الباب الأول ـ الفصل الثانى
ßÊÇÈ الصيام ورمضان : دراسة اصولية تاريخية
ذلك الحديث الكاذب الملعون. صوموا لرؤيته

في الخميس ١٩ - ديسمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة
محققو الدين السنى قالوا بأنفسهم بان أحاديث الاحاد لا تفيد اليقين ، وتقوم على الشك ، وقال أغلبهم إن كل الأحاديث الموجودة لدينا هى أحاديث آحاد ، فكلها يعتمد على السند ، أى سلسلة من الرواة تنتهى الى النبى محمد عليه السلام. وذلك السند تم صنعه فى العصر العباسى .
ونحن نقول ان ذلك السند باطل ، وأن الرسول عليه السلام برىء من قول كل تلك الأحاديث . أى كلها كاذبة من حيث السند . ولو أنصف أولئك الرواة لنسب كل منهم قوله لنفسه بدلا من أن ينسبه ظلما وزورا للرسول محمد عليه السلام.
و الحديث هو سند ومتن .
ومن حيث المتن فبعض الأحاديث تقول شيئا لا بأس به ، أى لا تعارض القرآن الكريم ،أو ربما تتفق معه . هنا نقول انها كاذبة من حيث نسبتها للنبى محمد عليه السلام ، ولكن لا بأس بما تقول ، وكنا نتمنى أن ينسبها صاحبها لنفسه بدلا من التمسح بالنبى بعد قرون من موت النبى .
ولكن بعض الأحاديث تقول فى متنها ما يخالف الاسلام فى شريعته و عقيدته وأخلاقياته . هنا يكون الحديث كاذبا من حيث السند وملعونا من حيث المتن .
وينطبق هذا على تلك الأحاديث الملعونة التى تجعل بدء وانتهاء شهر رمضان بالرؤية ، وقد رمزنا لتلك الأحاديث بواحد منها وهو( صوموا لرؤيته ) .
هذا الحديث منذ اختراعه وحتى الان وهو يسبب صداعا سنويا للمسلمين ، يفرقهم ويضيع صيامهم ، وتحاول الوهابية السلفية فرض هذا الحديث المتخلف على صيام المسلمين . لذا نقدم فى هذه الدراسة الأصولية التاريخية الموجزة ـ توضيحا لنشأة هذا الحديث وبعض ما سببه من مشاكل فى تاريخ المسلمين ..
لعل .. وعسى ..

الحساب الفلكى هو الأصل فى تحديد الشهور العربية :

