق وجهاد النفس والحرب والعفة والصدق وأشياء أخرى-راجع بحثي المنشور بعنوان ابن شهاب الزهري في الميزان- بينما البخاري حصر هذا المعنى في الحرب وجعل الجنة للسيوف، فلو كان ذلك صحيحاً لماذا نُنكر على داعش وهي تستدل بهذا القول الأحمق في تقرير غزواتها وحرقها لبيوت الآمنين؟...ولو كانت داعش مخطئة فلماذا لا نطبق هذا الحديث ونجعله واقعاً نُحارب به الشرق والغرب..من روسيا والصين شرقاً إلى أمريكا والبرازيل غرباً؟..جميعهم يجب أن يُسلموا وإلا فليدفعوا الجزية..!

ولتقريب الشَبَه بين ما فعله البخاري بتقرير الإمبريالية كخيار استراتيجي لقهر الشعوب بغزوها..قلت ما الفارق بين ما فعلته بريطانيا مثلاً في غزوها للشرق الأوسط والهند وبين ما فعله الخلفاء في غزو فارس والروم؟..سيقول أن غزو الخلفاء كان لنشر الإسلام، قلت أن غزو بريطانيا كان لنشر الليبرالية ومبادئ جون لوك وديفيد هيوم وآدم سميث وتوماس هوبز، هذا دليل على أن عقلية البخاري لم تغادر نزعة العرب والمسلمين التوسعية في ذلك الزمان، ولكن أضاف لها البخاري بُعداً دينياً أصبحت فيه الإمبريالية والتوسعية خياراً دينيا ًبالأساس..!

وإذا روى البخاري قتل النبي لمئات الأسرى اليهود في بني قريظة فيجوز معها قتل عشرات الأسرى المصريين في سيناء على أيدي جنود إسرائيل، هذا أسير عربي وهذا أسير يهودي، لكن القاتل واحد ليس إنساناً، وأعوذ بالله أن يكون النبي فعل ذلك وقد نزل عليه قوله تعالى.."فإما مناً بعد وإما فداء"..وهو أمر بالعفو عن الأسرى دون مقابل مناً أو فديتهم بأسرى آخرون أو مال، ويظهر معها أن البخاري كان جاهلاً بالنبي كجهله عن أفلاطون وسقراط حين ادعى ومثله أنهم هراقطة بينما لو سأله أصغر تلميذ لأفلاطون منهم سؤالاً في دينه سيرتبك وربما يُسارع في تكفيره على غرار من سأل شيخاً عن حقيقة عذاب القبر فقتله الشيخ وقال أرسلته ليرى الشجاع الأقرع بنفسه..!

اجمالي القراءات 12464