حاكمية التفكير البدائي

سامح عسكر في السبت ٢١ - ديسمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

في فلسفة التاريخ تتنوع المقدمات فتتنوع النتائج، ولكن لو توحدت المقدمات ثم اختلفت النتائج يحتار الإنسان ويسأل ماذا حدث؟..ولنضرب مثلاً بشيوع إحدى الأساطير في مكانٍ ما، وليكن أن وحشاً خفياً سيظهر في المكان الفلان، هذه مقدمة سلبية قد تُنتِج فقراً معرفياً أو هواجس واضطرابات عصبية وخوف سيؤثر في معدل الثقافة والإنتاج، وهو مع ذلك يُشكل كينونة عامة يألفها الإنسان ومن ثم يقبلها على حالها، ولكن في نفس الوقت قد تُنتِج دافعاً لقهر هذه الأسطورة والبحث في حقائقها وما يتعلق بها من نتائج لا تُرضي الباحثين، وهذا هو التنوع الذي في تقديري هو لازم كل مقدمة سلبية، وينطبق الحال على المقدمة الإيجابية فهي لا تشترط بلوغ النهضة والعلم، إذ كان وجودها يخلق دافعاً للتخلف والوهم.

هذا ما أقصده بأن هناك وجوداً للتفكير البدائي في عقل الإنسان، وهو التفكير الذي يشدّه إلى الوراء، حتى أنه وكلما ظنّ الإنسان تقدمه يجد نفسه يتخلف، إنها قوة الميثولوجيا وعلاقتها بالطبيعة ومدى إدراك العقل لها، أو التفاعل معها، أو القضاء عليها، هو تفكير له حاكمية في البُعد المكاني أكثر من الزماني، ففي داخل المكان تتنوع مصادر الجهل والتخلف كالعادات والمحظورات ومن ثم غياب العقل الناقد، ولا يشترط ذلك الزمان أن يُوجد في مكانٍ آخر بنفس الأوصاف، فهناك أماكن تعرف قيمة العلم، وأماكن أخرى تجهل قيمة نفسها أصلاً.

لذلك تبدأ حاكمية ذلك التفكير من المكان وتتوغل داخل الزمان، شرط أن لا تُوجد قوة ناقدة تتصدى له تصدياً يحمله على التراجع، إنه العقل البدائي صاحب الكلمة العليا في انهيار الحضارات، وفي شيوع التخلف والجهل.

قديماً عند المسلمين-وإلى الآن- حدث وأن شاع هذا التفكير عدة مرات، وبفضل شيوعه ضَعُفَ العقل الناقد ذلك العدو التاريخي والأبدي للعقل البدائي، فتم نزع مقومات الحضارة عن سياقاتها في التاريخ ووضعها في سياقات أخرى تخدم ذلك العقل، مثلما جرى من انتساب قسري لحضارة المسلمين إلى من يُعرفون.."بالسَلَف"..والمقصود منهم أهل الحديث والرواية أو الحنابلة، رغم أن الأسماء المطروحة كانت تُعادي ذلك العقل الروائي والتفكير البدائي بالكُلّية، من أمثال هؤلاء هم.. الحسن ابن الهيثم والبيروني والجاحظ والخوارزمي وابن حيّان والرازي والفارابي وابن رُشد وغيرهم، هؤلاء الذين صنعوا الحضارة، كانوا ضد منهج الحديث واعتباره ديناً وتشريعاً عن الإله، واعتبروا أن ما جرى في الحديث هو مجرد أكاذيب وأوهام بشرية دخلت في الدين عنوة وأصبحت من المُسلّمات، رغم أنها في النهاية مجرد أكاذيب وأوهام لا تُقنع العقل.

