ج1 ب1 ف 4: صراع الفقهاء والصوفية فى القرن التاسع قبل حركة البقاعى

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٨ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى           

 الفصل الرابع : وحدة الوجود وصراع الفقهاءمع الصوفية في القرنين التاسع والعاشر الهجريين .

  صراع الفقهاء والصوفية فى القرن التاسع قبل حركة البقاعى   

صوفية ايرانيون متطرفون قادمون لمصر           

1 ــ في بداية القرن التاسع توافد إلى مصر جماعات من أوباش الاتحادية من الشرق احترفت التسول في الطرقات. وكان صدى حركة ابن تيمية لا يزال في الأسماع فهب علاء الدين البخاري الصوفي يهاجم ابن عربي وابن الفارض والاتحاديين ويؤيده في ذلك السلطان ومنافقو القضاة الصوفية .وهكذا فإن الثلث الأول من القرن التاسع شهد خفوتاً في صوت الاتحادية مع كثرتهم العددية الوافدة إلى مصر ، ووصل الأمر إلى حد اضطهاد البارزين من أوباش الاتحادية فقيل في ترجمة إسماعيل الرومي ( ت 834 ) وقد أقام بالخانقاه البيبرسية أنه ( أُمتحن بمقالة ابن العربي ونُهي مرارا عن إقرائها .. وكان يُقرئ العربية والتصوف والحكمة ) [1]. في الخانقاه المذكورة ، وقيل نفس الكلام عن ابن الفنري ( ت 834 ) أنه ( قدم مصر وله عشرون سنة وكان يُعاب بنحلة ابن العربي وبأنه يُقريء الفصوص ويقرره ، وكان بعض من اعتنى به أوصاه ألا يتكلم في شيء من ذلك ) [2] . أى كان من عادة الأعاجم القادمين إلى مصر أن يقرروا عقائدهم في الخوانق كما كان يفعل نصر العجمي [3] ( ت 833) .

2 ــ إلا أن أساطين الصوفية تحرجوا من شدة الإنكار عليهم من تلاميذ ابن تيمية من ناحية وعلاء الدين البخاري من ناحية أخرى ، فطالبوا بعض الصوفية الاتحادية بالتخفيف ، خصوصاً دارسي عقائد الاتحاد من القادمين والعاملين في الخوانق الصوفية حتى أن بعضهم رجع عن عقيدة الاتحاد مثل الشاعر البشتكي [4] .

بل أن بعض الأمراء المماليك من معتنقي هذه العقيدة تأثر بهذا الجو المحيط فقيل قي ترجمة يلبغا السالمي الخاصكي ( ت 811 ) أنه " كان يبالغ في حب ابن العربي وغيره من أهل طريقته ولا يؤذي من ينكر عليه " [5]   . أي لا يؤذي خصوم ابن عربي مع أنه يبالغ في حب ابن عربي .

3 ــ وانفعل بعض الصوفية المصريين بهذا الجو فاستعاد نفاق الجنيد واقتصر في كلامه عن الاتحاد على خواص تلاميذه ، ومن أولئك أحمد الزاهد ( ت822) " وكان يقال له جنيد القوم ، وكان يتستر بالفقه ، لا تكاد تسمع منه كلمة واحدة من دقائق القوم " [6] . والتزم تلميذه الشيخ مدين الأشموني ( ت 781) بهذا الطريق – رغم تغير الأحوال في عهده – يقول فيه الشعراني ( تفرعت عنه السلسلة المتعلقة بطريقة أبي القاسم الجنيد ، وكان رضاعه على سيدي أحمد الزاهد ) [7]. ، وقال السخاوي في ترجمته( وأما في تحقيق مذهب القوم ( أى التصوف ) فهو حامل رايته والمخصوص بصريحه وإشاراته ، مع أنه لم يكن يتكلم فيه إلا بين خواصه ) [8]  . ومع ذلك فلم يسلما من الإنكار عليهما ، فقد أنكر ابن حجر والسراج البلقيني على أحمد الزاهد ، وأنكر على مدين ( أحد أعيان السادة المالكية ) [9]  .

إنكار المقريزى وابن حجر على الصوفية المتطرفين

1 ــ واتفق في هذا القرن ظهور كثير من أعلام العصر المملوكي ممن جمعوا بين الفقه والقضاء والتاريخ ، مع الإنكار على الصوفية الاتحاديين ، وقد تتلمذوا على مدرسة ابن تيمية ومصنفاته ..وأبرزهم المقريزي (ت845 ) ، وقد صنف رسالة في دحض مذهب الاتحاد خلص فيها إلى أن أتباع ابن عربي ليسوا بمسلمين [10] ، وهاجم صوفية عصره كلهم ، فقال فيهم (ذهب والله ما هنالك ، وصارت الصوفية كما قال الشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس العمري :-

       ما شروط الصوفي في عصرنا اليوم           سـوى سـتة   بغـير زيــادة

        وهـى( نيك)  العلـوق و السكـر            والرقص والغنا و القيادة

        وإذا مـا هـذى وأبـدى اتحـاداً              وحلـولاً مـن جهـله وأعـاده

        واتى المنكـرات عقـلاً وشرعـاً              فهو شيخ الشيوخ ذو السجـادة

ويعقب المقريزي بقوله (ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها ، حتى صاروا من سقط المتاع لا ينسبون إلى علم ولا ديانة ، وإلى الله المشتكي )[11].

