1 ـ المقال السابق أحدث ردود فعل مختلفة . كتب الدكتور )عثمان محمد على ( مقالا عبّر فيه عن رؤية الأب الذى يملؤه الحرص والخوف على أولاده ، وكتبت تعليقا على مقال د . عثمان . ثم جاءتنى الرسالة التالية بوجهة نظر مختلفة أحببت أن أفرد لها هذا المقال نظرا لأهميتها . صاحب الرسالة يخاطب الابن من زاوية لم تخطر على البال . يقول له :
2 ـ أنت تعيش فى أمريكا بدون مشاكل ، واللى بيعيش بدون مشاكل يكبّر ويضخم أى حاجة ويعملها مشكلة ، ويحولها الى أزمات وينسى يحمد ربنا على النعمة اللى هو فيها . هذا نوع من كفران النعمة . يبدو أنك من اسرة مترفة كانت صاحبة وضع مستريح فى مصر ثم هاجرتم لأمريكا بحثا عن وضع أفضل وأكثر راحة ، لم تجربوا الشقاء الذى يعيش فيه تسعين فى المائة من المصريين ، وعندما ذهبتم الى أمريكا أصبحتم مشكلتكم أن يعاملكم أبوكم بالمعاملة الأمريكية ، ونسيتم أصلكم المصرى ، ونسيتم أن معظم المصريين تحت خط الفقر ، وأن الشباب عاطل وبدون امل وأنه بيضحى بحياته ويركب سفينة وممكن يغرق ، ومش مهم . المهم انه يوصل الى شواطىء إيطاليا ليعمل فى أحقر المهن ، وهذا أفضل له من جحيم الحياة فى مصر .
تقول انكم تركتم مصر من عشر سنوات ، وأقول ان مصر من عشر سنوات هى جنة بالنسبة لمصر اليوم . اليوم وصلت المعاناة الى كل الأحياء الراقية . يعنى لو كنتم بتعيشوا فى المعادى أو الزمالك أو مصر الجديدة ، فالتلوث واكوام وجبال الزبالة وصلت هناك ، والسادة المستريحين هناك لم يعودا آمنين على أنفسهم لو راحوا الى سهرة أو عشاء فى مطعم فاخر ، لأن الانفلات الأمنى أصبح لا يفرق بين الأحياء الغنية والأحياء العشوائية . فلتحمدوا ربكم أن هيأ لكم أن تتركوا مصر لتنعموا بأمريكا التى هى حُلم كل مصرى وكل عربى ومعظم سكان العالم . أنتم تعيشون فى نعمة لا تحسونها ولا تقدرونها .
واضح انك شاب تحت العشرين . لماذا لا تفكر فى أمثالك من الشباب فى نفس سنك ومن هم اصغر منك ومن هم أكبر منك . فى مصر الشباب الجامعى تائه فى الصراع بين الاخوان والنظام ، إما ان يكون مع هذا او هذا ، ولو اختار الابتعاد فهو مهدد بأى طلقة رصاص تأتيه فى الجامعة أو فى أى ميدان ، ولو تخرج من الجامعة فليس له مستقبل ، هو يحلم فقط ان يهاجر الى اوربا ان يعمل فى السعودية والخليج و يلقى الذل . البنات فى مصر لا يجدوا فرصة للزواج ، ولو خرجوا للشارع فالتحرش فى الانتظار . وهناك عقوبة بالسجن على المتحرشين فى القانون الجديد ، واقطع دراعى انها سيطبقها النظام على الابرياء واعداء النظام . يعنى واحدة تشكى فلان انه عاكسها ومعها شوية شهود وتوديه السجن . النظام بيحل الازمات بالعقوبات كالعادة . مع ان حل مشكلة التحرش بالزواج وتشغيل الشباب بدلا من تركهم صايعين فى الشوارع والسكك من غير شغلة ، وحل مشكلة الاسكان والبطالة ، وحل التفاوت الفظيع فى المرتبات من اللى مرتبه مليون فى الشهرالى اللى مرتبه اقل من الف جنيه . أنا موظف من ربع قرن ومرتبى الف وتمنميت جنيه فى الشهر ولولا انى ساكن فى بلدنا وموظف فى مدينة قريبة كنت حأشحت أنا وأولادى اللى نفس عمرك .
