ج1 ب1 ف 5 : إنتشار الكفر العلنى والتكفير

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠١ - يناير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

 الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى            الفصل الخامس :المرحلة الثالثة للعقيدة الصوفية : رفض الإسلام صراحة

إعلان الكفر وشيوع التكفير

أولا : بين الفقهاء

وتأثر بعضهم بهذا الجو المنحل عقيديا فاعتاد التلفظ بالكفر مع وصفه بالعلم والفضل ، ولكن وقف لهم الصوفية بالمرصاد وكأن عز عليهم أن ينافسهم أعدائهم في ميدان الزندقة والشطحات .. فقد ذكر العيني في حوادث 720 مقتل إسماعيل الزنديق .. وقد اشتهر بين الفقهاء بالعلم والفضيلة والأدب مع كثرة الهزل والتلفظ بالكفر حتى لقب بالزنديق ، فوقع في بعض الأيام في حق النبي لوط عليه السلام ، فشهد عليه جماعة وعقد له مجلس عند ابن الأخنائي المالكي فادعى اختلال عقله ... وهى الحيلة المأثورة في هذا المجال ـ فتوقف المالكي في أمره .. ولكن لم يسمح له الصوفية بالجنون والإفلات من القتل . فادعى صوفي أنه رأى النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المنام يأمره أن يقول ( قل للإخنائي يضرب عنقه فإنه سب أخي لوطاً ) فحكم القاضي بضرب عنقه ، وفي صبيحة مقتله رأى صوفي آخر النبي ومعه لوط عليهما السلام في منام يؤكد الدعوة لمقتل إسماعيل الزنديق فتم تنفيذ الحكم في ذلك الفقيه بين القصرين [1]. أي أن ذلك الفقيه تأثر بالصوفية وحاول مجاراتهم في الشطح والزندقة إلا أنهم جعلوا منها امتيازاً خاصاً لهم فعاقبوه بالقتل .. بينما نعم جهلة الصوفية بقول الشطح تأكيداً للولاية والعلم اللدني وتقليداً للأشياخ الكبار ..يقول فيهم الشاعر المملوكى الظريف  البهاء زهير [2].

              وجاهل يدعي في العلم فلسفة           قد راح يكفر بالرحمن تقليداً .

              من أين أنت وهذا الشئ تذكره          أراك تقرع باباً عنك مسدوداً

             فقال إن كلامي لست تفهمه             فقلت لست سليمان بن داودا

ثانيا : حوادث الردة  بين العامة والمماليك :

كان بعض المسيحيين يدخل الإسلام طمعا في منصب أو تخلصا من ورطة وقع فيها ، ثم اعتاد بعضهم الرجوع والارتداد إلى دينه ، بل وكان يقرن ردته بالسب في الإسلام والنيل من مقدساته [3]. بل ارتد بعض العامة عن الإسلام ولم يوافقوا على العودة إليه [4]. وفي تجريدة حربية إلى جزيرة رودس ارتدت طائفة من المماليك ورجعت إلى النصرانية [5]  .

 إلا أن أهم أثر للاضطراب العقيدي الذي أحدثه التصوف في العصر المملوكي يتجلى في شيوع التكفير أو سهولة الاتهام بالكفر ، على خطورة ذلك الاتهام الذي يستوجب الحكم بالقتل عندهم .

ثالثا : شيوع التكفير :

1 ـ شاع القول بالكفر بين الصوفية وغيرهم .. وتولى القضاة عقد المحاكمات لقائلي الكفريات .كان هذا فى مناخ يعُمُّه الجهل والتعصب وحدة العاطفة وكثرة الدسائس والحروب بين الصوفية والفقهاء وتدخلات السلطة المملوكية والنزاع المستمر بين القضاة، مع انعدام التقوى لدى  القضاة وتأثرهم بالتصوف وانحلاله   وحرص الصوفية على النيل من أعدائهم الفقهاء .. في هذه الظروف ، انتشر الاتهام بالكفر ، وكثر عقد مجالس الحكم وكانت تصدر أحكام القتل أو التعزير حسب الظروف السياسية أو مقتضيات الأحوال العادية من الميل أو النفور بين القاضي والمتهم وتدخلات الأطراف الخارجية من الصوفية والأمراء المملوكية ، كما ظهر في حوادث سابقة عرضنا لها ، ونعرض الآن  لشيوع التكفير في العصر المملوكي بين العامة وفي مجتمع الفقهاء . 

2- وقد كان أحدهم يقرأ في رياض الصالحين ، فشك في البعث وكيفياته فشُهد عليه وعُقد له مجلس فجدد إسلامه وحقن دمه [6]. وقال البرهان بن جماعة في مجلس :قال الله في كتابه العزيز : ضعيفان يغلبان قوياً .. فعقد له مجلس ، ولم يصبه بضرر [7]. وقال آخران أن التوراة والإنجيل بحالهما لم يبدلا ، فعزر [8]. واعتبر الشريف المكراني الزاهد من قال أن الرؤيا خيال باطل فهو كافر [9].وكفر بعضهم الصوفي يار علي المحتسب لأنه كتب في عقد الآية الشريفة " وانظر إلى حمارك ) وصور الحمار [10]. وكُفر ابن القاياتي لأنه وجد في مجمع لهو [11]  . وكُفر صوفي آخر لمعاضدته النصارى مع تهاونه في الدين [12].