الثابت تاريخيا معرفة البشربالتقويم الشمسى والقمرى قبل نزول القرآن الكريم بقرون طويلة. عرف ذلك المصريون القدماء ، وعرفته حضارة الرافدين فى العراق ،بل وثبت أن الحساب الفلكى عرفته حضارات فى اقصى الشرق فى الصين وفى أقصى الغرب فى حضارة المايا المنقرضة فى امريكا قبل ان يكتشفها الأوربيون. وأقام الرومان التقويم الميلادى (الشمسى ) وفرضوه على مصر ، للمصريين وقتها ـ وحتى الآن ـ تقويم قومى فرعونى بلغته ( القبطية ) ، ثم بعد الهجرة اقام المسلمون تقويمهم القمرى الهجرى طبقا للمتعارف عليع عندهم من ايثار التقويم القمرى.
وعرف العرب كل هذا قبل نزول القرآن الكريم ، خصوصا قريش بعلاقاتها العالمية التى تحكمت فى تجارة الشرق والغرب بين الهند وأوربا فى رحلتى الشتاء و الصيف من اليمن الى الشام ، ولأن قريش هى التى هيمنت على شعيرة الحج ، وهو مرتبط بتحديد زمنى سنوى . وأكثر من هذا فان قريش كانت ـ بكهنوتها ـ مركز ما تبقى من ملة ابراهيم من شعائر لم تقتصر على الحج ولكن ضمت اليه صوم رمضان ، وأول آية فى صيام رمضان تشير الى معرفة العرب قبل القرآن بصيام رمضان ، ولذلك نزل تشريع الصيام بنفس ما كان مكتوبا على السابقين ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة 183) ثم جاءت فى الآيات التالية تيسيرات جديدة فى الصيام ( البقرة 184 ـ ) .
وحتى العرب فى تحريفاتهم الدينية فى ملة ابراهيم استخدموا فيها معرفتهم بالتقويم الفلكى ، فالنسىء مثلا لا بد فيه من معرفة أوائل الشهور العربية ليستبدلوا واحدا منها بالآخر ،أو ليستحلوا واحدا ويحرموا الآخر ، ويتضح هذا من قوله تعالى :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) الى ان يقول تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )( التوبة 36 ـ ) .
وعليه فان الآيات القرآنية التى تشير الى الحساب الفلكى كانت تشير ايضا الى معرفة به لدى العرب ، وهم أول من قرأ القرآن وتحاور وتعامل معه ، وبمعنى آخر فان العرب كانوا أول من خوطبوا بتلك الايات القرآنية التى تشير الى الحساب الفلكى وارتباطه بآلاء الله جل وعلا فى الكون من حركة الشمس والقمروالأرض ، كقوله جل وعلا (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً )( الاسراء 12 ) (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( يونس 5 ) (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (الرحمن 5 ) (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )( الانعام 96 ).
وواضح أن الله جل وعلا اتخذ من معرفتهم بالحساب الفلكى حجة عليهم ، ليذكرهم بأنه جل وعلا هو خالق هذا الكون الذى يسبر بحساب دقيق.
والبيئة الصحراوية بليلها الصافى كانت مما يبعث على التفكر فى الكون والتأمل فى السماء ونجومها. والسير فى الصحراء ليلا جعل العرب يعتمدون على النجوم ، وانعكس هذا فى أشعارهم ، وفيما أطلقوا على النجوم من أسماء ، بل إن الله تعالى يشير الى معرفتهم بالنجوم واستخدام هذه المعرفة فى السير ليلا فقال تعالى عنهم (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ( النحل 16 ). والاهتداء البدائى بالنجوم والذى عرفه العرب فى (الجاهلية ) أصبح الان مجالا من أهم مجالات الفضاء.
وقد سأل بعض المؤمنين النبى محمدا عليه السلام عن الأهلة ، ونزل الوحى بالاجابة التى تؤكد المتعارف عليه من ان الأهلة هى مواقيت للناس والحج :(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (البقرة 189). وهنا تأكيد على معرفتهم بالحساب الفلكى واستعماله فى مواقيتهم وفى تحديد بداية الشهر الأربعة الحرم (أشهر الحج ). ولو كان الأمر مجرد (رؤية ) الهلال ما قال تعالى (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ) فالمواقيت عامة تعنى تفصيلات التقويم اليومى ولأيام الشهر القمرى ،أى الحساب الفلكى ـ و ليس مجرد رؤية الهلال .
وهناك اختلاف بين التقويم القمرى والتقويم الشمسى ، وقد أشار الله جل وعلا له إشارة لطيفة فى قوله تعالى عن نوم اهل الكهف :(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)(الكهف 25 )، أى إنهم لبثوا 300 سنة بالتقويم الشمسى ، و309 سنة بالتقويم القمرى . وكان سائدا وقت نزول القرآن معرفة التقويمين والفروق بينهما وكيفية التحويل من هذا التقويم الى ذاك .
نقول هذا لنؤكد على إن إشارات القرآن الكريم للحساب الفلكى لا تعنى فقط معرفة العرب بالحساب الفلكى واستعمالهم له ،ولكن ايضا قيام فرائض الاسلام التعبدية على ذلك الحساب الفلكى ، سواء كانت فريضة يومية كالصلاة أو سنوية كالصيام و الحج. ويلفت النظر هنا حديث القرآن الكريم عن مواعيد التسبيح التى تشى بمعرفة بالحساب الفلكى كقوله تعالى ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور 48 ـ ) وقوله جل وعلا : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ) (طه 130 )
بل إن التعبير القرآنى عن وقت يقظة الانسان فى نهاره جاء مثقلا بثقافة الحساب الفلكى ، كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (الاسراء 78 ) (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ ) (هود 114 ) ففى تلك الأوقات من يقظة الانسان يجب عليه ان يراعى ربه فيه مقيما للصلاة محافظا عليها بالسلوك الحسن والتقوى. كان يمكن أن يقال مثلا ( حافظوا على الصلاة أو أقيموا الصلاة طالما لم تكن نائما ، أو طالما كنت يقظا ..)
وبالتالى فان صيام رمضان كان يجرى طبقا للحساب الفلكى قبل وبعد نزول القرآن الكريم ، ليس مجرد الصيام بل ايضا تحديد أول يوم من رمضان . لم يكن هناك تحديد برؤية الهلال وانما بالحساب الفلكى الذى احتفل به القرآن الكريم وعرفه العرب قبل الاسلام. ثم اختلف الحال فى العصر العباسى الذى شهد صناعة ذلك الحديث الكاذب الملعون .
لو كان تحديد بدء الصيام وانتهائه برؤية الهلال لقال الله تعالى ذلك فى القرآن الكريم فى حديثه عن القمر و الشمس ، ولكن رأينا هذا الحديث مؤسسا على الحساب الفلكى وليس مجرد رؤية الهلال. ولو كان تحديد الصيام برؤية الهلال لذكر الله تعالى ذلك فى تشريع الصيام . ومنهج القرآن الكريم ألاّ يذكر الشىء المعروف المتعارف عليه من ملة ابراهيم ، وهذا واضح من الايات القليلة التى نزلت فى تشريع الصيام فى رمضان ،إذ أنه بعد الاشارة الى انه مكتوب عليهم بنفس الطريقة التى كانت على السابقين جاءت تفصيلات فى الجديد من تشريع الصوم تقوم على أساس التيسير ، دون أن توضح ما هو معروف للعرب مثل معنى الصيام ، وبدء شهر الصيام بالحساب الفلكى.
وقد كان الحساب الفلكى من معالم ملة ابراهيم ، ولا ننسى أن ثقافة قوم ابراهيم الدينية كانت تحوى عبادة النجوم والكواكب مع عبادة الله جل وعلا، وأن ابراهيم عليه السلام فى بداية بحثه عن الحق ناقش مع نفسه عقم عبادة النجوم و الكواكب مع الله جل وعلا :( الانعام 75 ـ ).
هنا يثور سؤال عن التربة التاريخية التى نبت فيها أحاديث (صوموا لرؤيته ) الذى لا يزال يعمل حتى الآن مع إنه زيف مفترى .. كان ذلك فى عصر الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور.

التربة التاريخية التى أنبتت حديث(صوموا لرؤيته )

أولا :
ـ كتبنا كثيرا عن ارتبط صناعة الأحاديث الكاذبة بالصراع على السلطة منذ الفتنة الكبرى ، ثم تأكد ذلك فى الدولة الأموية ، وقدم الأمويين لنا أبا هريرة أقل الصحابة صحبة للنبي فجعلوه أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ، وكذلك فعل العباسيون مع جدهم عبد الله بن عباس .

يقول الإمام ابن القيم الجوزية أن ابن عباس لم يبلغ ما سمعه من النبي عشرين حديثا (38). وهذا قول خطير من ابن القيم، وإن كنا نراه أقرب للصواب، فابن عباس لم يدرك النبي إلا وهو دون الحلم، وقد قضى طفولته في مكة في حين كان النبي يومئذ بالمدينة،ولكن شاءت الدولة العباسية أن ترفع من شأن جدها ابن عباس فأصبح أكثر الصحابة علما،وتبارى الفقهاء في نسبة الأقوال والاجتهادات إليه في الحديث والتفسير والفرق المذهبية والفقه والأحكام .

وإذا كان أبو هريرة بوقا للأمويين في الحديث والقصص فإن الكهنوت العباسي قد أضاف لابن عباس وغيره كثيرا من الأحاديث التي تتحدث عن ملك بني العباس وخلافتهم التي ستظل في أيديهم إلى يوم القيامة ، بل تتحدث عن الخلفاء العباسيين بالاسم واللقب.

