لماذا الحرية أولاً؟

سامح عسكر في الأحد ٢٣ - مارس - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

لو أن مسجوناً في مكان هل له أن يتحرك أكثر ممن كان خارج السجن؟..الإجابة بدهية وهي أن الإنسان الحر يمتلك مساحة أكبر للحركة من المسجون؟..وعليه ينشأ سؤال آخر، لو كان الإنسان الحر يمتلك مساحة أكبر فهل هذه الحركة ستؤثر في معرفته كماً وكيفا؟..لا توجد إجابة نهائية لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يتجاوز بعقله حاجزي الزمان والمكان، وعليه يمكن معه أن يكون المسجون أكثر معرفةً من الحُر، فالإنسان وصل بعقله إلى المريخ دون أن يسافر، ووصل إلى المجرات دون أن يراها، وتنبأ بمستقبله دون أن يحسّه..

ولكن ثمة اعتراض على هذا وهو أن الحركة للإنسان الحر تسمح له بقدر من التواصل أكثر من اللاحر، والتواصل هو تصرف معرفي بالأساس، كون معرفة الإنسان بنفسه مشروطة بمعرفته للغير والعكس، لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يعيش وحده في هذا الكون، ولو كان وحيداً في عالمه ما كان له أن يعرف خلاف نظريات حي بن يقظان وغيرها، فالمعرفة هنا ليست ذاتية بل موضوعية كونها ترتبط بالحس والخيال والعقل، وكل هذه ملكات معرفية ترصد العالم الخارجي، فلو لم يكن الحس-مثلاً-ما كان للإنسان أن يرى ويسمع... الأشياء من حوله، ولو لم يكن الخيال ما كان له أن يعرفها، كون معرفة الأشياء تلزمها صور قديمة في الذاكرة، ولو لم يكن العقل ما كان له أن يفهم العلاقة بين هذه الأشياء والمخلوقات من حوله..

هكذا فالمعرفة مرتبطة بمعرفة الآخر بالعموم، وأما دور الذات فهو للتفريق بين حقائق هذه الأشياء وأوهامها، وبدون الأشياء لن يكون هناك تفريقا وستنعدم سلطة الذات ومعرفتها، ويرجح ذلك أن علاقة الإنسان بغيره تكون عبر وسائل مساعدة، فعندما تنبأ بمستقبله كان عن رؤيته لواقع حسي وعقلي، وهذا الواقع هو ما يساعده على التنبؤ أو ما أسميه بعالم الأفكار في الذهن وعلى الأرض، ونفس الحال عندما وصل إلى المريخ والمجرات إضافة إلى أدوات اتصاله تُصبح هذه الأدوات وسائل مساعدة للمعرفة كماً وكيفا.

هكذا فالمعرفة تكون بالتواصل ومعها كلما تزيد الحركة كلما يزيد معدل التواصل وبالتالي تنمو معرفة الإنسان، ولا يوجد تواصل بدون مساحة أكبر للحركة يستطيع الإنسان من خلالها معرفة الأشياء، وحينما يكون مطلب زيادة الحركة ومساحاتها يتبادر إلى الذهن فوراً معاني الحرية، إذ كيف ستزيد الحركة بدون قيود، فالحرية هي التي تسمح بالتواصل والمعرفة على هذا النحو.

لذلك-وفي هذا السياق-أرجح أن يكون مبدأ الحرية قبل كل شئ كونه يساعد على زيادة المعارف، وبالتواصل الذي يعمم ثقافة السلام، وفي تقديري أن الديمقراطية الليبرالية قامت على هذا المبدأ وبنفس الحُجج والبراهين، وعليه تكون كافة الإشكاليات على الليبرالية أو الديمقراطية هي في تقديري إشكاليات وشبهات على الحرية بالتبعية.

ومن هذه الإشكاليات ما يُعرف.."بالطبيعة الإنسانية"..كون هذه الطبيعة تحوي مجموعات من المصالح والأهواء والعواطف والنزعات المقدسة، إضافة إلى ما يرافقها من تفكير نسبي يضع مبدأ الحرية وفق تقدير ذاتي قاصر عن معرفة الآخر وحقوقه، لذلك كانت الحرية في أعراف الدول منصوصة وفق قوانين ملزِمة تنظم العلاقة بين الناس في إطار الدولة، وإلا أصبحت الحرية في ذاتها قانوناً عاماً ومعياراً يُقاس به تقدم الأمم وانحطاطها، والدليل على ذلك أن شعوباً فرضت قيوداً على الحرية لكن لم يمنع ذلك من تقدمها ، حتى التاريخ يشهد-وفق المنطق التجريبي- أن أحداثاً سياسية فارقة مثّلت لدى البعض قمة من قمم الظلم والاستبداد هي –في نفس الوقت-كانت محوراً عند آخرين في التقدم والنهوض.

