ولأننا نحتاج فسحة من الوقت نتنفس فيه بعض ما أفسده البخاري وجنوده آثرت أن اقوم بهذه الفسحة ... واخترت لها قصيدة شعرية في مجال الخيال ، فالشاعر هنا تطلع للمثل العليا وطمح لنيل المستحيل .. شاعرنا هو عبدالرحمن شكري ، شاعر مصري ولد سنة 1886 من أسرة مغربية الأصل ، كان لاتصال والده بالعرابيين وسجنه معهم سببا في نقله إلى بور سعيد ، حيث ولد عبدالرحمن شكري، ولأن الولد بعض أبيه ، فقد نقل من مدرسة الحقوق لنشاطه السياسي ، إلى مدرسة المعلمين حيث التقى بريفقي مدرسته العقاد والمازني وكون ثلاثتهم معا مدرسة الديوان الشهيرة بسماتها المعروفة .. التي من أهم سماتها :تاثرهم بالثقافة الإنجليزية بجانب العربية ،وكان لهذا التأثر رغبتهم من التحرر من الوزن والقافية ، لكن قصيدتنا التي سنتناولها اليوم ملتزم فيها شاعرنا عبد الرحمن شكري بالوزن والقافية ، سمة أخرى نراها متحققة لمدرسة الديوان في هذه القصيدة وهي التحليق في الخيال والتطلع للمثل العليا ، كما تحققت سمة أخرى لمدرسة الديوان في هذه القصيدة وهي وضوح الجانب الفكري ، وكأنه يحكي قصة ، الحزن والغربة نظرا لوجود الاستعمار في مصر :يعبر النص عن رحلة خيالية لشاعر رومانسي طامح للوصول للكمال في الجمال الشعري ، وقد أصابه اليأس لفشله في بلوغ هدفه ... معا لنقرأ القصيدة:
قد حدثوا عن شاعر نابغ مجود الشعر شريف المقال
لم يعــشق الغــيد لكنـــــه هام ببكر من بنات الخـــــيال
صورة حُسن صاغها لبه وحدها فى الحسن حد الكمال
لقد كثر الحديث عن شاعر عبقرى نابغ يسعى وراء المثل الأعلى ويعشق الكلمة الشعرية ويفتن بالصورة المثالية التى يرجو بلوغها ويهجر من أجلها الحسناوات الجميلات ويتعلق بالمعانى الشعرية النبيلة وقد رسم عقله صورة خيالية لهذا العالم الكامل من صور المعانى،الشاعر في بداية القصيدة متأثر بشاعر قديم من شعراء العصر الأموي الشيعي هو الكميت القائل:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا منى وذو الشيب يلعب
* يقال مطلع القصيدة تجديد غير مألوف وذلك لأن الشاعر لم يبدأ القصيدة بالغزل فى الفتيات الجميلات وإنما تحدث عن المعانى المبتكرة والصور الجمالية الرائعة ، ونتابع معا قراءة القصيدة :
فصار كالطفل رأى بارقا هاج له أطماعه فى ا لمحــا ل
يمد نحو ا لنجم كـــــــفا له ويحسب ا لنجم قريب ا لمنا ل
فأ ينما سار تــــــراءت له كما تراءى خــادعــا لمـــع آ ل
فسار يقفو إثرها هائـــــما وا لمهتدى با لوهم جم ا لضلال
وهم أن يمسكها جاهـــــدا بين ذراعيه بأيد عــجــــــــــا ل
لقد أصبح الشاعر المتعلق بالجمال مثل الطفل الذى رأى شيئا لامعا أمامه ، فتحركت نفسه إليه ، ورغب فى امتلاكه مع أن هذا مستحيل، ومد يده إلى هذا الجمال المثالى الذى تخيل أنه قريب منه، وكلما تقدم نحوه ظهرت آماله قريبة منه مع أنها مثل السراب الخادع يظهر ويختفى سريعا، فتقدم نحو هذه الصورة عاشقا لها يتتبع آثارها لكنه كان مخدوعا يعيش فى الوهم ومن يتمسك بالوهم فلن يصل إلا إلى الوهم، وأسرع يمسكها بيديه ، ويحيطها بذراعيه عندما ظن أنها قريبة منه.كما أننا نلمح تأثر عبدالرحمن شكري بلغة التراث التي تنتقدها مدرسة الديوان التي ينتمي إليها فرأينا كلمة غريبة نادرة جاء بـ (آل ) التي تعني السراب ، وهذا يعني أنه ابنا لهذه الثقافة مهما انتقدها وقد تأثر هنا أيضا بالقرآن الكريم :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)النور
أمل لم يحقق:
ما زال يعدو جهده نحـــوها حتى هوى من فوق تلك ا لتلال
فرحمة الله على شاعـــــــر مات قتيلا للأمانى ا لطـــــوا ل
استمر يجري وراءها بكل طاقته ، ولم تتوقف محاولاته إلا بعد سقوطه قتيلا من فوق تلال أحلامه السامية يائسا فاشلا في الوصول لما يريد . ورحم الله ذلك الشاعر الذي مات ضحية البحث عن آماله السامية الرفيعة.
قتيلا: نكرة للتهويل والإشفاق وهو غير دقيق حيث يوحي بالغدر ولا يتفق مع سمو هدف الشاعر ونبل هدفه وكان الأفضل شهيدا ، ولكن نقول إن الذي يقع من فوق التلال لا يكون شهيدا بل قتيلا .
*الأماني: جمع للكثرة *الطوال: جمع يوحي بسمو ورفعة آماله
*مات ، قتيلا: إطناب بالترادف لتوكيد المعنى ولإثارة الإشفاق والحسرة . وهناك فرق بين القتل والموت ، فالقتل إزهاق بنية ثم نفس ، بينما الموت إزهاق نفس ثم بنية
* ما زال يعدو جهده نحوها : تقديم جهده أفاد التنبيه والتوكيد
*ما زال يعدو جهده نحوها:استعارة مكنية تجسم الحلم هدفا ماديا يمكن الوصول إليه.
*هوى من فوق تلك التلال: كناية عن الفشل وسر جمالها الإتيان بالمعنى مصحوبا بالدليل في إيجاز وتجسيم
*التلال: استعارة تصريحية حيث شبه الآمال بالتلال وحذف المشبه وصرح بالمشبه به تجسيما للمعنى
*مات قتيلا للأماني الطوال: استعارة مكنية حيث صور الأماني الطوال آلة قتلت الشاعر تجسيما للمعنى وإبرازا لنبل الشاعر وسمو تضحياته .
*فرحمة الله على شاعر: أسلوب خبري لفظا إنشائي معنى غرضه التقرير ونتيجة منطقية لمحاولات الشاعر النبيلة للوصول للأحلام السامية وبعد كفاه شرف المحاولة في الوصول إلى الأماني مهما كانت مستحيلة فقط قام بكل ما عليه في سبيل تحقيقها ، فهم ان يمسكها وتكبد جهدا كبيرا في ذلك ، كما أننا رأيناه يجري بقدر ما تسعفه قواه ، ولكنه دفع ثمنا غاليا لأمانيه ، وهذا الثمن لو فكرنا قليلا سنجد أننا ندفعه جميعا سواء كان لدينا أماني وطموح للمعالي ، أم كنا نجلس بلا أماني ونعيش حياةحذرة .. فالحياة مهما طالت هي دقائق وثوان كما قال الشاعر :
دقات قلب المرء قائلة له ... إن الحياة دقائق وثوان