مقدمة
1 ـــ لا زلت أتذكر هذه الواقعة . صدر رئيس قرار رئيس جامعة الأزهر يوم 5/ 5 / 1985 بوقفى عن العمل ووقف مستحقاتى المالية ومنعى من الترقية لاستاذ مساعد ومنعى من السفر وإحالتى للتحقيق ، بسبب إصدارى خمسة كتب دفعة واحدة وتقريرها على الطلبة فى ذلك العام الجامعى ، قبلها بليلة واحدة أرسل رئيس الجامعة وفدا الى شقتى المتواضعة فى المطرية يخبرنى بالقرار قبل صدوره ، ويطلب منى التراجع عما قلت فى تلك الكتب : ( وهى أن النبى لا يشفع وأنه ليس معصوما عصمة مطلقة ، وأنه لا يصح تفضيل النبى على الأنبياء السابقين وترك ذلك لرب العزة ). رفضت طلب اللجنة الموقرة التى كان معظم أعضائها يزورون بيتى لأول مرة ، وفى اليوم التالى ذهبت لأول جلسة فى ( مجلس التأديب ) واستمرت المحاولات لأتراجع وأكتب بضع كلمات : ( إننى أخطأت ، وأتراجع عما قلت ) . فى النهاية قال أحدهم لى غاضبا مهددا : ( إنت حُرّ ) . وابتسمت وقلت له : ( نعم ..أنا حُرّ ) . قالها لى على سبيل التهديد ( إنت حُر ) وقلت له على سبيل التأكيد ( نعم ..أنا حُرّ ),
2 ــ فى ثقافة العبيد يأتى التهديد بكلمة ( إنت حُرّ ) وفى ثقافة الأحرار يفخر أحدهم بقوله ( أنا حُرّ ). فى ثقافة الأحرار : الحرية لها وجه آخر هو المسئولية . أنت حُرّ يعنى أنت مسئول عن اعمالك وتبعاتها . والحُرّ يرى نفسه مسئولا عما يقول وعما يفعل . هذا فى المجتمع المتحضر الديمقراطى .
أولا : ( إنت حُرّ ) فى التشريع الاسلامى القرآنى
1 ـ المؤمن الحقيقى يرى نفسه حُرّا أى مسئولا ومساءلا عن أقواله وأفعاله وخطرات قلبه أمام الواحد القهار جل وعلا يوم القيامة ، حيث تشمل المساءلة السمع والبصر والفؤاد بالاضافة الى الأقوال والأفعال ، يقول جل وعلا : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً (36) ) الاسراء ) (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) البقرة ). فى الاسلام مسئولية كبرى على الفرد من البشر لآ يعادلها إلا الحرية الكبرى التى منحها الله جل وعلا ذلك الفرد . هذا فى الثقافة الاسلامية الحقيقية المُستقاة من القرآن الكريم ، المصدر الوحيد للاسلام .
2 ـ المؤمن بالقرآن الكريم ( المسلم الحقيقى ) يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسبه القانون الوضعى . وهذا هو معنى ومغزى التقوى الاسلامية . ولهذا يأتى إختتام أو ( تذييل ) آيات التشريع بالتنبيه على التقوى ، كقوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) آل عمران )( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) البقرة ). المؤمن المتقى يخشى الله جل وعلا بالغيب ، أى فى خلوته حيث لا رقيب عليه إلا الذى يعلم خائنة الأعين وما تُخفى الصدور .أولئك المتقون هم أصحاب الجنة : (وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) ق ).
3 ــ المتقون هم الأحرار الحقيقون فى الدنيا لأنهم ( تحرروا ) من سيطرة الغرائز ، وفيهم ذلك الضمير العالى الحساس ( الأنا العليا ) أو ( النفس اللوامة ) التى تنهى عن الهوى ، والمتقى صاحب هذه النفس اللوامة مصيره الجنة لأنه خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) النازعات ).
4 ـ المؤمن الحُرّ المتقى ليس له ( سيّد ) إلا الله جل وعلا ، وليس له ( حاكم ) إلا الله جل وعلا . ولا يخشى سوى الله جل وعلا ، ولا يشكو إلا لله جل وعلا . لا يخشى ولا يخاف مخلوقا مثله ، لأنه يؤمن بحتميات القدر الالهى ، فالله جل وعلا وحده هو الذى حدّد سلفا موعد ومكان ميلاده وموته ، والرزق الذى سيدخل جسده والذى سيدخل حسابه فى البنك وما سيخسره وما سيكسبه ، والمصائب التى ستقع على رأسه خيرا أو شرا . ولا يستطيع بشر إنقاذه من المكتوب له فى هذه الحتميات القدرية ، فلماذا يخشى البشر .
5 ـ المؤمن الحُرّ ( يتحرّر ) من الخوف من البشر ، لأنه يخاف الله جل وعلا وحده . هو يؤمن بقوله جل وعلا ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)آل عمران ) أى هو يخاف الله جل وعلا وحده ولذلك لا يخاف البشر ، بينما أولئك الذين يعصون الله جل وعلا يقعون فى أحابيل الشيطان فيُخيفهم من كل شىء . المؤمن الحُرّ المتقى لا يظلم أحدا ولا يخلط إيمانه بظلم أبدا ، لذلك يتمتع بأمن الرحمن ورعايته وحفظه فى الدنيا والآخرة : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)الانعام ) .