انت كنت طفل صغير فى مصر وسط ابوك وامك . ومن عشر سنوات كانت فيه مشكلة اطفال الشوارع . النهارده اطفال الشوارع ماليين شوارع القاهرة والمدن الكبرى . هم اطفال مالهومش ذنب . منهم أيتام ومنهم أطفال رماهم أهلهم فى الشارع لانهم مش قادرين يصرفوا عليهم . إيه الفرق بينك وبينهم سوى ان حظك حلو وانت فى نعمة ، وهم غلابة مالهومش ذنب . إنت مشكلتك ان بابا مش بيقرب منك وهم مشكلتهم ازاى ياكلوا مرة او مرتين فى اليوم وازاى يناموا فى الشارع متغطيين باى حاجة تدفيهم وازاى يحموا انفسهم من كلاب السكك والمغتصبين والعصابات ومنهم بنات صغار . هل فكرت فى الاطفال دول وانت فى امريكا وحمدت ربنا اللى مش خلاك منهم
. وهناك زملاتك فى المدرسة لو كنت لسه فى الثانوى . وافكرك بالمدرسة الاعدادى والثانوى فى مصر لو نسيت .. الفصل ضيق زى علبة السردين ومفيش انشطة ولا تختة مريحة ولا شرح من المدرس ولا ملاعب ولا مكتبات ولا ترفيه ولا تغذية . ما فكرتش تقارن بين مدرستك الامريكية وبين المدارس المصرية حتى لو كانت مدارس خاصة من اللى كنت بتتعلم فيها .
انت مع اسرتك تلاقيك زهقت من اللحم والفواكه والحلويات . وتسعين فى المية من المصريين واحنا منهم بياكلوا زبالة اللحوم وزبالة الدواجن المسرطنة ، والفاكهة عندهم من الممنوعات والحلويات الغالية ياكلوها فى الاحلام وبس .. هل فكرت فى النعمة اللى انت فيها وبؤس اهلك المصريين ؟ هل تحمد ربنا على اللى انت فيه ام تتبطر على النعمة وعايز بابا اللى انقذكم من جحيم مصر يسيب شغله ويطبطب عليك .؟
أحب اقول لك ان الشاب المتدلع زيك اللى عايز كل حاجة تيجى له وهو فى مطرحه . اللى زيك ما يفكرش الا فى نفسه وانانيته ممكن تيجى له أمراض نفسية . اما الشاب المسكين اللى مش لاقى شغل واللى بيجرى على اى شغلة توكله وتستره مستحيل تيجى له امراض نفسية لأن مش عنده وقت .! انت عندك وقت تتدلع فيه وتتبغدد وعايز من ده ياماما وعايز بابا يجيب لى ده يا ماما ، وبابا بيشخط فىّ يا ماما .. ولما تكبر بالطريقة دى حتكون طفل طول عمرك على كتف الماما ولا يمكن تبقى راجل زى ما ابوك عايز .
