كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الثانى : تقديس الولي الصوفي في مصر المملوكية
الفصل الرابع :أنواع الأولياء الصوفية ومهامهم وكراماتهم
أنواع الأولياء الصوفية : المجاذيب وأرباب الأحوال وأصحاب النوبة والوقت
* المجاذيب :
1 ــ اعتبرهم ابن خلدون نوعا من الأولياء مع سقوط التكاليف [1] عنهم . إلا أنه عاد فاعتبرهم دون مرتبة الإنسان فلا يلحقون بالأولياء [2] . وفضل ابن عطاء المجذوب على السالك لأن الأول طويت له الطريق ولم تطو عنه [3] ، أي أن المجذوب أختاره الله واختصر عليه الطريق ، أما السالك فقد تركه الله يقطع الطريق ويسلكها بنفسه . وعلل الشعراني سبب ذهاب عقلهم بالتجلي الإلهي الذي أتاهم على غفلة فذهب بعقولهم ، وجعلهم الشعراني على ثلاثة أقسام تبعا للوارد الإلهي والعقل [4] . وتكون حالة المجذوب بحسب الحالة التي جٌذب في أثنائها فإن جذب في حال قبض ( أي اكتئاب ) فعمره كله قبض ، وإن جذب في حال بسط فعمره كله بسط وضحك [5] ، وساد الاعتقاد بأنهم يعيشون في عالم آخر يقول ابن عنان " إن من شأن المجاذيب أنك ترى أحدهم ماشياً وهو راكب ، وتراه يأكل في رمضان وهو صائم لم يفطر ، وتراه عارياً وهو مرتد لثيابه [6] " وهذا تصريح للمجذوب بأن يفعل ما يريد . وافتخر الشعراني بأدبه مع المجاذيب وأرباب الأحوال مذ كان صغيراً ، وقال المتبولي سلّموا على أرباب الأحوال بالقلب دون اللفظ فإنهم في حضرة لا يقدرون على خطاب أحد باللفظ [7] . وأوصى الشعراني بعدم مخالطة المجاذيب لأنهم يعلمون السرائر والخواطر المذمومة [8] ، أي يعلمون الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ولما قتل العثمانيون بعض المجاذيب قال الخواص : " طاب الرحيل من هذه الديار [9] ".
2 ــ يقول الدشطوطي يصف الجذبة " .. فحصل لي جاذب إلاهي وصرت أغيب اليومين والثلاثة ثم أفيق أجد الناس حولي وهم متعجبون من أمري ، ثم صرت أغيب العشرة أيام والشهر ولا آكل ولا أشرب .. فخرجت سائحاً إلى وقتي هذا " [10] . ولسهولة هذا الادعاء كثر مدعو الجذب والولاية ، وكان المجذوب يوصف عادة بأنه معتقد أي يعتقد الناس في ولايته وأحياناً بأنه مقصد للزيارة أي يقصده الناس بالتبرك [11] ، وكانوا يفسرون هذيانهم على سبيل الكشف وعلم الغيب [12] ، وكان المؤرخون يعللون اعتقاد الناس في صوفي ما بأنه مجذوب ويقولون " لعوام الناس فيه اعتقاد لاندراجه عندهم في المجاذيب [13] " و" .. حصل له نوع من الجذب فصار للناس فيه اعتقاد [14] " و " .. يذكر بين العوام بالجذب ويعتقد لذلك " [15].
3- وتمتع المجاذيب بتقديس المماليك لهم [16] ، وكان السلطان برقوق يعتقد في الزهوري المجذوب حتى لقد كان الأخير يبصق في وجهه [17] ، ولما افتتح برقوق مدرسته دخل عليه مجذوب وأعطاه ( طوبة ) وأمره أن يضعها في المدرسة ، فوضعها السلطان في قنديل وعلقه في المحراب ، يقول ابن إياس " فهي باقية في القنديل إلى الآن " [18] .. ولا نجد أبلغ من وصف أبي المحاسن لاعتقاد الناس في يحيي الصنافيري يقول عنه " هو ممن سلم من الإنكار عليه وأجمع الناس على اعتقاده ، وهو لا يفيق من سكرته ، وكان الناس يترددون إليه فوجاً فوجاً من بين عالم وقاض وأمير ورئيس ، ولا يلتفت إليهم ، ولما زاد تردد الناس عليه صار يرجمهم بالحجارة ، فلم يردهم ذلك عنه رغبة في التماس بركته ، ففر منهم وساح في الجبال مدة طويلة " [19] ..