وقد عقد السيوطي في كتابه " تاريخ الخلفاء" فصلا بعنوان ( فصل في الأحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ومنها : أحاديث يرويها أبو هريرة، أن النبي قال للعباس فيكم النبوة والملك،أي أن العباسيين انتقموا من أبي هريرة بعد موته فوضعوا عليه ذلك الحديث رغم أنفه.وحديث آخر نسبوه لأبي هريرة أن النبي قال للعباس إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه " وحديث آخر " يكون من ولد العباس ملوك تكون أمراء أمتي" .ثم حديث ابن عباس يروي فيه أن أمه كانت حاملا فيه وقد أمرها النبي أن تأتي به إليه إذا ولدت ، هذا مع أن ابن عباس ولد بمكة ولم يكن بمقدور النبي وقتهاأن يدخلها،وتمضي الرواية فتقول إن الأم جاءت بابنها عبد الله فأعطاه النبي الاسم وباركه وقال إنه سيكون أب الخلفاء حتى يكون منهم السفاح وحتى يكون منه المهدي ويكون منهم من يصلي بعيسى بن مريم،وهذه بشرى بأنهم سيظلون في الحكم إلى أن تقوم الساعة .

وهناك حديث يرويه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يقول : حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس أن النبي قال للعباس إذا سكن بنوك السواد وكان شعبهم أهل خرسان لم يزل الأمر لهم حتى يدفعوه إلى عيسى بن مريم . وحديث آخر " الخلافة في ولد عمي أخو أبي حتى يسلموها إلى المسيح ، وحديث فيه مدح الخليفة المهدي المشهور بقتل الزنادقة، يقول إن النبي محمدا دعا الله تعالى ثلاثا يقول: اللهم انصر العباس ، ثم قال ياعم أما شعرت أن المهدي من ولدك سيكون موفقا راضيا مرضيا . "

ووضعوا في السفاح أول الخلفاء العباسيين حديثاً يقول "يخرج رجل من العباسيين بعد انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثيثا" ، وواضح أن واضع الحديث كان حريصا على أن يصف الخليفة السفاح بالكرم لينال جزاء كثيراً.

وقالوا إن ابن عباس روى عن النبي حديث "منا السفاح ومنا المنصور ومنا المهدى.." أي يفخر النبي بأولئك الخلفاء. وهناك أحاديث كثيرة عن الخليفة المهدى منها " المهدى من ولد العباس عمى " "المهدى يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبى ".

وتعدى ذلك أن الخليفة بالاختيار الإلهي وأن الله يخلق الخلفاء بصورة متميزة عن باقي الخلق ، فيقول حديث منسوب إلى ابن العباس وأبى هريرة وأنس " إذا أراد الله أن يخلق خلقاً للخلافة مسح على ناصيته بيمينه ".

ومن الطبيعي بعد ذلك أن الاعتراض على الخليفة المنصوص على اسمه ولقبه إنما يكون اعتراض على مشيئة الله وقراره الذي لابد من طاعته، ومن هنا تقترن الجبرية السياسية بالأحاديث التي نسبوها للنبي عليه السلام.