كمذبحة المماليك في مصر-مثلاً-البعض يراها خيانة سياسية واستبداد وجريمة بشرية عظيمة، ولكن البعض الآخر يراها أنه لولا ما كانت تلك المذبحة أن تقوم دولة محمد علي أو أن يبني الرجل دولة مصر الحديثة، وهذا يردني إلى المبحث السابق بعنوان.."لماذا الديمقراطية أولاً؟"..والذي قلت فيه أن على من يُطالب بالحرية أن يلتزم بعض الشروط كي يحقق معنى الحرية، ومنها السلمية والشراكة وعدم التخوين وبناء الثقة والرد على المخاوف، وبالتالي يكون ندائه بالحرية محصور وفق مطالبته بحقوقه دون المساس بحقوق الآخرين.

وتلك هي أعظم إشكالية على الحرية أن تمارسها دون الانتباه للطبيعة البشرية وأهوائها ومصالحها، فتلك الطبيعة تفرض في النهاية غُلافاً على النفس يضع القيم رهينة للمصالح الآنية والشخصية، كل ذلك من أثر الجهل أو كون هذا الغلاف هو عن ردود أفعال على هواجس ومخاوف أحياناً.

ولكن تبقى الحرية في النهاية قيمة ليست فقط إنسانية أو اجتماعية بل هي قيمة دينية، كون الأديان ترفض مبدأ العبودية للمحسوسات، وتجعل الآلهة في حلٍ عن وجود الإنسان وبيئته، حتى من يصنع صنماً أو وثناً لإلهه هو يعتقد أن هذا الإله يعيش خارج العالَم ..أو بمعنى أدق هو الذي يتحكم فيه، لذلك خرجت الحرية عند المتدينين قيمة دينية أصيلة ترفض تبعية البشر للمخلوقات، مع التنويه أن مبدأ الحرية هذا لا يخص كهنة الأديان وأحبارها وقساوستها وشيوخها ورهبانها، كون هؤلاء يجعلون الحرية وفقاً لمصالحهم وحدود أفهامهم النسبية والتي تحدثنا عنها في السابق بالطبيعة البشرية وظهر لنا أن تلك الطبيعة هي أكبر شبهة على الحرية.

تبقى الأسئلة حول تعريف الحرية هل هي أن نفعل ما نريد أم أنها محصورة بحقوق الآخرين، وفي تقديري أن الإجابة مرتبطة بالواجبات والشروط المفروضة على من ينادي بالحرية، والتي طرحنا جزءاً منها في تلك الدراسة والدراسة السابقة عن الديمقراطية، إضافة إلى الطبيعة الإنسانية وكونها تضع الحريات مهب تقدير الإنسان داخل عقله القاصر وعواطفه ومصالحه، كمثال من يقتل إنساناً آخر بدعوى الدفاع عن دينه، هو بذلك يرى أن جريمته من منطق حريته في الدفاع عن مقدساته، فلو ما أجرى مراجعات ظهر له خطأ هذا الفعل، وأن اعتقاده السابق بالحرية كان عن جهل أو محكوماً بالعواطف والأهواء.

وهذا يعني أن جواب سؤال.."لماذا الحرية أولا؟."..محصور في جواب ما هو؟..أي ما هو معنى الحرية المقصود، هل تقصد الحرية السلوكية داخل إطار الدولة وفق قوانين، أم هل تقصد الحريات الشخصية المادية كحرية الطعام والشراب واللباس، أم تقصد الحريات الدينية والفكرية، أم تقصد أن الحرية تعني الحقوق، وبالتالي تبحث عن الحقوق الخاصة بك أولاً دون اعتبار بحقوق الآخرين، هنا تتعارض معاني الحرية ولكن أرد تعارضاتها في المجمل إلى تفكير الإنسان النسبي، وتبقى معها الحرية قيمة مطلوبة أولاً، ولكن دون أن تكون معياراً للصلاح والفساد.

ففارق أن تكون الحرية مطلوبة كحق إنساني داخل المجتمع، وأن تكون هذه الحرية معيارا ...حينها تصل معاني الحرية لدرجة من درجات التطرف في الرأي والسلوك،وقد تتجاوز حدود وآداب المجتمعات، بل قد تتجاوز الدولة نفسها وتقضي عليها مثلما حدث في سوريا، أن تُصبح الحرية ذريعة وحجة لتدمير المجتمع ودولته، وتقضي فيه على أبسط حقوق العيش الكريم والآمن، لذلك أميل إلى أن تكون الحرية قيمة مطلوبة كون أفعال الإنسان ومنتجاته نابعة من إرادته الحرة، فلو جرى الاهتمام بتلك الإرادة وتطويرها-بحيث لا تتعارض مع مفاهيم المجتمع والدولة-كانت الحرية مطلباً وجودياً بدونه تفنى المجتمعات نتيجة للصراع الناتج عن الطبيعة الغرائزية للإنسان.

اجمالي القراءات 11136