ثانيا : ( إنت حُرّ ) بين دولة القانون المتحضّرة ودولة قانون الغاب
1 ـ أقل من ذلك الانسان المتحضر فى دولة القانون الوضعى الذى يتم تطبيقه على الجميع ، وحيث يكون الجميع سواء أمام القانون ، وحيث يقوم بصناعة التشريع مجالس شعبية مُنتخبة إنتخابا نزيها شفافا . هذه هى قمة ما وصلت اليه الانسانية فى عصرنا فى المجتمعات الغربية ( واليابان ) . غاية ما هناك أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته بالضبطية القضائية .
2 ــ وهذا لم تصل اليه ــ بعدُ ـ دولة قانون الغاب ، ومنها الدول التى تكتظٌّ بملايين ( المحمديين : سُنّة / شيعة / صوفية ) . السائد فى هذه الدول أن البرىء متهم حتى يثبت بالتعذيب ( وتضييق الخناق عليه ) أنه مجرم . وفى الأحوال العادية فكل فرد عادى يسير فى الشارع مُعرّض للاعتقال لأسباب قانونية كثيرة يمتلىء بها قانون العقوبات ، وهى قوانين مطاطة واسعة الدلالة طبقا لهوى السُّلطة . وبالسلطة القضائية والاستثنائية يمكن لأى برىء ان يدخل السجن ، وأن يموت تحت التعذيب .
3 ـ الحال أفظع فى دولة قانون الغاب التى تسيطر عليها دولة دينية ، إذ تختلط فيها صرخات ضحايا التعذيب مع زعيق مكبرات الصوت بالأذان ، وموسيقى الاعلام الذى يتراقص بالعبارات الدينية ، وتنتشر اللحى والجلباب والنقاب والتحرش والفساد والبلطجة والاستبداد .
4 ــ العامل المشترك فى دولة القانون ( المتحضرة ) وفى دولة ( قانون الغاب العلمانية والدينية ) أن الفرد يخشى من المُساءلة أمام فرد آخر . فى دولة القانون المتحضرة ينجو المجرمون بالافلات من القانون بمهارة المُحامين ، وفى دولة قانون الغاب يقوم المستبدون الحاكمون بتفصيل قوانين تعاقب الأبرياء والخصوم والمناضلين فى سبيل الحرية وحقوق الانسان . هى قوانين تحمى وتدافع عن أحطّ المجرمين ، وهم الحكام المستبدون الفاسدون المترفون مصاصو الدماء ، دماء الشعوب .
5 ـ فى دولة (قانون الغاب العلمانية ) تسود ثقافة العبيد . الفرد العادى مقهور يخشى من تحمل المسئولية ، ينتظر من الحكومة أن تقوم بالانتاج والادارة والحُكم والتشريع والتقنين وتنفيذ القوانين واستعباد الأغلبية واستبعادهم من الثروة والسلطة . الفرد العادى هنا يخشى من الحرية لأنه سيكون مسئولا أمام سُلطة ظالمة مستبدة . وتصل هذه الثقافة الى الوزراء ، الذين يتنصلون من المسئولية بالشعار المشهور : ( تنفيذا لتوجيهات السيد الرئيس ) أى تعليق المسئولية فى رقبة الرئيس . فالحرية كلها للرئيس ، لذا فالمفترض أن المسئولية كلها على عاتق الرئيس . ولكن كلما وقع المستبد فى خطايا وجد من يدافع عنه ، وتُحيق التهمة بالتآمر الغربى الأمريكى والاوربى والاسرائيلى لينجو الرئيس . أى فى النهاية يتمتع المستبد العلمانى بالحرية المطلقة دون أدنى مسئولية .
6 ـ ليس بعد حضيض الاستبداد العلمانى إلا أسفل سافلين :( الدولة الدينية ) . ففى دولة قانون الغاب ( الدينية ) يُعتبر من الكُفر أن يكون الحاكم مُساءلا أمام شعبه، فهو الذى يملك ( الرعية ) فكيف تٌحاسبه ( الرعية ) . وهنا نهبط من درجة الحضيض الى أسفل سافلين، حيث يكون المستبد ( المتأله ) مُختارا ــ بزعمهم ــ من لدن رب العزة للتحكم فى الناس، ومُفوّضا من رب العزة ـ بزعمهم ــ بأن يتملّك الشعب وثرواتهم ، وأن يتحكم فيهم فى الدنيا والآخرة ..
أخيرا
1 ـ لا تسل عن ( الحرية ) حين يكون الشعب مُستعبدا من مستبد علمانى أو مملوكا لحاكم متألّه دينى فى مجتمع يسوده دين أرضى . والمحمديون بين هذا وذاك ..
2 ـ ( إنت حُرّ ) تُقال فى ثقافة العبيد على سبيل التهديد والوعيد . وحين يُقال لأحدهم ( أنت حُرّ ) يصيبه الرُّعب .
( إنت حُرّ ) تُقال فى ثقافة المجتمعات الحُرّة فيهتف الفرد ( أنا حُرّ ) مفتخرا ومتحملا المسئولية .
( إنت حُرّ ) تُقال فى الثقافة الاسلامية القرآنية فيهتزّ لها قلب المؤمن خشوعا وتقوى وإحساسا بالمسئولية أمام الواحد القهار ، وحده لا شريك له .
أحسن الحديث
( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) الزمر )
ودائما : صدق الله العظيم .!