الباب الأول الفصل السابع
ßÊÇÈ الصيام ورمضان : دراسة اصولية تاريخية
لمحة تاريخية عن الفساد المترتب على حديث

في الخميس ١٩ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

لمحة تاريخية عن الفساد المترتب على حديث (صوموا لرؤيته )

من انواع الفساد المترتب على حديث رؤية الهلال :
بعد وقفة أصولية تاريخية مع حديث (صوموا لرؤيته) نأتى لنماذج من الفساد الناتج عن تطبيقه.
أولا : الاختلاف فى تحديد أول رمضان ونهايته ، وتفرق المسلمين بين الافطار و الصوم فيه :
مثال من بغداد فى عصر الخلافة العباسية : أمير عباسى يستغل رؤية الهلال سياسيا
حدث هذا فى وقت اقتراب هلال شوال ـ آخر رمضان عام 448 . وكان وقت خلافة القائم بأمر الله العباسى . وطبقا لحديث (صوموا لرؤيته ) فقد كان فى يد الخلافة العباسية وحدها تحديد بداية ونهاية رمضان طبقا لما يشهد به شهودها ، أو طبقا لما تقتضيه مصلحة القائمين على الدولة ، أى يصوم الناس طبقا لأوامر السلطة القائمة. وهذا ما كان وهذا ما لا يزال ، فالسلطة تؤخر أو تقدم الصيام والفطر حسبما تريد رؤية الهلال ، ومع انعدام الاعتماد على الحساب الفلكى المحدد فقد أصبح صيام الناس طبقا لأوامر الحاكم وليس طبقا لأوامر الله جل وعلا الذى خلق الشمس والقمر بحسبان ولنعلم عدد السنين والحساب.
وبالتالى ارتبط تحديد بداية ونهاية رمضان بالاختلاف ، ومنه ما كان ممتزجا بعوامل سياسية ، نفهم هذا من ذلك الخبر الذى أورده ابن الجوزى فى أحداث عام 448 . نقرأ الخبر ثم نعلق على ما بين السطور :
( وفي عشية يوم الثلاثاء سلخ رمضان‏:‏ خرج الناس لترائي هلال شوال فلم يروه، وصلى الناس التراويـح علـى عادتهـم ، ونـووا صـوم غدهـم ، فلمـا كـان بكـرة يوم الأربعاء جاء الشريف أبو الحسين بن المهتدي المعروف‏:‏ بالغريق الخطيب وقد لبس سواده وسيفه ومنطقته ووراءه المكبرون لابسين السواد على هيئته إلى جامع دار الخلافة، فرآه مغلقًا ففتحه ، ودخل وقال‏:‏ اليوم يوم العيد وقد روئي الهلال البارحة بباب البصرة ، ورام الصلاة فيه وجمع النـاس بـه.
وعـرف رئيـس الرؤسـاء الخبر فغاظه ذلك، وأِحفظه أن لم يحضر الديوان العِزيز ويطالعه بما كان وما تجدد في رؤية الهلال، فراسله واستحضره ، فامتنع وقال‏:‏ حتى أصلي وأعيد ثـم نكفـي إلـى الديـوان. فروجـع، وأحضـر ، وأنكـر عليـه إقدامـه علـى فتـح الجامـع وهـو مغلـق وقـد علـم أنه لا خبر للناس من هذا الأمر محقق ، وقال له‏:‏ قد كان يحبب أن تحضر الديوان العزيز وتنهي الحال ليحيط به العلم الشريف ويتقـدم فيما يوجبه ويقتضيه‏.‏ وأغلط له فيما خاطبه ، فاعتذر، وقال‏:‏" ما فعلت مما فعلته إلا ثقة بنفسي ، وبعد أن وضحت الصورة عندي، وكان قد حضرني البارحة ثمانية أنفس من جيراني أثق بقولهم فشهدوا عندي جميعًا بمشاهدة الهلال ، فقطعت بذلك وحكمـت وأفطـرت وأفطـر النـاس فـي بـاب البصرة وخرجوا اليوم قاصدين جامع المدنية،ولم أعلم أن هذا لم يشع ، فحضرت وأنكرت كون الجامع مغلقًا ، ثم جاء قوم فشهدوا برؤية الهلال‏".‏
فقال رئيس الرؤساء لقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني‏:‏ ما عندك في هذا فقـال‏:‏ أمـا مذهـب أبي مذهب أبي حنيفة الذي هو مذهبي فلا تقبل مع مذهبي ، فلا تقبل مع صحو السماء وجواز ما يمنع من مشاهدة الهلال إلا قول العدد الكثير الذي يبلغ مائتين. وأما مذهـب الشافعـي رضـي اللـه عنـه الـذي هـو مذهـب هـذا الشريـف فإنـه يقطـع بشهادة اثنين في مثل هذا .