ولكن بشيوع –أو بعودة-التفكير البدائي للمسلمين شاع أن هؤلاء والسَلَف واحد، رغم أن السلف كفّروهم ولعنوهم لمجرد تحكيم العقل الناقد، وهذا يعني أن من يُعرفون بالسلف كانوا بدائيين ذوي عقل بدائي، وأقصد هنا من كتب الحديث الذي صار ديناً عند المسلمين، ولا أقصد جيل النبي والصحابة وآل بيته، فالوارد عنهم من أخبار لا أثق فيه، وأجعله مجرد فرضيات أو روايات تخدم مذهباً بعينه دون آخر، وقصة المذاهب في الإسلام هي أبرز تجلي وأوضح دليل على حاكمية التفكير البدائي، فكلما شاع هذا التفكير كلما انقسم المسلمون إلى فِرق ومذاهب، وإلى الآن لا زال البعض يخرج باجتهادات في الدين لا تخرج عن ما تعارف عليه المحدثون، فتكون النتيجة هي مزيد من التفرق والتكلّف في أمور الدين، بل ويُناقشون مسائل هي في غاية الانحطاط والبلاهة لا تعبر عن مشاكل المسلمين ، بل تُعبّر عن واقعهم البدائي الذي يُسلّم لمثل هذه المناقشات ويعتبرها فتاوى دينية هامة.

مثلما كانت للمُعادلات الكيميائية عوامل مساعدة على التفاعل فالتفكير البدائي له عوامل مساعدة على التألق والبزوغ، من أهم هذه العوامل هي .."التقليد"..إذ نعود إلى حاكمية العقل البدائي داخل المكان، فالبشر ينزع نحو التقليد، لأن تكوينه العقلي والبُنيوي يألف لرؤية الناس ويطمئن للبعض منهم، وبمجرد الاطمئنان تأتي بوادر الثقة واليقين، وتلك مراحل التقليد، الذي يقوم على سيطرة بعض الناس على أناسٍ آخرين، ومُجمل الوسائل التي تساعد في تلك السيطرة هي ما نسميها.."بالسياسة"..ومنها الخَطابة وحُسن المعاملة والانفتاح، كل ذلك يُساعد في عمليات السيطرة، ومن ثم شيوع التقليد ومعه ينتشر ويسود العقل البدائي الذي يتغذى على التقليد كأساس، وليس شرطاً أن يكون المقلد على صواب كي لا يكون بدائيا، فقد يكون صائباً ولكن بدائيته تحمله على التقليد فيرفض أي حُجة جديدة وأي دليل عقلي مهما كان صحيحاً.

كذلك الأيدولوجيا الحِزبية فهي ترتبط بالتقليد من جهة المنافع والاتساق العقلي المنطقي، لذلك فهي تساعد على تقوية العقل البدائي، بل وفي تقديري أن تأثير الأيدولوجيا في خدمة البدائية أقوى من حيث المفهوم، حيث أن التقليد يُعتبر جزء من الكل الأيدلوجي لا يقف عند حدود التقليد الشكلي، بل يتعداه لمسائل التنبؤ ومن ثم تكوين الأهداف المرحلية أو العامة، وربما تسكن الأيدولوجيا مرحلة من الزمن تكون فيها ضعيفة وتدعو لنفسها على مهل وبخفوتٍ تام بعيداً عن الأضواء، ثم لا تقف موقفاً من النقد كونها تؤمن بأن معركتها مع النقد لم تبدأ بعد، لكن لو شعرت الأيدولوجيا بقرب تحقيق أحلامها وتنبؤاتها صارت تُعادي النقد وتنتصر للبدائية بطريقة متوحشة.

وقد حدث ذلك مع جماعة الإخوان في مصر، ولن أشرح ماذا حدث بالتفصيل إذ تعرضت لما كان بأكثر من طريقة، وقد رآه العالَم بمناظير متعددة، فقط يكفيني هذا التفسير العقلي أعلاه، والذي يشرح لماذا تخدم الأيدلوجيات الحِزبية-كالإخوان-التفكير البدائي، وتنتصر له بطريقة متوحشة كونه يعود بهم إلى أصول المنهج والمذهب، وهو الغاية لديهم من تحقيق أهدافهم وتنبؤاتهم، مثلهم مثل أي جماعة أيدلوجية تُفكر بالبُعد الزماني أكثر من المكاني، ثم إذا شَعُرت باقتراب السيادة وتحقيق أحلامهم انتصروا فوراً لصالح البُعد المكاني كونه أصبح متاحاً السيطرة عليه، فالأيدولوجيا تخدم التفكير البدائي وحاكميته من جهة السيطرة، كونها تقوم على التقليد، ولو لم يكن تقليداً لانهارت الأيدولوجيا لصالح العقل الناقد.

اجمالي القراءات 10929