وقد حرص الخلفاء العباسيون على تحصين الأحاديث بسياج من الإرهاب والتقديس حتى لا ينالها النقد واستعمال العقل ، يروي أبو معاوية الضرير أن رجلا من قريش استمع إلى حديث " احتج آدم وموسى " وذلك في مجلس الرشيد فتعجب القرشي قائلا: أين التقى موسى بآدم، فغضب الرشيد من ذلك التعليق وقال :القطع والسيف.. زنديق يطعن في حديث النبي،وما زالوا بالرشيد حتى عفا عن الرجل من القتل.والسبب واضح فإن باب الاعتراض على الأحاديث سيجر مشاكل كثيرة للملك العباسي القائم على الكهنوت الديني. والتفاصيل فى بحث ( حد الردة ) وبحث ( حرية الفكر بين الاسلام و المسلمين).
باختصار فان صناعة الأحاديث بدأ مع الدعوة السرية للدعوة العباسية ، وكان لها جماعات سرية تؤلف الأحاديث وتبشر بقرب ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملأها الأمويون جورا . فلما أقيمت الدولة انتشرت صناعة الأحاديث وبدأ تدوينها ، خصوصا ما يخدم منها سياسة بنى العباس .
2 ـ وتشجع بعض مؤلفى الأحاديث للدولة العباسية على ان يؤلف أحاديث يطعن فيها فى الاسلام . وليس مستغربا ان تسكت عنهم الدولة العباسية ، فقد امتلأ ت قصور العباسيين بالملحدين من الكتبة الفرس و العرب الذين كانوا يتندرون على الاسلام والقرآن ، تعصبا منهم للفلسفة ، وكان بعضهم متخصصا فى الوضع فى الحديث . وقد عاشوا فى أمن فى رعاية الدولة العباسية ونجوا من الاتهام بالزندقة فى عصور الخلفاء المنصور و المهدى و الهادى .
3 ـ وكان المنصور العباسى أكثر جرأة فى سفك الدماء ، تفوق فى ذلك على أخيه الخليفة العباسى الأول (السفاح ) مع ما يدل عليه لقبه الرسمى المرعب ، وتميز ابو جعفر المنصور أيضا بنقض العهود وقتل من يعطيه الأمان . وابو جعفر المنصور كان يقتل الرجل لمجرد كلمة يقولها ، ففى عام 141 كان الطاعون قد انتشر بالشام ثم هدأ واختفى فزار المنصور بيت المقدس ثم انحدر الى الرقة وخطب فيها فقا ل : إحمدوا الله يا أهل الشام ، فقد رفع عنكم بولايتنا الطاعون . فردّ عليه منصور بن جعونة : الله أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون ، فأمر المنصور بقتله .
ولكنه فى نفس الوقت كان يتسامح مع الزنادقة مهما قالوا طالما يدينون له بالولاء ، ففى عصره علا شأن الرواندية ، وهم طائفة فارسية تؤمن بتناسخ الأرواح وقد أعلنوا ان ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو الخليفة ابو جعفر المنصور . ولم يتعرض لهم الخليفة إلا عندما أحرجوه بطوافهم حول قصره وهم يقولون : هذا قصر ربنا . عندها اضطر لحبس بعضهم فغضب الآخرون وساروا الى الخليفة فلقيهم بلا حرس ، وهو يحسن الظن بهم باعتبار أنهم يؤلهونه ، ولكنهم أرادوا الفتك به فأنقذه معن بن زائدة . وحدث هذا فى نفس العام الذى قتل فيه المنصور ذلك الرجل فى الشام منصور بن جعونة.( المنتظم 8 : 29 : 30 )
ومع تسامحه مع الزنادقة كان جبارا فى قتل ابناء عمه العلويين ، حتى من لم يشارك منهم فى ثورة محمد النفس الزكية ، قتلهم شر قتلة لمجرد أنهم أقارب الثائر عليه ، فعندما ثار محمد النفس الزكية بالمدينة كان يعيش بعض أقاربه الى جوار الخليفة المنصور ، وبمجرد أن جاءت للمنصور أنباء ثورة محمد النفس الزكية بادر بحبس ثلاثة عشر رجلا من ابناء عم محمد النفس الزكية ، وأمر بقتل بعضهم ببناء حائط عليه ، وأمر بضرب البعض الاخر بالسياط قبل قتله ( المنتظم 8 : 47 ـ ) وحبس آخرين منهم فى سجن المطبق تحت الأرض ، ولضيق المكان كان بعضهم يبول فوق البعض ، وظلوا مدفونين بالحياة فى هذه الحفرة الى أن ماتوا . .
وتسببت ثورة محمد النفس الزكية فى ضرب الامام مالك لمجرد فتوى ، وأكثر من هذا تسببت فى قتل الامام ابى حنيفة بالسم بعد حبس وأهانة
4 ـ ونذكر بعض التفصيلات هنا عن ابى حنيفة الفقيه الليبرالى الحر الكريم.
فى حياته فى الدولة الأموية كان أبو حنيفة يناصر الثورات الشعبية العلوية ضدها ، ومنها ثورة زيد بن على زين العابدين سنة 121 وانتبهت له الدولة الأموية . وأراد الوالى على العراق ابن هبيرة أن يختبر ولاءه للأمويين لأنه لم يكن لديه دليل واضح على اشتراكه الفعلى فى ثورات العلويين، وفى ذلك الوقت كان العراق يموج بقلاقل ضد الأمويين فجمع ابن هيبرة فقهاء العراق ومنهم أبو حنيفة وأسند لكل واحد منهم عملاً ، وجعل فى يد أبو حنيفة الخاتم أو السلطة على كل الفقهاء، فلا أمر إلا بإذنه، ووافق الفقهاء على خدمة الدولة ماعدا أبو حنيفة، فهدده ابن هيبرة بالضرب والعذاب فأبى، فقال له الفقهاء: "إنا ننشدك الله أن تهلك نفسك فإنا أخوتك وكلنا كارهون لذلك الأمر" فقال أبو حنيفة: "لو أرادنى أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل فى ذلك، فكيف وهو يريد منى أن يكتب دم رجل يضرب عنقه وأختم أنا على ذلك الكتاب؟ فوالله لا أدخل فى ذلك أبداً...!" وأمر ابن هيبرة بضرب أبى حنيفة وحبسه، فلما يأس منه أطلق سراحه، فهرب أبو حنيفة إلى مكة، وظل فيها إلى أن قامت الدولة العباسية، فجاء للكوفة فى خلافة أبى جعفر المنصور .
وكان طبيعياً أن تحتفل به الدولة العباسية لمواقفه مع آل البيت ومقاومته للدولة الأموية وكونه من ضحاياها، لذلك قربه الخليفة المنصور وكان يستشيره، إلا أن محاولة المنصور استغلال أبى حنيفة وجبروت المنصور فى التنكيل ببنى عمه العلويين عند ثورة محمد النفس الزكية سنة 145 جعل العلاقة تسوء بين الخليفة السفاك والفقيه الحر..
فقد اتهم المنصور أبا حنيفة بأنه يثبط القواد العباسيين عن حرب محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وراح المنصور يخطط للإيقاع بأبى حنيفة فى نفس الوقت الذى كان أبو حنيفة يفتى بما يعتقده حقاً وهو يعرف أن الخليفة لا يريد إلا الفتاوى التى تساعده فى حكمه..
كان المنصور قد اشترط على أهل الموصل أنهم إذا ثاروا عليه فإن دماءهم حلال، وثار أهل الموصل سنة 148 فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبو حنيفة وقال لهم: أهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علىّ وهاهم قد خرجوا وحلت لى دماؤهم، فقال الفقهاء: إن عفوت فأنت أهل للعفو وإن عاقبت فبما يستحقون، ولكن أبا حنيفة قال: يا أمير المؤمنين ليس لك أن تشترط عليهم سفك دمائهم، أرأيت لو أن امرأة أباحت جسدها بغير عقد نكاح أيجوز لها ذلك؟ فقال الخليفة: لا. وأمر الخليفة بانصراف الفقهاء ثم قال لأبى حنيفة: لا تفت الناس بما هو شين على إمامك فتقوم الثورات وتبسط أيدى الخوارج .
ويلاحظ أن أولئك الفقهاء الذين نافقوا المنصور هم نفس الفقهاء الذين أبدوا استعدادهم لخدمة ابن أبى هبيرة والى العراق للأمويين وكان منهم ابن أبى ليلى وابن شبرمة وابن أبى هند، وكانوا أعلام الفقهاء فى العراق. ومن الطبيعى أن يحقدوا على أبى حنيفة استقلاله واستقامته لذلك استجابوا لدعوة أبى جعفر المنصور فانطلقوا يهاجمون أبى حنيفة ويتهمونه بإنكار الأحاديث، تلك الأحاديث التى اصطنعوها لخدمة السلطة العباسية، وتطرف ابن أبى ليلى فى النيل من أبى حنيفة حتى يقول فيه أبو حنيفة: "إن ابن أبى ليلى ليستحل منى مالا استحله من حيوان"!!
وأتت تلك الحملة ثمارها إذ هيأت الفرصة للمنصور فى اغتيال أبى حنيفة بالسم بعد أن سجنه وضربه مائة وعشرة أسواط سنة 150 هـ. ( التفاصيل فى كتابنا : حد الردة )
5 ـ وأدت قسوة أبى جعفر المنصور فى عقاب العلويين الثائرين الى انهاء تام للتحالف الذى كان بين الشيعة والعباسيين . فالدعوة كانت أصلا لأبناء (على ) وليس لأبناء العباس تحت شعار (الرضى من آل محمد ) ولكن حدثت تطورات اسفرت عن انتقالها سرا الى العباسيين ، ولما ظهر علنا أن الخليفة صاحب الأمر من العباسيين نقم بعض الشيعة وتوقف بعضهم وثار البعض الاخر ، وجاءت قسوة اابى جعفر المنصور فى محاربة ذرية ( على ) من أقارب محمد النفس الزكية لتؤسس الانفصال التام بين الشيعة و العباسيين . وواكب هذا عصر التدوين ورواج الحرب الفكرية بالأحاديث .