وطولع الخليفة بالحال فأمر بالنداء أن لا يفطر أحد ، فأمسك مـن كـان أكـل . وكـان والـد القاضـي أبـي الحسيـن قـد مضـى إلـى جامـع القطيعـة فصلـى بالنـاس وعيد وكذلك في جامع الحربية ولم يعملوا بما جرى)( المنتظم 16 : 6 عام 448 ) .
التعليق :
1 ـ موجز الخبر أن أحد امراء العباسيين من نسل الخليفة المهتدى أعلن بدء يوم العيد وفتح الجامع الكبير فى بغداد وأقام فيه صلاة العيد ، فتحرك المسئولون فى الدولة العباسية بسرعة واستدعته وحققت معه بغلظة فتراجع . وجاء الأمر للناس بالصوم بعد أن أفطروا .
2 ـ وقتها كان المتحكم فى الخلافة العباسية والدولة العباسية هم الأتراك السلاجقة السنيون ، بينما احتفظ الخليفة العباسى بالسلطة الدينية ، وهنا تبرز أهمية التحكم فى العبادات ومنها الصوم، وهنا أيضا حاول هذا الأمير العباسى الشريف أبو الحسين بن المهتدي المعروف‏:‏ بالغريق الخطيب أن يؤكد دوره على حساب ابن عمه الخليفة القائم بأمر الله . وذلك الأمير العباسى ينتمى الى الخليفة المهتدى الذى حكم حوالى عام واحد( 255 : 256 ) ثم قتله القادة الأتراك وقتها، وقد اشتهر بالتشبه بالخليفة عمر بن عبد العزيز. جاء هذا الحفيد من نسل المهتدى بعد قرنين ليحاول الظهورسياسيا مستغلا سيرة جده المهتدى ومشتغلا بالخطابة ومضيفا لنفسه ألقابا مثل (الشريف أبو الحسين بن المهتدي المعروف‏:‏ بالغريق الخطيب ) ومضيفا ـ بعض الرتوش التى ذكرها ابن الجوزى : ( وقد لبس سواده وسيفه ومنطقته ووراءه المكبرون لابسين السواد على هيئته إلى جامع دار الخلافة ). هذه المظاهرة لم يغب الهدف منها على قصر الخليفة العباسى فاستدعوا الأمير فرفض ، فاغلظوا عليه فحضر ، ووجه بالغلظة فى التحقيق فاسترجع وخضع . وعادت الأمور الى نصابها وأمر الخليفة أن من أفطر فعليه أن يصوم الى نهاية اليوم . فالكهنوت العباسى هو الذى يتحكم فى الصوم يؤيده الفقه السنى و العسكر السلجوقى السنى .
3 ـ من الناحية الفقهية نرى القاضى وقتها لم يحسم الأمر بل رجع الى اختلاف المذاهب ، وفى المذهب الواحد تجد الشىء ونقيضه ، مما يعطى المتحكم فرصة لفرض رأيه ويجد رأيا فقهيا يؤيده ، ثم قد يغير رأيه بعدها متمسحا برأى فقهى آخر. وتلك طبيعة الدين الأرضى.