* أرباب الأحوال:
1- شاع هذا المصطلح في العصر المملوكي خصوصاً في أواخره ، ويقول الشعراني إنهم ( أعطوا في الدنيا التقديم والتأخير والولاية والعزل والقهر بما لهم من دلال على الله ) ويقول الدشطوطي " أرباب الأحوال مع الله كحالهم قبل خلق الخلق وإنزال الشرائع " [20] . واحتج ابن الحاج على مدّعي ذلك من الصوفية المنحرفين : " ثم أنهم يولون ويعزلون في تلك الأحوال ويخبرون بمنازل أصحابهم .. ولا شك أنها أحوال نفسانية أو شيطانية لأن الفتح من الله لا يكون مع ارتكاب المكروهات أو المحرمات " [21] ، أما المرسي فيعلل تميزهم هذا بضعفهم عن كتم أحوالهم وضيقهم عن وسعها [22]، وبالغ بعضهم في ادعاءاته ، يقول المتبولي : " ..وعزة ربي لتتوزع أحوالي بعدي على سبعين رجلا ًولا يحملون " [23] أي لن يستطيعوا تحمل الحملات مثله.
2- وقد يكون الحال بمعنى الانفعال الصوفي الحاد ، فالشيخ أبو الحمايل " كان يغلب عليه الحال فيتكلم بالألسن العبرانية والسريانية والعجمية ، وتارة يزغرت في الأفراح والأعراس مثلما تزغرت النساء ، وإذا اشتد عليه الحال في مجلس الذكر ينهض قائماً ويأخذ الرجلين ويضرب بهما الحائط [24] " ، وتمثل هذه الحالة إحدى درجات الجذب ، وقد جمع بعض الأولياء بين المرتبتين مثل عبيد البلقيني الذي " كان من أرباب الأحوال والكشف ، حصل له جذب في أول عمره .. "[25] .
3- وكان من السهل تعليل ما يصيب الأولياء من أمراض بأنها " حال " وقد عدّ الشعراني من المنن معرفته بطب أرباب الأحوال[26].
واستغل أرباب الأحوال شهرتهم في التسول واعتبروه حقاً لهم لأنهم يدفعون البلاء [27] .
أصحاب النوبة :
1- في أواخر العصر المملوكي برزت تقسيمات عدة للأولياء ، بالإضافة لما سبق مثل الكٌمل والعارفين وأصحاب الحضرة وأصحاب الوقت ، إلا أن أصحاب النوبة هم الأشهر وهم الذين يحفظون إدراكهم ( أي الأماكن التي يحرسونها ) في سائر الأرض وعليهم قضاء الحوائج [28] . وحديث الشعراني عنهم متناقض فهو يجعل نفسه أحياناً مساعداً لهم فيطوف بقلبه على جميع أقطار الأرض ، وفي نفس الوقت يحرص على استئذانهم كلما خرج من بيته ليكون في رعايتهم [29] ، فلا نعرف هل يعد نفسه منهم أم لا ، ويذكر الشعرانى أن شيخه الخواص كان أحدهم ، ويتمتع بالتصريف في ثلاثة أرباع مصر وقراها ، وكثيراً ما يرسل الحوائج إلى الشيخ محيسن المجذوب الذي جعله أصحاب التصريف في الربع الباقي ، مع أنه " صاحب درك بحر الهند " [30] ، ثم يذكر أن أصحاب النوبة كانوا في صراع مع الخواص ، يعارضهم ويعارضونه ، وانتهى الصراع بمقتل الخواص [31] . أما الشيخ محيسن فقد أعطبوا رجله [32] ، ومن السهل تفسير هذا التنافس بالصراع المحتدم بين الأولياء في نهاية العصر حول المريدين والنذور والنفوذ .
2- وقد احتج الشعراني على منكري أصحاب النوبة ووصفهم بأنهم لم يدخلوا دائرة الولاية قط فلو دخلوها لعرفوا أهلها [33] ، ووصف الخواص وأبو الفضل الأحمدي بمعرفة أصحاب النوبة في سائر أقطار الأرض ومعرفة من تولى منهم ومن عزل [34] . ولما دخل السلطان سليم العثماني مصر أرسل الخواص فقيراً ينظركم معه من أصحاب النوبة [35] ( أي من يساعده منهم).