3 ـ وكان التنابذ بالكفر والتكفير شيئا عاديا بين علية القوم من الفقهاء والصوفية والقضاة في الأحاديث العادية والاجتماعات والمناقشات والميعاد أى ( مجالس تلاوة البخارى ) . وقد قال ابن الكركي بأن لبس الطيلسان سنة اليهود، فقال السيوطي : بل هو يكفر لكونه ردّ سنة عن النبي [13].وعن مناقشات الصوفية والقراء أثناء قراءة ميعاد البخاري قيل ( وربما كفر بعضهم بعضاً ) [14]. وكان الأمير بيبغا مغرماً بتعظيم جنسه من التتر فمزح احدهم معه وقال ( إيش هو جنكيز خان ) فبادره بيبغا وقال له كفرت [15]. ومزح المعصراني وقال عن الخضيري لما قال أن اللحم على عجين لا يحتاج إلا سيرج : هذا كفر وتدارك وقال : هذا كفر في مذهب الأكالين فقيل له هذا الكلام أيضاً يقتضي الكفر فقال أنا ما قلت كفراً بالله [16].

4 ــ ولكثرة الكفير وشيوعه كتب بعضهم رسالة ( الألفاظ المكفرة )  يقول : ( وكنت أسمع من الخواص المتسمين بالعلم والمنخرطين في السلك .. والمكرمين بالمناصب والموصوفين بالدرس والإفتاء ما لا يليق بالأراذل الجهلة وبالعوام السفلة أن يتلفظ به من الألفاظ ، وأظن أنها توجب كفراً )، ( وقد جمعت الألفاظ المكفرات ليعلم كل مسلم ومسلمة ويعلم غيره ويحفظ لسانه ولا يحبط أعماله ، وهذه لا تخرج عن الأشياء الثلاثة ، إما الاستهزاء أو بالاستخفاف أو بالاستحلال ). وذلك المؤلف في رسالته يمثل الفقيه الحنبلى المتزمت المتعصب إزاء عصر منحل بالتصوف عقائدياً وسلوكياً ، فهو يكفّر من قال (بسم الله الرحمن الرحيم ) عند أكل الحرام أو عند الوقوع فى الزنا، أو من أخذ أجرة  على مصحف  أو من ضاق بالصلاة ، أو مجلس العلم ، أو ضاق بأوامر العلماء ( ومن قال أن مؤمن إن شاء الله أو أنا مسلم إن شاء الله من غير تأويل كفر ) إلخ .. وهكذا كانت طريقة المؤلف في الحصر بحيث أن من يقرأ يخيل إليه أن الناس يتنافسون وقتها كفرا  [17]  .

5 ــ ومع أن البقاعي يرى أن التكفير أمر عظيم لا ينبغي الإقدام عليه إلا بنص صريح [18]. فإنه أسرف في تكفير الاتحادية من الصوفية [19]. بل أنه يرى أنه لا شئ على من يكفر ابن الفارض [20]

ومع ذلك فإن خصوم البقاعي رموه بالكفر ، يقول السخاوي عن البقاعي : (ولما عُلٍم مقت الناس لهم وإسماعهم إياه كل مكروه من تكفير فما دونه )[21].

6  ــ ـواحتاط زعماء الصوفية لأنفسهم من التكفير وهم أقوى بواعثه ، فمن مقامات الشريعة : حفظ اللسان من عموم الألفاظ المكفرة [22]. يقول الشعراني : من حق الأخ على الأخ ألا يكفره بذنب ولو لاث الناس به ، إذ لا يخفى قلة ورع الناس في الكلام وعسر معرفة جميع الألفاظ التي يكفر بها الإنسان [23]  .وفي الأمثال الشعبية ما يعبر عن سهولة وكثرة الوقوع في الكفر ( أهل الميت سكتوا والمعازين كفروا ) ( أول القصيدة كفر ) [24]  .

7- والقضاة – كممثلي التصوف بين الفقهاء وكحكام في قضايا التكفير – كانوا من أكثر الطوائف وقوعاً في التكفير .. فبعض القضاة كان يكفّر زملاءه في الأحاديث والمجادلات العلمية (في عصر التقليد العلمي ) فقد عُزل قاضي القضاة تاج الدين السبكي وادُعي عليه بالكفر بسبب قوله في غضون كلامه ( فبطل دين الإسلام )[25]. والبساطي كان صوفياً يميل إلى ابن عربي حتى أنه قال بتأويل كلامه فقال له علاء الدين البخاري : كفرت ووافقه من بالمجلس [26]. وفي مجادلة علمية قال السبكي للإخنائي : لو كان الأمام مالك حياً لناظرته في هذه المسألة فعد ذلك الأخنائي خروجاً على الدين وقال :ايش أنت حتى تناظر الإمام مالك في هذه المسألة ، والله لو كان غيرك لفعلت به كذا يعني ضربت عنقه [27]. وتجادل السراج البلقيني مع ابن الصاحب إلى أن كفر البلقيني ابن الصاحب . وعقد بينهما مجلس حضره القضاة الأربعة ، حكم بعدم كفر ابن الصاحب ، وبقائه على دين الإسلام [28]. ويذكر أن السلطان برقوق قال بالتركية لمن حوله : إن القضاة ليسوا بمسلمين [29].