مثال من القاهرة فى اول عيد تشهده القاهرة بعد بنائها : المصريون يصومون بالرؤية والفاطميون يفطرون بالحساب الفلكي:
1 ـ في 29 :30 رمضان سنة 358 هـ: كان جوهر الصقلي في مصر وقد فتحها لصالح سيده المعز لدين الله الفاطمي الذي كان لا يزال وقتها في عاصمته المهدية بالمغرب ،وأسس جوهر الصقلي مدينة القاهرة ، التي شهدت أول رمضان سنة 358 هـ .
وقتها كان غالب أهل مصر يعتنقون المذهب السني ويعتمدون على الرؤيا للهلال في تحديد أوائل الشهور العربية ،وقد وقف القاضي أبو طاهر فوق سطح الجامع العتيق ( جامع عمروبن العاص ) يلتمس رؤية الهلال يوم 29 رمضان فلم ير شيئاً ،وعندئذ اعتبر رمضان تاماً،وصام المصريون معه يوم الثلاثين منه.
أما جوهر الصقلي ومن معه من الشيعة والمغاربة والقادةالفاطميون فهم يعتمدون الحساب الفلكي في تحديد الأشهر العربية ، لذلك فقد أفطروا يوم الثلاثين من رمضان واعتبروه أول شوال وعيد الفطر، وصلى جوهر الصقلى صلاة العيد بالقاهرة عاصمته الجديدة وكان الخطيب في الصلاة هو علي بن الوليد الأشبيلي، ولم يصلِّ أحد من أهل مصر معهم إذ كانوا يعتبرونه آخر يوم في رمضان.
وفي اليوم التالي كان عيد الفطر عند المصريين فأفطروا وصلوا العيد،وهي المرة الأولى التي يحدث فيها الإختلاف في تحديد عيد الفطر بين طائفتين مسلمتين في مصروتصادف أن يكون ذلك في أول رمضان تشهده مدينة القاهرة.
2ــ وظل تحديد الأشهر العربية مثار خلاف بين أهل السنة والشيعة في مصر،وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله المشهور بتقلبه وعجائبه فأصدر مرسوماً في رمضان سنة 399هـ يبيح للناس أن يصوموا حسب الرؤية أو بالحساب الفلكي ولا إجبار على أحد فى ذلك.أى أنه لم يفرض على المصريين الألتزام بالحساب الفلكى المعتمد لدى السطة الفاطمية. ولكن الخليفة الحاكم الغريب الأطوار سرعان ما تراجع عن هذا القرار فأصدر قراراً مناقضاً سنة 401هـ قبيل حلول رمضان وفيه يأمر بإن يكون الصوم يوم الجمعة وأن يكون عيد الفطريوم الأحد أى حدد بداية شهر رمضان ونهايته بالحساب الفلكي دون اعتبار للرؤية. وكان معروفاً وقتها أن من يخالف ذلك الخليفة فمصيره الهلاك.
أمثلة من رمضان فى العصر المملوكى : وقائع تاريخية غريبة في تحديد هلال رمضان وغيره بالرؤية
وانتهت الدولة الفاطمية وعادت المنطقة كلها تخضع للدين السّنى باعتماد رؤية الهلال طريقاً وحيداً لمعرفة بداية شهر رمضان وانتهائه ,ولكن كانت تحدث بعض الوقائع والمفارقات الغريبة أوردتها كتب الحوليات التاريخية ..
1 ـ ففي سنة 696هـ في أول سلطنة المنصور قلاوون المملوكي صام الناس شهر رمضان يوم الجمعة على إختلاف شديد وشك كبير فيه.
2 ـ وحدث في نابلس سنة 702هـ إختلاف بين أهل المذاهب في تحديد رمضان، فالحنابلة صاموا شهر رمضان على عادتهم بالإحتياط ، واستكمل الشافعية وغيرهم شعبان ثلاثين يوماً ثم صاموا، فلما أتم الحنابلة ثلاثين يوماً أفطروا وصلوا صلاة العيد ولكن الهلال لم يره أحد، فصام الشافعية والجمهور ذلك النهار ، وأنكر الحاكم المملوكي في الشام على والي نابلس كيف لم يجتمع الناس على يوم واحد يصومونه .