2 ــ وكان ابن حجر العسقلانى  (ت852 ) يعبر عن كراهيته لأتباع ابن عربي في تراجمه يقول عن الصوفى الشاذلى : علي وفا (شعره ينعق بالاتحاد المفضي للإلحاد )[12]. وذكر نضال أبي عبد الله الكركي عن الاتحاديين فقال عنه ( اجتمعت به وسمعت كلامه ، وكنت أبغضه في الله تعالى )[13] . وامتدت كراهيته للصوفية جميعاً : يقول في ترجمته ابن مفلح ( اشتغل قليلاً وسمع من جماعته ، ثم انحرف وسلك طريق الصوفية )[14] .وقد شهد ابن حجر المتوفي سنة ( 852 ) ازدياد نفوذ بعض الاتحاديين ، وكان أحدهم مقرباً عند الظاهر برقوق  في عصر اشتدت فيه المغارم ، وتجادلا في ابن عربي فهدده الصوفي بالوقيعة فيه عند برقوق ، فخافه ابن حجر وأقنعه بالمباهلة ، فتباهلا ، ومات الصوفي بعدها  [15]..

3 ــ وعرضنا لدور فقهاء القرن الثامن في الرد على مصنفات ابن عربي والحكم بتكفيره ، وقد تابعهم بعض الفقهاء في القرن التاسع ،وأهمهم الشريف الجرجاني وأحمد بن الزين العراقي وابن الأهدل وابن الجزري وإبراهيم الرقي وتقي الدين الفاسي [16]..

علو نفوذ الصوفية المتطرفين والتمهيد لحركة البقاعى

1 ــ وتغيرت الأحوال في النصف الثاني من القرن التاسع بموت أعلام الفقهاء وعلاء الدين البخاري ..فتحمس أصحاب الاتحاد ، وقد ازدادوا كثرة وأصبحت لهم صلات بالسلاطين والأمراء  ، فقيل أن الأمير تمربغا ( ت 879 ) " يحب شياطين الصوفية حتى وصل إلى اعتقاد أهل الاتحاد فكان يقول : وماذا على الإنسان إذا قال أنا الله " [17]. أي أنهم أثروا عليه حتى جارهم في قول الشطح ..وبعضهم أخذ في الدعوة لمذهبه يجمع الناس على الذكر مثل خلف المشالي ( 874 ) " وكان ممّن يميل إلى ابن عربي وينظر في فتوحاته المكية ، والغالب عليه الإكثار ممن نقل كلامه " [18] . بل كان من الاتحاديين زكريا الأنصاري شيخ الإسلام في عهده – ويا لها من سخرية – وقد قال عنه السخاوي ( وهو أحد من عظّم ابن عربي واعتقده وسماه وليٌا ، وعذلته في ذلك مرة بعد أخرى فما كفّ ، بل تزايد إفصاحه بذلك بآخره ،وأودعه في شرحه للروض ) [19] .

2 ــ لذا لم يكن مستغرباً أن يتعود أتباع ابن الفارض إنشاد كلامه يوم الجمعة عند قبره [20] . وصارت لهم صولة وجولة استدعت أن يقوم البقاعي بحركته التي هزت التاريخ المملوكي في الربع الأخير من القرن التاسع الهجري.

 



[1]
إنباء الغمر جـ3/ 465 .

[2] إنباء الغمر جـ3/ 465 .

[3] النجوم جـ15 / 165 : 166 .

[4] إنباء الغمر جـ3/ 392 : 392 .

[5] شذرات الذهب جـ7 / 95 : 96 .

[6].لطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 75 ط صبيح .

[7]الطبقات الكبرى للشعراني جـ2/ 92  ط صبيح .

[8] ترجمته في الضوء اللامع.

[9] الطبقات الكبرى المرجع السابق جـ2/ 75، 93 .

[10] ذكرها جورج قنواني في أبحاث الندوة الألفية للقاهرة  جـ1 /359 : 360 .

[11] الخطط المقريزي جـ 3 / 401 ط دار التحرير .

[12] إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30  ،  496 بالترتيب

[13] إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30   ، 496 بالترتيب

[14]. إنباء الغمر جـ2 / 309 ، 30   ، 496 بالترتيب

[15] تنبيه الغبي 150 للبقاعي

[16] تنبيه الغبي 79 ،80 ،135، 151 ، 196، 152 ،180 ،157 ، 180 ،190 .

[17] تاريخ البقاعي : مخطوط ورقة 153 ب .

[18] الضوء اللامع جـ3/ 186 .

[19] الضوء اللامع جـ3/ 234 .

[20] الطبقات الكبرى للمناوي 99 ب .

اجمالي القراءات 9844