ثانيا :
هذه هى التربة التاريخية التى نبت فيها ذلك النبات الشيطانى القائل عن هلال رمضان ( صوموا لرؤيته ) .
كيف ؟
فى عام 155 عزل الخليفة أبو جعفر المنصور ابن عمه محمد بن سليمان عن ولاية الكوفة .( أبو جعفر المنصور :اسمه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب . وابن عمه المذكور هو : محمد بن سليمان بن على بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب )، وإذن لا بد من سبب قوى يجعل الخليفة يعزل ابن عمه . نقرأ الخبر ثم نتوقف معه بالتحليل :
يقول الخبر :
( وفيها‏:‏ عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي عن الكوفة واستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير ‏.‏ واختلفوا في سبب عزله لمحمد بن سليمان ‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ إنما عزله لأمور قبيحة بلغته عنه اتهمه فيها ‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل كان السبب أنه أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء وكان خال معن بن زائدة فكثر شفعاؤه إلى أبي جعفر ولم يشفع فيه إلا ظنين ، فأمر بالكتاب إلى محمد بن سليمان بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه فيه ‏.‏ فكلم ابن أبي العوجاء أبا الجبار فقال له‏:‏ إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف درهم ولك كذا وكذا فأعلم أبو الجبار محمدًا فقال‏:‏ أذكرتنيه والله كنت قد نسيته فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه ‏.‏ فلما انصرف أذكره إياه فأمر بضرب عنقه ، فلما أيقن أنه مقتول قال‏:‏" أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم "، فضربت عنقه ‏.‏ وورد محمد على رسول أبي جعفر بكتابه‏:‏ إياك أن تحدث في ابن أبي العوجاء شيئًا فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده ‏.‏ فقال للرسول‏:‏ هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبًا بالكناسة فأخبر أمير المؤمنين ‏.‏ فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته تغيظ عليه وأمر بعزله ثم قال‏:‏ والله لقد هممت أن أقيده به ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه فقال‏:‏ هذا عملك ، أنت أشرت بتولية هذا الغلام فوليته غلامًا جاهلًا لا علم له بنا ، يأتي يقدم على رجل فيقتله من غير أن ينتظر أمري ، وقد كتبت بعزله وبالله لأفعلن.. يتهدده ، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن محمدًا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة فإن كان قتله صوابًا فهو لك وإن كان خطأ فعلى محمد ...) ( تاريخ الطبرى 8 : 47 : 48 تاريخ المنتظم 8 : 184 : 185 ) .
ملخص الخبر :
أنه جىء لوالى الكوفة بعبد الكريم بن ابى العوجاء متهما بجريمة لا نعرفها ، ولم تفصح عنها الرواية . فجاءت الرسائل الى الخليفة فى بغداد تتشفع فى المتهم ، فارسل الخليفة الى الوالى باطلاق سراحه فى نفس الوقت الذى عرض فيه المتهم على الوالى رشوة قدرها مائة ألف درهم إن أجّل ميعاد قتله ثلاثة أيام ،أى الى أن تأتى رسالة الخليفة باطلاق سراحه. ولكن الوالى سارع بقتله،وقبل قتله قال ابن أبى العوجاء:(أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم) وقد غضب الخليفة بسبب قتل ابن ابى العوجاء مع علمه بأن الوالى قتله دون أن يعلم بعد برسالة الخليفة التى تطلب العفو عنه .وأراد الخليفة معاقبة ابن عمه بأكثر من العزل لولا تدخل عمه عيسى بن على .
ونلاحظ الآتى :
1 ـ إن ذلك الخليفة هو أبو جعفر المنصور الذى كان يقتل الناس بسبب كلمة أو بسبب قرابة لثائر عليه ..نراه هنا يتقمص دور الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حرصه على حقن الدماء.. فلماذا كل هذا الاهتمام بحياة ابن أبى العوجاء الذى عوقب بجريمة استحق بها الموت طبقا لتقدير الوالى العباسى والسياسة المعلنة للدولة العباسية ؟

2 ـ قوة نفوذ ابن ابى العوجاء ، ليس لأنه خال لمعن بن زائدة أحد كبار القادة العرب لبنى العباس ، لأن المنصور نفسه لم يأبه بمعن و غضب عليه واباح دمه فهرب معن واختفى ، ثم جاءته الفرصة ليرضى عنه الخليفة عندما انقذ الخليفة من الرواندية حين هموا بالفتك بأبى جعفر .
قوة نفوذ أبن أبى العوجاء تتضح فى الكثيرين من أتباعه ، وهم متهمون فى دينهم ،ابو بتعبير الرواية (فكثر شفعاؤه إلى أبي جعفر ولم يشفع فيه إلا ظنين ) أى أن أولئك المظنون أو المشكوك فى دينهم كانوا أصحاب حظوة لدى الخليفة ، تبعا لصاحبهم ابن أبى العوجاء ، ولو لم تكن لهم هذه الحظوة ما تجرءوا على التشفع فيه عند الخليفة السفّاك ، خصوصا وابن أبى العوجاء متهم بجريمة توجب قتله طبقا لتقدير الوالى الذى هو ابن عم الخليفة، ولو لم يكونوا واثقين من مكانته عند الخليفة ما جرءوا على ذلك ،بل لولم يكن أبن أبى العوجاء نفسه واثقا من تدخل الخليفة لحمايته ما عرض رشوة على الوالى ليؤجل قتله ثلاثة أيام الى أن تأتى رسالة الخليفة. والأكثر دلالة هو تحمس الخليفة لنجدته ، مع أنه ـ اى الخليفة ـ جبار بنى العباس وأكثرهم سفكا للدماء ، وبلغ من تحمس الخليفة لنجدته أن سارع بارسال الكتاب لانقاذه ، وكان يمكن انقاذه لولا تسرع الوالى فى قتله . واكبر دليل على مكانة ابن أبى العوجاء أن الخليفة يغضب على ابن عمه الوالى بشدة ، ويهم بعقابه بعد عزله لولا تدخل عمه عيسى بن على.