3 ـ أما أهل غرناطة بالأندلس فقد صاموا هذا الشهر (رمضان 696هـ ) ستة وعشرون يوماً لأن الغيوم تراكمت عندهم عدة أشهر قبل رمضان ،فلما كانت ليلة السابع والعشرين طلعوا المأذنة لإنارتها فإذا بالغيوم قد انقشعت وظهر الهلال. فأفطروا واعتبروا ذلك أول شوال، ولم يكونوا قد صاموا إلا ستة وعشرين يوماً ..!!
4 ـ وفي ليلة الثلاثين من شعبان سنة 796هـ لم ير أحد الهلال في القاهرة ومصر مع كثرة الباحثين عن رؤية الهلال فاجتمع الناس على أنه آخر شعبان اليوم التالي فأكلوا إلى الظهر فجاء الخبر بأن الهلال رؤى في بلبيس فنودى في مصر والقاهرة بالإمساك قبيل العصر..!!
5 ـ أما ما حدث في رمضان سنة 837هـ فهو أمر عجيب ، وقد كان المقريزي شاهد عيان عليه وذكر التفاصيل في تاريخه "السلوك" . يقول أنه في يوم 29شعبان اقتضى الحساب الفلكي أن يأتي هلال شهر رمضان مع جرم الشمس في ليلة السبت فلا يمكن رؤيته ، فلما غربت الشمس حاول السلطان والمماليك والعلماء والناس رؤية الهلال من فوق القلعة والمساجد والبيوت فلم ير أحد شيئاً فانفضوا وقد أظلم الليل ، وإذا برجل يأتي لقاضي القضاة الشافعي ويشهد بأنه رأى الهلال ، فأوصله القاضى الشافعي للسلطان ، وأمام السلطان المملوكي صمم الرجل على أنه رأى الهلال الذي لم يره أحد غيره،إلا أن ذلك الرجل كان من أقارب أحد ندماء السلطان ، فبالغ ذلك نديم السلطان في الثناء على قريبه الذى يشهد برؤية الهلال، فاعتمد السلطان شهادته ،وأعلن بإن الغد هو رمضان. يقول المقريزيي" فأصبح الناس صائمين والسنتهم تلهج بالوقيعة في القضاء والشهود فتوالت الكتب من بلاد مصر والشام بانهم حاولوا رؤية الهلال ليلة السبت فلم يروه وأنهم صاموا يوم الأحد ".. وهكذا صام الناس الثلاثين من شعبان على أنه أول رمضان طبقا لتوصية نديم السلطان فى مجالس الخمر.
ويبدو ان بعضهم أراد أن يجاري ذلك الرجل ويشهد هو شهادة اخرى حول نهاية نفس الشهر بقول المقريزي " فلما كانت ليلة الإثنين التي يزعم الناس أنها أول ليلة من شوال حاولوا رؤية الهلال فلم يروه وجاء بعض نواب القضاة وزعم أنه رآه ، وأنه شهد عنده برؤيته من أثبت بشهادته أن هلال شوال غداً يوم الإثنين ، فكانت حادثة لم ندرك قبلها مثلها ، وهى أن الهلال بعد الكمال عدة ثلاثين يوماً لايراه الجم الغفير الذين يريدون رؤيته ، وقد خلت السماء من الغيم ، وجرت العادة أن يتساوى الناس في رؤيته ، وأوجب ذلك تزايد الوقيعة في القضاة وسائر الفقهاء حتى لقد أنشد فى بعضهم لمحمود الوراق : ــ
كنا نفر من الولاة الجائرين إلى القضاة فالآن نحن نفر من جور القضاة إلى الولاة. "
6 ـ وفي عصر قايتباى كانت المناسبات الدينية كلها للمسلمين،وكان تحديدها يتم وفقاً لرؤية الهلال ، بينما كانت أمور الزراعة والفيضان يحسبونها بالشهور القبطية. ونظراً للاعتماد على الرؤية البصرية في تحديد أول الشهور العربية فإنه كانت تحدث اختلافات :
وعلى سبيل المثال :
* فقد حدث يوم الخميس 27 ذى الحجة876 أن جاء المبشرون بقدوم الحجاج ووصلوا القاهرة وأخبروا أن الوقفة وقفة عيد الأضحى كانت يوم الاثنين ومتفقة بذلك مع التوقيت القاهري، وكان قد حدث اختلاف في مصر في تحديد أول شهر ذى الحجة 876 بين قائل بأن أوله الأحد وأخر يرى أنه السبت، وكان تلك قضية هامة يزيد في أهميتها ما اعتاده الأشياخ والقضاة من ذهاب لتهنئة السلطان في أول كل شهر عربي.