3- وقد وصف أصحاب النوبة بالشدة والعنف كانعكاس للصراع بين الأولياء وقتها ، يقول الشيخ حسن العراقي " لا يأذن أصحاب النوبة لفقير أن يسكن في مصر إلا إن كان مراعياً للأدب معهم ، وإلا أخرجوه إلى القرى أو إلى خارج السور ، وعد الشعراني من المنن حفظه من تصريفهم فيه بمرض أو سلب حال [36] ، وأوصى الخواص بالاستعانة عليهم بالله ورسوله [37] ، ولا شك أن المقصود بهذه الصفة هم الأولياء المنافسون ، فالخواص هو نفسه القائل " قل من فقراء هذا الزمان من يعرف أنه تحت حكم أصحاب النوبة .. ولو عرف لسألهم ... وانتظر ما يقع منهم من تولية أو عدمها [38] . وهو يقصد نفسه .
أصحاب الوقت:
لا اختلاف بينهم في المفهوم عن أصحاب النوبة ، اللهم إلا اندراج العلماء بينهم ولهم تقريباً نفس حقوق أصحاب النوبة [39] ، وقد أكثر الشعراني من الحديث المعاد عن أصحاب الحضرة الإلهية والكُمَّل والعارفين [40] عدا تصنيفات أخرى لم يجد الخواص لها أسماء [41] .
مما يجعل القارئ يتخيل عدد الأولياء مساوياً لأعداد الناس في نهاية العصر ، وإن كانت الصفات منحوتة من بيئة العصر وتصوراته وهواجسه وتخيلاته وجهالاته ، بينما كان العقل غائباً في أجازة مفتوحة .
[1] - مقدمة ابن خلدون 110، 111.
[2] - شفاء السائل في تهذيب المسائل 88 وفي هذا الكتاب ناقض ابن خلدون ما قاله عن التصوف في المقدمة .
[3] - لطائف المنن 111.
[4] - الشعراني اليواقيت والجواهر 155-156 وقد ذكر أمثلة لذلك في الطبقات الكبرى جـ2/ 120.
[5] - الشعراني اليواقيت والجواهر 155-156 وقد ذكر أمثلة لذلك في الطبقات الكبرى جـ2/ 120.
[6] - أخبار القرن العاشر .
[7] - لطائف المنن 189- 190.
[8] - البحر المورود 185.
[9] - أخبار القرن العاشر 210.
[10] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/120، 121
[11] - من الصعب حصرهم في سائر المراجع وعلى سبيل المثال : المنهل جـ3/187، النجوم جـ11/138 ، 16/177 ، 195، 13/18، ابن إياس جـ2/211 ط بولاق ، 4/386، الضوء اللامع جـ1/184 ، 3/50 السلوك 3 قسم 2/511، إنباء الغمر 3/261، 3/153، 1/59.
[12] - ابن حجر ذيل الدرر الكامنة مخطوط 22.
[13] - التبر المسبوك للسخاوي 237 ترجمة الشيخ بكير – وورد في الضوء اللامع جـ3/18
[14] - تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى جـ2/265 ترجمة الشيخ الطوخي .
[15] - الضوء اللامع جـ2/260 ترجمة ابن المؤمني.
[16] - لطائف المنن للشعراني 129.
[17] - إنباء الغمر جـ2/57 ، النجوم الزاهرة 13/10.
[18] - تاريخ ابن إياس تحقيق محمد مصطفى 1/2- 373.
[19] - المنهل الصافي مخطوط 5/481 ، النجوم الزاهرة 11/118- 119.
[20] - الشعراني .. لواقح الأنوار ص 101، 102.
[21] - المدخل جـ2/151.
[22] - الشعراني الطبقات الكبرى جـ2/17.
[23] - الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/76.
[24] - الطبقات الكبرى – للشعراني جـ2/110، جـ2/111.
[25] - الطبقات الكبرى – الشعراني جـ2 /127.
[26] - لطائف المنن 355 .. الشعراني .
[27] - لطائف المنن .. الشعراني : 40.
[28] - لطائف المنن ، الشعراني 144، 151.
[29] - لطائف المنن 144ن البحر المورود 89، 90.
[30] - لطائف المنن 146.
[31] - الطبقات الكبرى جـ2/130.
[32] - الطبقات الكبرى جـ2/ 124
[33] - لطائف المنن ص 144.
[34] - الطبقات الكبرى جـ2/130، جـ2/150.
[35] - الطبقات الكبرى جـ2 /131.
[36] - لطائف المنن ص 147.
[37] - الطبقات الكبرى جـ2/144.
[38] - الشعراني . إرشاد المغفلين ص 273.
[39] - لطائف المنن 256، 277.
[40] - لطائف المنن 365، 392 ، 291.
[41] - لواقح الأنوار 99