قلنا في الجزء الأول أن أغلب ما خص الجهاد من روايات كانت من طريق الزهري، وعلى هذا الجانب سنطرح عدداً من تلك الروايات مرفقة بالتعليق، وللعلم التناقضات والتعارضات كثيرة والوقوف عليها وكشفها بحاجة إلى دراسات، لأنه قد يبدو للقارئ العادي انضباطاً في أقوال المحدثين، ولكن ستبدو للقارئ المتمعن والمثقف أن ثمة توجيهاً للنصوص الروائية حسب أهواء وميول المحدثين، وهو ما سنكشف مثالاً منه في السطور القادمة.
روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب الزهري:
"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد الليثي، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، حدثه قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»، قالوا: ثم من؟ قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره»...(صحيح البخاري 4/15)
الترجمة : أفضل الناس "مطلقاً" هو المجاهد في سبيل الله، وسبق ذكر أن الجهاد عند الزهري يعني.."القتال والحرب"..وليس بمعناه القرآني الأعم حيث يشمل جهاداً بمعنى قول الحق والصبر ومقاومة النفس ، يقول محمد عابد الجابري.." وردت ثلاث آيات مكية في القرآن ذكر فيها "الجهاد" والمعنى فيها منصرف إلى "غير القتال" بالسيف أو غيره، لأن القتل والقتال لم يكن أسلوباً في الدعوة في المرحلة المكية، وبالتالي فمعنى "الجهاد" في الآيات المكية ينصرف إما إلى معنى الحِجاج والإقناع (القتال بالكلمة، لا بالسيف)، وإما إلى قمع هوى النفس، وكبح الشهوات... الخ"..عن جريدة الاتحاد الإماراتية.بتاريخ 1 ديسمبر2009.
والمعنى أن لو كان الجهاد في القرآن بمعنى القتال فلماذا لم يقاتل المسلمون في مكة، والثابت-حسب كلام الجابري-أن ثلاث آيات في شأن الجهاد نزلت في مكة..!
في تقديري أن توسع مفهوم الجهاد في ذهن العرب حتى ضاق في القتال هو ما تسبب في تلك الفتن المتعاقبة التي ألمت بالمسلمين منذ وفاة الرسول وإلى الآن، فقديماً عندما قاتل عليا معاوية والعكس كان تحت راية الجهاد، وكذلك فعل الخوارج حتى سموا أنفسهم.."بالشُراة"..أي الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة..وهي أعظم القيم وأرفعها في الجهاد، أن المقاتل عن خلفية دينية يعتقد أنه يُرضي الله..وهذا غير صحيح..ليس شرطاً وإلا فكيف نصف حروب الجمل وصفين والنهروان ؟.بل كيف نصف حروب القرامطة والزنج والحشاشون وهم من رفعوا راية الجهاد في وجه المسلمين ؟..وكيف نصف أفعال القاعدة وداعش والإخوان اليوم ؟!!
نعود إلى رواية الزهري..فهو يقول أن أفضل الناس هو المجاهد في سبيل الله، ثم من يتقي الله ويعزل نفسه عن الفتن ويريح الناس من شره، هذا هو المعنى المستفاد من الرواية، وهو ما علق عليه بدر الدين العيني في عمدة القاري قائلاً:.." وفيه: فضل العزلة والإنفراد عند خوف الفتن على المخالطة، وأما عند عدم الفتن فقال النووي مذهب الشافعي وأكثر العلماء: أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل"..(عمدة القاري 14/84)..والمعنى أن ظاهر الكلام هو عدم الوقوع في الفتن والصبر عن الخوض في أعراض ودماء الناس..
وكلام بدر الدين العيني هو إدانة لابن شهاب الزهري وكافة رواة ومخرجي الحديث، لأنه يثبت قصدهم الجهاد بالقتال من وجهين:
1-الفصل بين الجهاد والعُزلة واعتبار الجهاد أفضل، وهذه قرينة على أن المخصوص من الجهاد هو القتال عند ابن شهاب..وليس المعنى الأعم الذي يشمل الصبر ومقاومة النفس ومجاهدتها عن المعاصي.