يقول مؤرخناً عن مطلع شهر ذى الحجة 876: ( أهل بيوم الأحد) ، ومعناه بدأ وظهر هلاله يوم الأحد، ونكمل معه ما كتبه: ( ويوافقه السادس عشر من بشنس القبطي، لأن ذا القعدة جاء تماماً، ثم ثبت بعد ذلك أن أوله السبت ، ووصل الخبر بذلك إلى المحلة في يوم الثلاثاء ثالثة بعد الظهر، وأخبر السلطان بذلك )
لم تكن هناك إذاعة لاسلكية تنشر الأخبار وقت حدوثها، لذلك علم السلطان ثالث يوم العيد أن أهل المحلة قد اعتبروا عيد الأضحى يوم السبت لا الأحد، وبالتالى فإن المسلمين في سائر الأقاليم والأقطار كانوا يختارون التوقيت في الأعياد حسبما يرون، وحسب الظروف، و كان أسهل عليهم لو اعتمدوا الحساب الفلكي الذى لا مجال فيه للخطأ.
* ونعود إلى مؤرخنا ابن الصيرفي وهو يتحدث عن صعود المشايخ لتهنئة السلطان بهلال أول الحجة وقد كان معهم، يقول فيه: ( صعد قضاة القضاة ومشايخ الإسلام لتهنئة السلطان بالشهر على العادة وكنت صحبتهم) أى كان المؤرخ ابن الصيرفى القاضى معهم ،( وهنوه على المصطبة المستجدة أخر الحوش السلطانى ، فطلب قاضى القضاة الحنفي من السلطان عيوناً (أى نظارة للقراءة ) شغل الفرنج (أى من صنع الأوربيين ) التى ينظر بها للكتابة كانوا أحضروا له منها بعدة، فأجابه: هذا الذى طلبته مفضضاً (أى مطلى بالفضة ) وأنت ما يجوز لك استعمال ذلك، فما ساعه إلا السكوت (أى اضطر للسكوت ) ، وكلح من الرد عليه بحضور رفقته، فليت شعرى ما الملجئ في ذلك.(أى ما الداعى لذلك ) )
أى في اجتماعهم بالسلطان طلب قاضى القضاة الحنفي محب الدين بن الشحنة أن يعطيه السلطان نظارة وكان قد جيء للسلطان ببعض النظارات من بلاد الفرنجة، وعلم بذلك ابن الشحنة فطمع في الحصول على واحدة منها، ورفض السلطان أعطاءه ما يريد وأفحمه بأن تلك النظارات قد طلوها بالفضة، ولا يجوز للقاضى أن يرتدى الذهب والفضة، فاضطر صاحبنا للسكوت ولم يستطع الإجابة، ويعلق مؤرخنا على شيخه قاضى القضاة فيقول "كلح من الرد عليه بحضور رفقته، فليت شعرى ما الملجئ له في ذلك."
* ويقول مؤرخنا عن هلال شهر ربيع الأول 876: ( اختلف في إثباته اختلافاً زائدا ، فشهد جماعة من المؤقتين ( أى أصحاب التوقيت) عند القاضى الشافعي برؤيته ليلة الأحد فما قبلهم، (أى ما قبل شهادتهم )، وصعد يوم الاثنين لتهنئة السلطان بالشهر ورفقته قضاة القضاة وكنت معهم، فلما جلسوا وهنوه بالشهر ، قال له السلطان نصره الله، الشهر من البارح، فأخذ عنه القاضى الحنفي في الجواب فقال السلطان: أنا رأيته الليلة الماضية وهو كبير، فقال القاضى المالكي: الكبر ما هو شرط وانصرفوا، ثم أنى رأيت يوم الاثنين قصة بخط القاضى الشافعي مؤرخه بثالث ربيع الأول فعلمت أن القاضى الشافعي أثبت الشهر كما قال السلطان.) أى انهم وافقوا السلطان على قوله .