3 ـ ومع قوة نفوذه فلم يكن ابن أبى العوجاء مشهورا فى دولة أبى جعفر المنصور مما يدل على ان له عملا سريا يقوم به لصالح الخلافة العباسية ، لا يعلمه والى فى الكوفة نفسه، الذى هو ابن عم الخليفة .
ابن ابى العوجاء كان خال معن بن زائدة ، ولكن ابن أخته كان أشهر منه لأن معن كان ظاهرا كقائد حربى وكزعيم لقبائل اليمن فى عهده ، ومقصدا للشعراء يمدحونه. أما ابن أبى العوجاء فكان بنفوذه تحت السطح لم نعلم عنه شيئا إلا عندما قتله والى الكوفة فعوقب الوالى بالعزل.
و الجريمة التى قبض عليه الوالى بسببها كانت كبيرة استوجبت القتل ، ولكننا لا نعرفها ، ولكن المفهوم عموما أن أى صاحب نفوذ فى أى دولة استبدادية يستخدم نفوذه فى الاستطالة على الناس ، وربما كان هذا ما فعله ابن أبى العوجاء فاستوجب ان يحكم عليه الوالى بالقتل فى إطار السلطة المنوطة بالوالى العباسى دون مراجعة الخليفة، وهكذا كان يفعل الوالى الشاب فى الكوفة.
وحق الوالى فى قتل من يشاء كان سنة متبعة بدأتها الدولة الأموية ـ فى العراق بالذات لأنه كان موطن المعارضة للأمويين ، لذا اشتهر الوالى زياد بن أبيه بأحكامه العرفية التى قتل بها الآلاف من اهل البصرة و الكوفة فى عهد معاوية ، ثم توسع فى القتل الوالى الحجاج بن يوسف ، وبعده خالد القسرى .. وكلهم حكم العراق للأمويين . وجاءت الدولة العباسية فتفوق فيها الخليفة الأول السفاح وقواده على الأمويين فى سفك الدماء ، وتبعه المنصور وولاته فى القتل المخطط أو العشوائى ، والأدلة كثيرة ودامية..
ولكن اختلف الحال مع ابن أبى العوجاء ، فهو صاحب نفوذ سرى لا يعلمه الوالى نفسه ،لذلك أخطأ الوالى عندما قتله ، ودفع الثمن عزلا من منصبه ،بل كاد أن يفقد حياته بيد الخليفة ابن عمه .
ويلفت النظر هنا أن الخليفة فى ثورة غضبه على قتل ابن ابى العوجاء قال (والله لقد هممت أن أقيده به ) أى أن يقتل ابن عمه قصاصا . وهذا تصريح خطير يدل على مكانة ابن ابى العوجاء ذلك الرجل المجهول .
وربما نستشف السبب فى قول الخليفة لعمه عيسى بن على يؤنبه:(هذا عملك أنت.. أشرت بتولية هذا الغلام فوليته غلامًا جاهلًا لا علم له بنا ) أى ان الوالى الشاب محمد بن سليمان لم يكن يعلم أسرار المخضرمين من أسرته مثل المنصور وأعمام المنصور أساطين الدعوة السرية قبل إقامة الدولة العباسية،ولا يعرف الجيش السرى للدعوة والذى كان ينشر الاشاعات ويخترع الأحاديث ويقوم بتجنيد الأتباع ، ومنهم ابن أبى العوجاء .
لقد كان محمد بن سليمان فى العاشرة من عمره عندما أسقط أهله العباسيون الدولة الأموية ، وجرفه موكب ومظهر السلطان الجديد فلم يتعرف على الدعاة السريين الذين قامت وتقوم على أكتافهم الدولة الجديدة ؛ وعندما تولى الكوفة لم يعرف تنظيماتها السرية التى كونها أبو جعفر المنصور لتواجه الشيعة من الداخل دفاعا عن الخلافة العباسية ، لم يعرف قيمة عبد الكريم بن ابى العوجاء ، ولم يكن يعلم بأن له دورا ما مع أتباعه يلعبونه لصالح الخلافة العباسية فى الكوفة.
وقد كانت الكوفة العاصمة الأولى للدعوة العباسية ثم للدولة العباسية ، فكانت موطن التشيع وبقيت فيها كثرة كاثرة من الشيعة الذين فوجئوا بأن الدعوة والخلافة لبنى العباس وليس لذرية (على بن أبى طالب) . ولأن الشيعة هم أساس الدعوة التى تم نقلها سرا للعباسيين ،ولأن الشيعة أساتذة فى التآمر والتقية فإن ثورة محمد النفس الزكية أخافت أبا جعفر المنصور من تعاون محتمل بين شيعة الكوفة ومحمد النفس الزكية واخيه ابراهيم . لذا لم يعد يأمن المنصورعلى وضعه بين شيعة الكوفة ، فأقام بغداد عاصمة جديدة له ، وانتقل من الكوفة الى بغداد ، وقد أقيمت مدينة بغداد عام 145 وهى نفس السنة التى ثار فيها محمد النفس الزكية .
ترك المنصور الكوفة وفيها أتباعه العلنيون والسريون ليواجهوا أساطين الشيعة من ظهر منهم ومن بطن. ويمكن القول بأن الوالى السرى للكوفة بعد رحيل المنصور عنها كان ابن ابى العوجاء ، وربما استخدم ابن ابى العوجاء سلطته السرية تلك فى عمل تخطى به سلطة الوالى (الظاهر ) الذى لم يكن له علم بذلك ، لذلك عاقب الوالى ابن أبى العوجاء بالقتل دون أن يعرف علاقته السرية بالخليفة فى بغداد .
أى أن الوالى الشاب قتل نظيره فى خدمة الدولة العباسية فى وقت كان الخليفة المنصور احوج ما يكون فيه الى خدمات ابن ابى العوجاء . لقد فتك الخليفة بثورة محمد النفس الزكية واهله وشيعته ، وهو يتوقع شرا من البقية المستترة من شيعة النفس الزكية الذين يكمنون له فى الكوفة مركز التشيع ، والدور الأكبر فى كشفهم وملاحقتهم هو لابن أبى العوجاء وفرقته السرية . لذا كان غضب الخليفة الكبير من ابن عمه الصغير..