2-ما رواة ابن شهاب سابقاً أن أفضل الأعمال هو الإيمان ثم الجهاد ثم الحج، وفصل ابن شهاب هذا يعني أن الجهاد لديه هو القتال.. وإلا فما معنى حديث عائشة في البخاري أنها قالت.." يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لكن أفضل الجهاد حج مبرور»..(صحيح البخاري 4/15)..فلو كان الجهاد لديه غير القتال ما فصل بينه وبين الحج وقد روت عائشة أنهما واحد..!
عموماً هذه الرؤية للحديث لم تُعجب ابن حجر في فتح الباري(1/69) ، ورفض أن يكون المقصود من الحديث هو الاعتزال عن الفتن، ووافقه ابن رجب الحنبلي في فتح الباري أيضاً..(1/106)، وقد سبق لنا القول بأن مذهب ابن حجر هو عدم القعود في الفتن،وقلنا أن ذلك من وصايته على الناس وحضهم على التناحر والتقاتل والسبب كما أوضحنا هو الدفاع عن طرفي الفتنة الكبرى أن لا يسقطهم ذلك من أفضل الأعمال وأفضل الناس حسب مذهبه.
الخلاصة:أننا في تلك الدراسة لم نتحدث في علوم السند والرجال وجرحهم وتعديلهم والسبب أن هذه العلوم –لدي-بحاجة إلى تجديد كامل وشامل على طريقة.."إنسف حمّامك القديم"..ففي تقديري أن علوم الحديث كونها قائمة على السند والرجال فهي علوم غير نزيهة، كونها تضبط النصوص حسب معايير الثقة، وهو ما تسبب في شيوع الوضع والكذب على رسول الله، وقد ظهر اختلاف المحدثين والفرق حول الرجال، وهذا دليل على أن حصر ضوابط النصوص في الرجال والثقة فيهم وفي كفاءتهم هو خيار غير سليم.
فقط اكتفينا بالتعرض لمتون ابن شهاب وبيان اضطرابها وتعارضها مع كلا المصدرين القرآني والعقلي، وعليه يسقط الزعم أن روايات ابن شهاب هي من السنة، ولو كانت فالسنة متعارضة متشاكسة لا يجوز الوثوق فيها ، علاوة على بيان توجيه العلماء والشراح للمتون حسب مذاهبهم وطُرق أفكارهم..فمثلاً هذا الحديث لابن شهاب اختلف في تأويله الشراح فوقف ابن حجر وابن رجب مقابل القسطلاني وبدر الدين العيني، وقد كان اختلافهم عظيماً لما سينبني عليه بعد ذلك.
فتأويل العيني والقسطلاني أن ظاهر الحديث يخص الاعتزال عن الفتن يعني أن طرفي الحرب في الفتنة الكبرى لم يكونوا أفضل الناس، رغم يقيني بأن ذلك ليس مذهب كلا الرجلين، ولكنها إشارة إلى أن التفكير بالمذهب غالباً ما يورط صاحبه ويوقعه في التعارض وقبول المتناقض، وفي تقديري أن حديث ابن شهاب كان عن محاولة لفهم الجهاد من القرآن حسب ظروف عصره، وقد علمنا أن عصر ابن شهاب كان عصراً للغزوات والحروب الأموية سواء ضد المسلمين.."الشيعة والخوارج"..وغير المسلمين.."الروم والفرس"..وبالتالي كان الأمويون بحاجة إلى فقهاء يحضون ويحرضون الناس على الجهاد وعلى التضحية بالغالي والنفيس، فلم يجدوا أفضل من تأويل الجهاد في القرآن أنه الغزو والحرب ونسب ذلك لرسول الله زوراً وبهتانا.