ويقول ابن إياس عن بدء رمضان 882 إنه اضطربت القاهرة لمرور الثلاثين من شعبان دون رؤية الهلال .فأكل غالب الناس فى اول يوم من رمضان ، فأمر القاضى الشافعى بالامساك فثار عليه العوام ، فأثبتوا رؤية الهلال قريب الظهر،(ولكن فطر غالب الناس فى ذلك اليوم) (بدائع الزهور: تاريخ ابن اياس : ج3 : 136 )
وفى رمضان 898 يقول ابن إياس ( نودى بالصوم بعد ضحوة النهار ، وقد ثبت رؤية الهلال بعد طلوع الشمس بثلاثين درجة ، وقد أكل غالب الناس فى ذلك اليوم ، ولا سيما العوام ، فثقل عليهم الامساك فى ذلك اليوم بعد الافطار).( ج3 : 296 )
* الأكثر من هذا هو النسىء ، أوالتلاعب بموضوع الرؤية لخدمة السلطان .
ثانيا ـ الفساد فى عودة النسىء في الأشهر العربية:
1 ـ فى العصر المملوكى ساد التصوف السنى ، ويعنى أن تكون العقيدة هى فى تقديس الأولياء الصوفية والاعتقاد فى كراماتهم بينما تكون العبادات على أساس الفقه السنى ، ومنها بالطبع رؤية الهلال بديلا عن الحساب الفلكى.
وعلى هامش التصوف انتشرت عقائد أخرى مثل الاعتقاد فى (الفأل ) أو"التفاؤل والتشاؤم" . وترتيبا على قول الشاعر :( ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع) ، جاء الاعتقاد بأن السلطان إذا اكتمل سعده فقد آن أوان هبوطه وانحلال أمره . وكانت الخلافة العباسية قد انتقلت للقاهرة المملوكية بعد استيلاء المغول على بغداد . وأصبح الخليفة العباسى فى القاهرة ضمن أتباع السلطان المملوكى ، وإن كان ترتيبه الرسمى قبل السلطان لأن مهمته كانت إضفاء الشرعية على من يتغلب من العسكر المملوكى ويصبح سلطانا ، أى يأمر الأمير الفائز الغالب ، فيعقد القضاة الأربعة أمام الخليفة العباسى مجلسا ينادى بالمتغلب المملوكى سلطانا . ويتم بعدها بقية شعائر الاعتراف السياسى به، وأهمها الدعاء له على المنابر . ويظل الدعاء له على المنابر فى صلاة الجمعة وصلاة العيدين . وطبقا للاعتقاد السائد فان السلطان يكتمل سعده إذا تم الدعاء له فى خطبتين وليس خطبة واحدة ، وهذا يحدث عندما يأتى يوم العيد فى يوم جمعة. هنا تقام الخطبة فى صلاة العيد صباحا وفى الجمعة ظهرا ، ويتم الدعاء للسلطان مرتين .
وفى عصر يتحكم فيه العسكر ويصل للسلطة الأقوى منهم كان القلق على المستقبل هو سيد الموقف ، فالسلطان الحالى يمكن إغتياله فى اى وقت ، وممكن أن يخونه أقرب(خشداشيته) أى رفاقه فى السلاح ، ولذا كان الاعتقاد فى التفاؤل و التشاؤم يؤكده القلق السياسى وتقلب الأوضاع والصراع المستمر على السلطة بين كبار الأمراء المماليك . من هنا كان أشهر مظهر للتشاؤم بالنسبة للسلطان هو إقامة خطبتين للعيد والجمعة في يوم واحد حين يأتي يوم العيد في يوم جمعة حيث يدعون له فى خطبتين فى يوم واحد ، فيكون قد بلغ أوج سعده . لم يكن السلطان يحس بالسعد بل يتشاءم من هذا اليوم إذ كان يشجع الطموحين من الأمراء على الوثوب على السلطان لأن السلطان الحالى قد وصل الى نهاية سعده وآن وقت انحداره ومجيء سلطان جديد.