4 ـ لكن هل كان الخليفة ابو جعفر المنصور يعلم أن ابن أبى العوجاء قد تطرف فى مهنته أو مهمته بحيث لم يكتف بصنع أحاديث تؤيد العباسيين بل اضاف الى ذلك أحاديث تهدم الاسلام وشريعته ، أو على حد قوله :(أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم) ؟ .. لا أعتقد أن أبا جعفر المنصور كان يهتم بهذا لأن اهتمامه الأكبر كان فى توطيد سلطانه ، بل أعتقد أنه كان على علم بعمل ابن أبى العوجاء فى صناعة ونشر الأحاديث التى تطعن فى الاسلام ، فلو كانت هذه تهمة خطيرة فى نظر الخليفة المنصور لقتل ابن أبى العوجاء بدلا من غضبه على مقتله.
ولقد كان للمنصور العباسى جهاز تجسس رفيع المستوى فاق المعروف فى عهده ، ولعب دورا فى إفشال ثورة محمد النفس الزكية ومتابعة الشيعة المعارضين ، وقتلهم بالزندقة. ومقدرة هذا الجهاز السرى على التجسس رويت فيها اخبار فى ثنايا أخبار ثورة محمد النفس الزكية ، ولكن الدليل الأكبر على تفوق هذا الجهاز السرى هو تلك الأسطورة التى تزعم أن مع ابى جعفر المنصور مرآة سحرية يرى فيها ما يحدث من أعدائه، يقول ابن الجوزى:( وكان عند أبى جعفر مرآة يرى بها ما فى الأرض جميعا ، يقال انها نزلت على آدم وصارت الى سليمان بن داود ..) ويقول ان أبا جعفر المنصور استعمل تلك المرآة فى تعقب محمد النفس الزكية أثناء ثورته.(المنتظم 8 : 47 ) .
المفهوم من تلك الرواية الخيالية مقدرة أبى جعفر المنصور فى العمل السرى ، ومعرفة الأخبار عن طريق شبكة من العملاء الذين نجحت بهم الدعوة للرضا من آل محمد ، ثم نجحت بهم فى اقامة وتوطيد الدولة العباسية ، ثم نجحت فى ملاحقة الشيعة الذين انقلبوا على العباسيين الذين إستأثروا بالخلافة دون أصحابها الحقيقيين من ذرية الامام (على ) .وكان ابو جعفر هو حجر الزاوية فى الدعوة وفى اقامة الدولة . ومثله لا يخفى عليه أن واحدا من أتباعه السريين المكلفين بصناعة الأحاديث فى خدمة العباسيين قد تطرف فاخترع أحاديث تطعن فى الاسلام. ولأنها ليست جريمة عند المنصور فان المجرم ظل متمتعا بالحظوة عند الخليفة الى آخر لحظة فى حياته

4 ـ قلنا إن الوحيد الذى لم يكن يعرف خطورة ابن أبى العوجاء كان الوالى الشاب محمد بن سليمان. لم يكن يعلم أنه عميل سرى للدولة العباسية له حصانة من القتل مهما أجرم ، ولم يكن يعلم دور ابن أبى العوجاء فى صناعة الأحاديث خدمة للعباسيين ،وأنه تعدى ذلك الى صناعة أحاديث تطعن فى شريعة الاسلام ، تحلل الحرام وتحرم الحلال .
ولذلك فان ابن ابى العوجاء عندما يأس من تدخل الخليفة لانقاذه وأيقن بالموت أفشى ما كان يفعله لينفث عن حقده على الدولة التى خدمها و خدعها ، فان قتلته تلك الدولة فقد كاد لدينها (الرسمى)، فقال قبيل قتله :(أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم).

5 ـ ومن السذاجة ان نتساءل عن تلك الأحاديث التى رواها ابن أبى العوجاء ..فليس منتظرا من أساطين الدعوات السرية وصانعى الاشاعات والأساطير والروايات أن يعلنوا أسماءهم فى سلاسل الرواة صراحة ، فقد كانوا يصنعون الأحاديث ويجعلون لكل منها سندا ورواة من السابقين الذين ماتوا فى العصور السابقة ثم يعطون تلك الأحاديث بأسانيدها ومتونها الى رواة مشهورين ليذيعوها بأسمائهم ولينسبوها لأنفسهم .
كانت هناك سوق رائجة لرواية الحديث بتشجيع العباسيين ، وفيها رواة مشهورون فى ذلك الوقت مثل الأعمش و ابى نعيم الحضرمى وواهب بن عبد الله وسليمان بن ابى سليمان وداود بن هند وسلمة بن دينار وحميد بن هانىء وعاصم بن سليمان وسليمان بن طرخان و ويحيى بن سعيد الانصارى وخالد بن يزيد وسعيد بن اياس ومجالد بن سعيد الهمدانى وهلال بن خباب وعمرو بن ميمون بن مهران واشعث بن عبد الملك وهشام بن عروة بن الزبير بن العوام ..الخ .
وبعضهم كان عميلا للدولة العباسية،تأتيه الأحاديث مصنوعة جاهزة ويأتى مع كل حديث إسناده جاهزا بأن رواه فلان عن فلان الى النبى محمد عليه السلام. فيأخذ الراوى المشهور ذلك الحديث ويزعم أنه سمعه بنفسه من فلان عن فلان بنفس السند.
وبالتالى كان أبى العوجاءوبطانته السرية يصنع متن الحديث ثم يعطيه للرواة المشهورين فى وقته والمتعاملين معه فى خدمة الدولة العباسية ، فيروون تلك الأحاديث على أنهم هم الذين سمعوها، وبالتالى تتم رواية تلك الأحاديث وسندها الفخم يخلو من اسم صانعها الحقيقى ابن أبى العوجاء ، وتروج تلك الأحاديث وتنتشر بين الناس على أنها أحاديث قالها الرسول محمد عليه السلام فيعملون بها معتقدين صدقها ، وبذلك أفلح ذلك الجندى الشيطانى المجهول عبد الكريم بن أبى العوجاء فى أن يتلاعب بالمسلمين فى عهده وحتى الان من خلال تلك الأحاديث التى صنعها فأصبحت سنة مقدسة ، بحيث يجعلها الشافعى (ت 204 ) فيما بعد حاكمة على القرآن أو بتعبيرهم ( تنسخ القرآن ) . ولذك نفهم نفسية ابن أبى العوجاء وهو يقولها حاقدا متشفيا فى المسلمين قبل قتله :(أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ، ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم).

