عزمت بسم الله،
مشيئة الله تعالى اقتضت أن ينشئ من الأرض بشرا واستعمرهم فيها. هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ...(61).هود. لقد سخّر المولى تعالى للبشر ما في السماوات وما في الأرض جميعا. وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(13).الجاثية. ينقسم البشر إلى فسمين مصلحين في الأرض، ومفسدين فيها، فهل يستوي المصلحون والمفسدون؟ طبعا لا يستوي الذين يصلحون في الأرض مع الذين يفسدون فيها. مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ * قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100).المائدة. إذن فإن الله تعالى أعد ليوم الدين الجزاء، إما بجنة النعيم لمن عمل صالحا. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89). الواقعة. وإما بعذاب الحميم لمن زين لهم سوء أعمالهم. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ(48).الدخان. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ(30).آل عمران.
بما أن الله تعالى أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29).الفتح. وأعد للذين يسعون في الأرض فسادا عذابا عظيما. ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33).المائدة. أقول بما إن الله تعالى ليس بظلام للعبيد. فلا يمكن أن يساوي بين من يعمل صالحا في حياته، ويترك وراءه آثار عمله الصالح بعد مماته، وبين من يفسد في الأرض في حياته ويترك آثار فساده في الأرض بعد مماته. قال رسول الله عن الروح عن ربه:فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8).الزلزلة. ربما يقول قائل: ( فمن يعمل) وليس ( فمن يترك وراءه) أي أثاره). أقول إن قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).يسن. فإن الله تعالى يبين أن ما قدم العبد من عمل، وآثار عمله بعد وفاته قد أُحصي في كتاب مبين. وهذا في نظري من كرم الله تعالى وعدله، لأن الذي يعمل صالحا طول حياته، يدعو الناس بالتي هي أحسن إلى الصراط المستقيم، ويؤلف في ذلك كتبا، ويلقي محاضرات، ويشارك في الإصلاح في الأرض بماله ونفسه، كل ذلك ابتغاء مرضات الله تعالى، لأنه متيقن بالجزاء الأوفى يوم الدين، فلا يمكن أن يستوي مع من عمل سوء وترك وراءه آثار عمله السيئ…
قال رسول الله عن الروح عن ربه:
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى(39)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى(41).النجم.
ربما يتساءل سائل عن قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى). أقول نعم وهو كذلك، ليس للإنسان إلا ما سعى هو بنفسه في الحياة الدنيا، لكن هل يستوي الذي يسعى إلى الخير والعمل الصالح ويترك بعده آثار ذلك لمن بعده؟ وبين من يسعى في إضلال البشر والفساد في الأرض ويترك آثار ذلك وراءه لمن يواصل الفساد في الأرض؟ في نظري لقد فصل الله تعالى في الأمر فقال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).يسن. إن هذه الآية الكريمة تبين بكل وضوح أن ما يقدم العبد من عمل وآثاره، أي آثار العمل، سواء كان إصلاحا في الأرض أو فساد فيها، فإنه يجده محصى في كتاب مبين يوم الدين ويجزى على ما قدم وعلى آثار ما ترك وراءه، من خير أو شر أو إصلاح أو فساد.
للنظر في كتاب الله تعالى ما ذا تعني كلمة ( آثار)، قال رسول الله عن الروح عن ربه:
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ(22)وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23).الزخرف.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70).الصافات.
ألا تدل هذه الآيات الكريمة على أن القوم اتبعوا آثار آبائهم الضالين المغضوب عليهم؟
لذلك يُذكّر الله تعالى عباده بأن لآثار عملهم كتابا ينطق بالحق، يكتب ما قدموا من عمل وآثار عملهم من بعدهم، فلا يستوي الذين عملوا الصالحات في حياتهم وتركوا من بعدهم آثارا حسنة، من ذرية طيبة هي على آثار آباءهم الطيبة يهرعون، وتركوا مشاريع خير ينتفع بها خلق الله تعالى، وكانوا في ذلك يتسارعون ويتسابقون في الخيرات، وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، وكانوا بآيات ربهم يؤمنون وكانوا برهم لا يشركون، فهل يستوون مع من ترك آثارا سيئة ؟؟؟
قال رسول الله عن الروح عن ربه:
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ(59)وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61).المؤمنون.
ولنضرب مثلا هل يستوي آثار ما تركه الإمام محمد بن إسماعيل ( البخار) في كتابه ( الجامع الصحيح)، من كذب على الله ورسوله، وروايات هي عبارة عن فتنة موقوتة تعيشها البشرية منذ القرون الأولى للهجرة، وبين ما تركه المخلصون من عباد الله تعالى أمثال الشيخ محمد عبده وغيره من المؤمنين بيوم الدين...
إليكم أعزائي رواية واحدة من آثار روايات البخاري، التي يستند إليها (الدواعش ) وكل من أراد أن يفسد في الأرض:
3342 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
صحيح البخاري - (ج 11 / ص 443)المكتبة الشاملة.
قال رسول الله عن الروح الأمين عن ربه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220).البقرة.
وهذه آيات تبين معنى قوله تعالى: (وَآثَارَهُمْ).
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(46).المائدة.
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6).الكهف.
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(27).الحديد.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12).يسن.
ختاما في نظري فإن الإنسان سوف يُسأل يوم الدين عن ما قدم وأخر، سواء كان خيرا أو شرا، سوف يجزى عليه، إما بنعيم مقيم، إذا كان عملا صالحا، وإما بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
قال رسول الله عن الروح الأمين عن ربه: يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10)كَلَّا لَا وَزَرَ(11)إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(12)يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13)بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14).القيامة.
والسلام على من اتبع هدى الله تعالى فلا يضل ولا يشقى.