ولذلك كانت العادة أن يتقرب القضاة للسلطان بمنع شهادة من يرى الهلال إذا كان ذلك يعني مجيء العيد يوم جمعة, وقد ذكر المؤرخون أحداثا من هذا النوع, ذكرها ابن حجر في أحداث سنة840 هـ فقال فى تاريخه (إنباء الغمر بأبناء العمر ):( وامتنع جماعة من صيام يوم الجمعة اعتمادا على من شهد ، ويتهم من اتهم الذين لم يقبلوا الشهادة المذكورة بأنهم فعلوا ذلك محاباة للسلطان لما جرت العادة من تطيرهم (أى تشاؤمهم ) بخطبتين فى يوم ) . ونفس الحادثة فى نفس العام 840 ذكرها أبو المحاسن في تاريخه " حوادث الدهور" وذكرها السخاوي في تاريخه "التبر المسبوك".
2 ـ ونقتطف بعض أمثلة ذكرها القاضى المؤرخ ابن الصيرفي في تاريخه " إنباء الهصر"الذى يسجل الأحداث اليومية فى عصر السلطان قايتباى :
*يقول عن ليلة الثلاثين من شهر رمضان سنة 875 هـ " توجه القضاة إلى المدرسة المنصورية قلاوون لرؤية هلال شهر شوال وتحديد أول يوم لعيد الفطر واتفقوا على أنهم لم يروا الهلال حتى لا تكون خطبتان يوم الجمعة " ويقول ابن الصيرفي يعلق على ذلك "ولم ير الهلال وهو المقصود الأعظم لئلا تكون خطبتان في يوم فيكون ذلك بزعمهم على السلطان غير مشكور. فلا قوة إلا بالله "، وعلى ذلك جعلوا هلال شوال يوم السبت وجعلوا عيد الفطر يوم السبت، وتلاعبوا بالصيام وشوال تقرباً للسلطان.!! ومع ذلك فلم يكن السلطان قايتباي يحترم أولئك القضاة!! .
* وفي عيد الأضحى 885 تكرر نفس العمل، وثبت بعدها أن أول ذى الحجة كان ينبغى أن يكون يوم الأربعاء، ولكنهم لم يفعلوا ذلك حتى لا يكون عيد الأضحى يوم الجمعة، يقول صاحبنا "وثبت شهر تاريخه بعد ستة أيام أن أوله الأربعاء، وعلى هذا يكون عيد النحر يوم الجمعة ويخطب فيه بخطبتين". وذلك ما لم يحدث بالطبع.
3 ـ ونتابع ما قاله ابن إياس فى نفس الموضوع وخلال عصر السلطان قايتباى:
* ففى عيد الأضحى 887 لم يهتم قاضى القضاة الشافعى زكريا الانصارى بهذه المسألة فغضب عليه السلطان والعوام أيضا خوفا من وقوع فتن وصراعات مسلحة ، يقول ابن إياس : (وافق عيد النحر يوم جمعة ، فحنق السلطان قايتباى من القاضى زكريا ( الأنصارى ) وأشيع عزله .. وانطلقت ألسنة العامة على القاضى زكريا وسبوه مجهرا )( بدائع الزهور : ج 3 : 198 )
* وفى شوال 899 يقول ابن إياس : (وفى شوال كان عيد الفطر بالجمعة. ولهج غالب الناس بزوال ملك السلطان عن قريب ، وما ذاك إلا أن العيد إذا جاء يوم الجمعة يخطب فى ذلك اليوم خطبتين ، ويدعى للسلطان فى ذلك اليوم على المنابر مرتين ، فيلهجون الناس بأن فيه كمال سعد للسلطان ، وهو وجه العلة فى المسألة ، وقد جاءت فى أيام الأشرف قايتباى خمسة أعياد بالجمعة ولم يضره ذلك ، ومكث فى هذه المدة الطويلة ولم يؤثر فيه ذلك شيئا ، فمن ذلك عيد فطر بالجمعة سنة ثمان وسبعين وثماتمائة ، وعيد فطر آخر بالجمعة سنة ست وتسعين وثمانمائة ، وعيد فطر آخر بالجمعة سنة تسع و تسعين وثمانمائة ، فهذه خمسة أعياد وقد مرت عليه بالجمعة ، وهو ثابت فى مملكته لم يتزحزح منذ ثلاثين سنة). (ج 3 : 303 ) أى أن ابن إياس ينكر هذا الاعتقاد بناء على أحداث تاريخية ، ولكن رأيه لم يغير هذا الاعتقاد لأنه (سائد ) .