6 ـ ولا يقال إن ابن أبى العوجاء قد فضح نفسه بهذا التصريح .. بالعكس .. لقد كان يتحداهم ونجح فى التحدى .. فالأحاديث التى صنعها تناقلها الناس فى حياته وعملوا بها ـ ولا يزالون .. وكان من المستحيل العثور على واحد من تلك الأحاديث التى افتراها ، فقد اختفت بصمته وظهر مكان إسمه اسماء شهيرة تتمتع بالعدالة والصدقية، ثم ان تلك الأحاديث بدأت تأخذ دورها فى التدوين.. وفعلا بعد مقتل ابن أبى العوجاء تم تدوين أحاديثه فى موطأ مالك ،ثم فى (الأم ) للشافعى فى القرن الثانى الهجرى ، ثم فى البخارى وصحبه فى القرن الثالث الهجرى. والآن نقرأ أحاديث ابن ابى العوجاء على ألسنة رواة آخرين ..ولا تزال شريعة مقدسة معمولا بها.. ومنها أحاديث ( صوموا لرؤيته ) .

7 ـ ويلفت النظر أن كلمة ابن أبى العوجاء الحاقدة تنقسم الى قسمين :الأول (أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ) والثانى (ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم).
* القسم الأول مفهوم ، فهو خلال عمره وقبل مقتله نجح فى هذا الوقت القصير أن يؤلف أربعة آلاف حديث يقلب فيها موازين الشرع يحرم الحلال ويحلل الحرام ، هذا بالاضافة الى أحاديثه السياسية فى خدمة بنى العباس .
* القسم الثانى يحتاج الى وقفة ، فالرجل الداهية لم يقل ووضعت فيكم أحاديث تقول كذا ، أو تجعلكم تصومون وقت الافطار وتفطرون وقت الصيام . لو قال ذلك لأمكن بسهولة التعرف على متون تلك الأحاديث ومحوها ، ولكنه صاغ جملته بطريقة ماهرة ، فقال : (ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم). ولم يصرح كيف فعل ذلك ، مع أنه يفخر بذلك الذى فعله بفريضة الصيام ،ولا شك أنه عاش هذا النجاح وهو يرى نفسه يتلاعب بالمسلمين يصومون فى وقت الافطار ويفطرون فى وقت رمضان.
ولذلك فان نجاحه فى صناعة بضعة أحاديث قليلة تفسد صوم رمضان يساوى عنده نجاحه فى صناعة أربعة آلاف حديث أخرى فى تحريم الحلال وتحليل الحرام.

8 ـ ولكن ما معنى قوله (ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم)؟
المعنى هو أنه جعل المسلمين يصومون فى فطرهم فى آخر يوم من شعبان ، ويفطرون فى وقت صيامهم آخر يوم من رمضان . بدلا من الحساب الفلكى الذى كان معمولا به فان ابن أبى العوجاء اخترع أحاديث تجعل الرؤية البصرية هى الأساس فى تحديد بدء شهر رمضان وتحديد انتهائه ، وأنهى بذلك دور الحساب الفلكى الذى كان هو الأصل .والرؤية للهلال تعنى الاختلاف فيه ؛ هذا رآه وأولئك لم يروه ، وفى أغلب الأحوال فالرؤية خادعة حتى مع افتراض صدق الشهود الذين رأوا أم لم يروا الهلال ، وبالتالى صام المسلمون فى آخر شعبان على أنه أول رمضان ، وأفطر المسلمون فى آخر رمضان على أنه عيد الفطر ، بل واختلفوا فى الاعتداد بالرائى للهلال أو الشاهد على رؤيته ، وانفتح المجال للتلاعب السياسى و الهوى فى تحديد فريضة الصيام ..ولا يزال الأمر ساريا حتى الان يشهد بنجاح ابن أبى العوجاء وكيف انتقم مقدما من المسلمين .
باختصار فان ابن أبى العوجاء هو المخترع الحقيقى لأحاديث ( صوموا لرؤيته ..)

9 ـ وقد نجا الشيعة من هذه المكيدة.. فقد ظلوا على السنة الحقيقية التى ألغاها ابن أبى العوجاء. تمسك الشيعة بما كان عليه النبى محمد عليه السلام وآل بيته من التقيد بالحساب الفلكى ..بينما وقع أهل ( السنة ) ضحايا لآبن ابى العوجاء.. ولا يزالون.

10 ـ لم يكن ابن أبى العوجاء يحلم بأن تظل مفترياته سائدة مقدسة حتى اليوم تنشرها الفضائيات ويدافع عنها ملايين الفقهاء والدعاة والوعاظ من يوم مقتله حتى الآن .. ولا يرجع الأمر الى عبقرية لابن أبى العوجاء بقدر ما يرجع الى غفلة أساطين الدين السّنى وتخلفهم العقلى ، فهم الذين رووا قصة ابن أبى العوجاء ، وهم الذين أوصلوها لنا ، وهم الذين تكاسلوا وغفلوا عن تدبرها ، كما غفلوا عن تتبع الأحاديث التى روجها ـ بل قاموا هم بترويجها.
نتهمهم بالغفلة والتخلف أهون من انت ننعتهم بالتعمد والتبعية لعبد الكريم بن أبى العوجاء الملقب بعبد الكريم (الوضّاع ) .!!
نتوقف هنا ، ونلتقى مع الفصل الثانى عن:
( أحاديث عبد الكريم (الوضاع ) فى الأسفار السنية المقدسة )