لو تركنا مصر والبؤس اللى فيها واللى ربنا انجاك منه ورحنا الى سوريا .. تخيل نفسك فى سوريا .. فى حلب او حمص ، والضرب عليك من هنا ومن هنا ، وتخيل نفسك مع اسرتك لاجئين فى معسكرات السوريين فى الاردن والعراق ولبنان ، أو مشردين فى مصر ..الناس السوريين دول ايه ذنبهم ؟ ذنبهم انهم سوريين يا عينى . حظهم اسود لانهم سوريين ، وانت حظك ابيض لانك مش بس مصرى بل مصرى وبقيت امريكى . هل فكرت فى هذه النعمة ؟ هل شكرت ربنا ؟ ولّا لسه عايز بابا يطبطب عليك وعايز امك تمسح دموعك ؟
بلاش سوريا وليبيا وتونس وكل بلاد الربيع العربى اللى تحولت الى ميليشيات وفوضى . نرجع تانى لمصر . أنا أثرت فىّ كلمة قالها الدكتور أحمد منصور فى التعليق على مقالة د عثمان محمد على . وانا اتفق تماما مع مقالة الدكتور عثمان لكن كلمة الدكتور أحمد فى تعليقه هزّتنى . قال انه وهو فى مصر كان قاسى فى معاملة أولاده لأنه كان خايف عليهم ولأنه كان بيعانى من الاضطهاد . انا نفسى انه كان يشرح النقطة دى اكتر واكتر . إزاى الأب اللى بيعانى من الاضطهاد والخوف من النظام ومن المتطرفين يبقى ما عندوش وقت يقعد فيه قعدة صفاء مع اولاده .
أحب أقول لك يا ابنى إن ده احساسى انا كاتب هذه الرسالة ، أتمنى أن أجلس مع ابنائى نضحك ونتآنس ببعضنا ، ولكننا نخشى أن نضحك لأنه ( فال ) سىء ، ونقول ربنا يسترها . أنا ضمن آلاف القرآنيين . صحيح ما قابلتش الدكتور احمد منصور ، لكن طول لسانى فضحنى فى بلدنا ، ومن عشر سنين وأنا زبون أمن الدولة وضحية للسلفيين والاخوان ، دول ودول بيتسلوا علىّ ، وزى كل القرآنيين فى مصر ضاقت علينا الأرض بما رحبت ، واصبحنا محصورين ، وبدون أمل . اولادى اللى زيك فى السّن بيحلموا فى المستحيل ، يروحوا أمريكا ونكون جنب الدكتور أحمد منصور ونخدمه بعينينا . لكن دى أحلام مستحيلة . حتى الهجرة لأى بلد نعيش فيه فى أمن ومن غير اضطهاد ، ونعيش نشتغل وناكل ونشرب فى أمان .. هذا أيضا مستحيل .. نروح فين ؟ زينا زى الأقباط الفقراء فى الصعيد اللى بيتسلى عليهم السلفيين والاخوان يخطفوا بناتهم وأولادهم ويطلبوا منهم الفدية والجزية ، ولا احد يهتم بحمايتهم لأنهم غلابة . وزينا زى البهائيين اللى طردهم السلفيين من المنيا وخلوهم يروحوا الاسكندرية . طيب البهائيين دول اغنياء يقدورا يعيشوا فى الاسكندرية ، يبقى القرآنى اللى زينا يقدر إزاى يلاقى سكن ويعيش فى الاسكندرية أو القاهرة . أحلف لك يا ابنى اننا نعيش فى ضنك مالوش نهاية . عشان كده رسالتك اللى نشرها وعلق عليها الدكتور أحمد منصور حسستنا بأنك مصرى زينا بس بتعيش فى كوكب تانى اسمه أمريكا وكمان مش عاجبك .
يا ابنى احمد ربنا انك مش ابنى كنت بقيت فى أسوأ حال زى أولادى هنا . ربنا يهديك ، وتبوس ايد ابوك ليل ونهار ، وتحمد ربنا اللى نجاكم من مصر وقرف مصر .
التعليق
هذه الرسالة الصادقة المؤلمة أدخلتنا فى موضوع مختلف تماما ، نسيناه مع الأسف الشديد . أقدم أسفى واحترامى لأهل القرآن فى مصر ، ولكل المستضعفين الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها . أدعو الله جل وعلا أن يحفظهم وأن يحميهم وأن ينجيهم . آسف إذ ليس لدى سوى الدعاء لهم . لا أملك غير هذا . وآسف إذ نسيت معاناة المستضعفين ، وآسف على قلة حيلتى .
والله جل وعلا هو المستعان