3 ـ فأثناء مرض السلطان الأشرف قايتباى الأخير بويع ابنه الناصر فى يوم السبت 26 ذى القعدة 901 ، وتوفى قايتباى فى اليوم التالى . وكانت سلطنة ابنه الناصر محمد ابى السعادات قصيرة تخللها فتن الأمراء الكبار الطامعين فى العرش . وتأثرت رؤية الهلال بهذا الصراع على السلطة خصوصا مع قدوم أول رمضان على السلطان الشاب الجديد . وحدثت نادرة فى رمضان العام التالى ، ففى أول رمضان902 وقعت فتنة بين كبار الأمراء المتطلعين على السلطة، وكان واضحا أن الذى يفوز هو الذى سيتحكم فى السلطان الوارث للعرش توطئة لعزله . ولذلك ارتعب السلطان الشاب الجديد من مجىء عيد الفطر يوم جمعة فأمر بعمل عيد الفطر فى يوم الثلاثين من رمضان بدون رؤية الهلال . يقول المؤرخ ابن اياس ( ومن النوادر الغريبة أن فى يوم التاسع و العشرين من هذا الشهر (رمضان ) أمر السلطان بأن تدق الكوسات بالقلعة ، وقال : أنا أعمل العيد فى الغد من هذا الشهر إن رأوا الهلال أو لم يروا. ؛ فلما اشيع ذلك بين الناس ركب قاضى القضاة الشافعى زين الدين زكريا وطلع الى القلعة ، فاجتمع بالسلطان وعرّفه أن العيد لا يكون إلا إذا رؤى الهلال ن فشقّ ذلك على السلطان ، وهمّ بعزل القاضى فى ذلك اليوم ؛ فلما دخل الليل لم ير الهلال فى تلك الليلة ، وجاء العيد بالجمعة. وكان الناصر ( ابن السلطان قايتباى ) تطير (أى تشاءم ) من العيد بأن يجىء يوم الجمعة ، فكان ذلك اليوم على رغم أنفه . وفى شوال لم يخرج السلطان الى صلاة العيد ، ولا طلع الأتابكى تمراز ( قائد الجيش ) الى القلعة ، ولا بقية الأمراء المقدمين ، فبعث السلطان اليهم فى بيوتهم ..) ( بدائع الزهور :ج 3 : 360)
أخيرا :
1 ـ من تلك اللمحة التاريخية يتضح أن التطبيق العملى لذلك الحديث الكاذب الملعون أفسد موعد الصيام ، وجعل الصوم علاقة بين المسلم والسلطة و ليس بين المسلم وربه جل وعلا ، وأتاح للسلطة أن تستغله سياسيا فى الصراع السياسى،بل وصل الأمر الى النسىء بالتلاعب بالشهور الخمسة (شعبان ورمضان وشوال وذى القعدة وذى الحجة) حتى لا يقلق السلطان على مستقبله. ولو كان التحديد بالحساب الفلكى ما وقع كل هذا الفساد .
2 ـ ومع أننا نعيش عصر الفضاء و الثورة العلمية والمعلوماتية والاتصالات فلا يزال ذلك الحديث سائدا وساريا ومتحكما يضيع صيام المؤمنين ويثير السخرية بالاسلام والمسلمين . وكل ذلك بسبب الصحوة السلفية التى أرجعتنا الى الوراء ونحن فى القرن الحادى و العشرين .