وبعض القضاة استخدم سلاح التفكير لقتل خصم له . فقد كانت هناك خصومة بين قاضي القضاة الحنبلى وأحد الفقهاء ، فعقد له القاضى مجلساً وحكم بقتله ، فأعلن الفقيه أن بينه وبين القاضي خصومة وطعن في الشهود ، وطلب عقد مجلس عند السلطان ، فلما رأى القاضي ذلك خشي أن أصبح دافع عن نفسه فطلبه في الحال وقتله بيده ، ثم جعله في تابوت ونادي عليه بالكفر [30].

وقد استفتى على شخص بدعوى أنه أنكر البعث ، واتضح الأمر بأنه كان يسعى للقضاء بمال فلفقت له هذه القضية [31]ونظير ذلك ما وقع  للشيخ مصطفى الفرماني من كائنة عظيمة وتعصب عليه بعض الفقهاء ونسب إليه كفر حتى حكم بإسلامه ثانياً [32]." وعزل الوزير ابن السلعوس قاضي القضاة ابن بنت الأعز وعمل محاضرة بكفره ، وأخذ خط الجماعة إلا خط ابن دقيق العيد " الذي رفض التوقيع عليها لأن إمضاءه ستكون السبب الأقوى في قتله [33]. وأراد علاء الدين الرومي السعي في مشيخة الخانقاه الشيخونية عوضاً عن الشيخ باكير فأمتنع السلطان رغم الإلحاح عليه ، فشرع علاء الين في الحط على الشيخ باكير ،وفي مجلس علم بحضرة السلطان جادله باكير وكفره ، وطلب باكير من السلطان الإذن للشافعي أن يأخذ حقه من علاء الدين فأذن له ، وعقد المجلس وادعى على الرومي أنه كفره بحضرة السلطان فأنكر الرومي ، واستمرت المنازعات إلى أن أصلح بينهما السلطان [34].وكان التفهني صاحب حدة ، وقد حكم بتكفير الميموني وإراقة دمه في الملأ فقال ابن حجر : " قاضي القضاة متغاظ حتى يسكن خلقه ، وانفض المجلس وتلاشى حكم التفهني بعد أن أوسعه الميموني إساءة في المجلس ،والتفهني يكرر حكمه بإراقة دمه [35].



[1]
عقد الحمان مخطوط حوادث 720 لوحات 239 : 241 . نهاية الأرب مخطوط جـ 30 / 135 .

[2] ديوان البهاء زهير 30 .

[3] تاريخ ابن إياس جـ 1 /2 / 331 .

[4] تاريخ ابن إياس جـ 1 /2 / 324 .

[5] تاريخ ابن إياس جـ 2/ 238 تحقيق محمد مصطفى .

[6] حوادث الدهور 31 .

[7] تاريخ البقاعي 37 مخطوط .

[8] تاريخ الجزري جـ1 /17

[9] التبر المسبوك 370 .

[10] حوادث الدهور جـ 2 / 383 .

[11] حوادث الدهور جـ 3 / 424 .

[12] تاريخ البقاعي 152 .

[13] الطبقات الصغرى 33 .

[14] السلوك جـ 4 /2 / 1031 : 1032 .

[15] النجوم 14  ، 320 .

[16] تاريخ ابن طولون جـ 1 / 127 .

[17]  الألفاظ المكفرة 102 : 121 .

[18] الضوء اللامع جـ 1 / 108 .

[19] تاريخ البقاعي مخطوط 8 أ، 9 0

[20] تحذير العباد للبقاعي 251

[21].الضوء اللامع جـ 1 / 106 .

[22] النفحات الأحمدية 172.

 

[23] صحبة الأخبار  61           

[24] الأمثال الشعبية تيمور 123 ، 124 .

[25] ذيل ابن العراقي  769

[26] البقاعي تكفير ابن عربي 139 .

[27] تاريخ ابن إياس جـ 1 /1 / 107 .

[28] تاريخ ابن إياس جـ 1 /2 / 324 ، نزهة النفوس جـ 1 / 52 .

[29] تاريخ ابن إياس جـ 1 /2 ،291 .

[30] حوادث الدهور جـ2/ 203 ، والنجوم الزاهرة جـ16 / 172 .

[31] تاريخ البقاعي 12 ب .

[32] تاريخ ابن إياس جـ 1 /2 / 473 .

[33] أعيان العصر مخطوط جـ 6 /1، 91 . .

[34] إنباء الغمر مخطوط حوادث 840 ورقة 980 ، 981 .

[35] النجوم الزاهرة 15 ، 175 : 176.

اجمالي القراءات 8638